فقهاء المغرب ومعارك العدالة والكرامة

فقهاء المغرب ومعارك العدالة والكرامة
هوية بريس – متابعات
كثيرا ما يردد بعض الخطاب العلماني أن العلماء لا يهتمون إلا بقضايا المرأة أو الجدل حول الحلال والحرام، وأنهم ينعزلون عن الناس ومشاكلهم اليومية من فقر وبطالة وغلاء أسعار وتضخم وفوارق اجتماعية، لكن هذا الادعاء لا يصمد أمام قراءة تاريخية جادة.
فقد كان علماء المغرب على مرّ العصور حاضرين إلى جانب المواطن في همومه اليومية، سواء تعلق الأمر بالقضايا العقدية والسلوكية، أو بما يخص معاشه واقتصاده وعدالته وكرامته. لقد شكلوا على الدوام صوت الضمير الحي، ومصدرا للإصلاح الاجتماعي والسياسي، وموجِّها للحكام والمجتمع على السواء.
العلماء في مواجهة الاستعمار
خلال مرحلة الحماية الفرنسية، برز علماء المغرب كقادة للرأي وموجّهين للناس في مواجهة الاحتلال. فقد أدركوا أن العدالة تقتضي مقاومة الظلم الخارجي، وأن الدفاع عن الأرض والهوية والدين واجب شرعي لا ينفصل عن مقاصد الشريعة.
ومن بين هؤلاء عبد الله كنون الذي أكد في كتابه النبوغ المغربي في الأدب العربي أن النهضة الفكرية شرط للتحرر الوطني، والمكي الناصري الذي جمع بين الوعي الديني والنقد الحضاري في كتاباته مثل الإسلام والغرب، إلى جانب أحمد بنشقرون الذي لعب دورا بارزا في تأطير الوعي الجماعي. لقد كان موقفهم واضحا: مقاومة الاحتلال ليست مجرد فعل سياسي، بل واجب ديني لتحقيق العدل.
ومع بزوغ فجر الاستقلال، لم يتراجع العلماء عن دورهم الإصلاحي، بل تحول اهتمامهم إلى مراقبة السياسات العامة وتوجيهها بما يخدم مصالح الأمة. فقد دعوا إلى ترسيخ العدالة الاجتماعية بين مختلف الفئات، محذرين من الاستبداد واحتكار الثروة. وكان المكي الناصري يؤكد في خطبه وكتاباته ضرورة احترام حقوق العمال والفلاحين باعتبارها جزء من مقاصد الشريعة، فيما شدد عبد الله كنون على أن أي إصلاح لا يجعل كرامة الإنسان في صلب أولوياته يظل ناقصا وغير مكتمل.
توصيات العلماء وقضايا العدالة الاجتماعية
جاءت توصيات العلماء في مؤتمراتهم لتكشف انشغالهم العملي بمشاكل المجتمع. ففي المؤتمر الرابع لرابطة علماء المغرب المنعقد بمراكش سنة 1971 صدرت دعوات صريحة لتعميم المستشفيات والمستوصفات وضمان مجانية العلاج وتأميم صناعة الأدوية لتكون في متناول الجميع.
كما شددوا على ضرورة توفير فرص العمل للعاطلين، وضمان أجر عادل وتعويضات اجتماعية للعمال والفلاحين، وتوسيع نظام الضمان الاجتماعي ليشمل الفئات الضعيفة. وفي الجانب الاقتصادي دعوا إلى تحريم المعاملات الربوية، وإنشاء نظام مصرفي إسلامي، وجباية الزكاة وتوزيعها بما يحقق الكرامة للفقراء، إلى جانب مواجهة الفساد المالي والإداري والتبذير في المال العام.
لقد أكد العلماء أن الكرامة الإنسانية أصل مقاصدي ثابت في الشريعة، وأن الإنسان مكرم لذاته لا لمركزه الاجتماعي. وقد انعكس هذا الوعي في فتاواهم ومؤلفاتهم التي تناولت قضايا المرأة والأسرة والفقراء، كما فعل المكي الناصري في الإسلام والنظام الاقتصادي. ومع انفتاح المغرب على المنظومات الحقوقية الدولية، شدد علماء مثل علال الفاسي في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها على أن العدالة والحرية والكرامة ليست مستوردة من الغرب، بل هي مقاصد أصيلة للشريعة الإسلامية سبقت في عمقها المواثيق الحديثة.
لم يقتصر حضور العلماء على القضايا الداخلية، بل امتد إلى القضايا الكبرى للأمة الإسلامية وعلى رأسها فلسطين. فقد اعتبروا نصرة الشعب الفلسطيني واجبا دينيا وأخلاقيا، ورفضوا كل أشكال التطبيع مع الاحتلال باعتباره انتهاكا سافرا للكرامة الإنسانية. وقد صدرت عنهم خطب وبيانات نُشرت في الصحافة الوطنية، تذكر الأمة بمسؤوليتها تجاه القدس وفلسطين.
آفاق الاجتهاد المعاصر
اليوم، ومع تصاعد موجات الغلاء وتراجع القدرة الشرائية واتساع الفوارق الاجتماعية، يظل العلماء مدعوين إلى تجديد خطابهم وربطه بواقع الناس اليومي. إن التحديات الاقتصادية والاجتماعية تجعل الحاجة ملحة إلى تطوير فقه معاصر يعالج قضايا الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي، ويعيد توجيه النقاش نحو مركزية الكرامة الإنسانية باعتبارها المعيار الحقيقي للتقدم. وهكذا يظل العلماء، كما كانوا دوما، ضمير الأمة الحي ومرجعيتها الأخلاقية في الدفاع عن المظلومين وخوض معارك العدالة والكرامة.



