فلسفة الأغيار التَّشْيِئ في نصوص التوراة والتلمود

16 أكتوبر 2025 09:45

فلسفة الأغيار التَّشْيِئ في نصوص التوراة والتلمود

هوية بريس – د. الحضري لطفي

مقدمة

يُعَد التَّشْيِئ من أخطر الانحرافات المعرفية–الانفعالية–الروحية في مسار الفكر الإنساني، لأنه لا يقتصر على خطأ سلوكي عابر، بل يتحول إلى منطق كامل ينسف الاعتراف بالنفخة الإلهية التي أودعها الله عز وجل في بني آدم. حين يُشيَّأ الإنسان يُنزَل إلى مرتبة الأداة أو السلعة، فتُمحى كرامته وتُلغى خصوصيته، ويُختزل في جسم أو منفعة أو وظيفة تُستعمل وتُستبدل.

وهذا الانحدار يعيد إنتاج الرؤية الإبليسية الأولى: إبليس حين أُمِر بالسجود لآدم لم يرَ فيه سوى “تراب” بلا قيمة، فقاس المادة بالمادة، وتجاهل النفخة الإلهية التي منحت آدم كرامته. قال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر: 29). من هنا يتضح أن التشييئ ليس انحرافا أخلاقيا وحسب، بل هو انحدار عقدي يُكرر منطق إبليس في حجب الروح وإلغاء الكرامة.

ورغم أن التشييئ نزعة عابرة للثقافات، عرفتها حضارات وديانات وفلسفات مختلفة عبر التاريخ، فإننا في هذا المقال سنركز على التشييئ في فلسفة الأغيار كما تجلت في التوراة والتلمود، لأن هذا التصور منح الشرعية الفكرية والدينية لنزع الإنسانية عن “الآخر” وتحويله إلى مادة قابل للإبادة.

وهذا ما نشهده اليوم في غزة: حيث يُختزل شعب كامل إلى “أرقام” في نشرات الأخبار أو “أهداف عسكرية” على الخرائط، ويُنظر إلى الأطفال بوصفهم “عِبئًا ديموغرافيا”، والنساء باعتبارهن “تهديدا سكانيا”، والرجال كـ”خطر وجودي”. إنها الفلسفة ذاتها التي حولت “الأغيار” إلى مادة، تتجدد اليوم بأبشع صورها في خطاب صهيوني يشرعن الإبادة ويُسوغها بلغة “الأمن والدفاع عن النفس”.

أما مظاهر التشييئ في الفلسفات المادية الغربية الحديثة -من الداروينية الاجتماعية إلى النفعية المتطرفة وفلسفات المتعة والجنس- فسنخصّص لها مقالًا مستقلاً يعالجها ضمن سياقها التاريخي والفكري.

التشيئ في التوراة:

لم يقتصر التَّشْيِئ على كونه نزعة فردية فحسب، بل تأصل وتجذر في نصوص وأُطُر دينية وثقافية عبر التاريخ. هذا التَّشْيِئ يتجاوز مفهوم الغنيمة أو العبودية، إذ إنه ينزع عن الآخر صفة الكيان الإنساني، ويختزله إلى “مجرد شيء” يمكن التخلص منه أو تسهيل قتله دون تبعات أخلاقية. ويتبدى ذلك بوضوح في بعض أسفار التوراة التي سنقتبس منها الأمثلة التالية.

₋ “احرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها، إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب”. سفر يشوع 6.

₋ “فأرسلت الجماعة إلى هناك اثني عشر ألف رجل من بني البأس وأوصوهم قائلين اذهبوا واضربوا سكان يابيش جلعاد بحد السيف مع النساء والأطفال”. سفر القضاة 21.

₋ “فالآن اذهب واضرب عماليق وحرقوا كل ما لهم ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا”. سفر صموئيل 1/15.

₋ “وأخرج الشعب الذين بها، ونشرهم بمناشير ونوارج (حديدة المحراث) وفؤوس، وهكذا صنع داود لكل مدن بني عمون”. سفر أخبار الأيام 1/20.

₋ “وضربوا كل نفس بها بحد السيف حرِقوهم، ولا تُبق نسمة، وأحرق “حاصور” بالنار”. سفر يشوع.

₋ “قومي ودوسي يا بنت صهيون لأني أجعل قرنك حديداً وأظلافك أجعلها نحاساً فتسحقين شعوبا كثيرين”. سفر ميخا 4/12.

₋ “ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم. أما أنتم فتُدعون كهنة الرب تُسمَون خدام إلهنا…”. سفر أشعياء 61/5.

₋ “…، اعبروا في المدينة وراءه واضربوا، لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك. ولا تقربوا من إنسان عليه السمة وابتدئوا من مقدسي”.

₋ “فابتدأوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت. وقال لهم نجسوا البيت واملأوا الدور قتلى. اخرجوا. فخرجوا وقتلوا في المدينة”. سفر حزقيال.

₋ “تجازى السامرة لأنها قد تمردت على إلهها بالسيف: يسقطون، تُحطم أطفالهم، والحوامل تُشق”. سفر هوشع 13.

₋ “ملعون من يعمل عمل الرب برخاء، وملعون من يمنع سيفه عن الدم”. إرميا 48.

₋ “طوبى لمن يمسك أطفالا ويضرب بهم الصخرة”. سفر المزامير 137.

– وفي سفر يشوع (الإصحاح 6: 21) نجد مشهد سقوط أريحا حيث “حَرموا (أبدوا) كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف”.

التَّشييئ: جذور الاستعلاء في نصوص التلمود

لإتمام صورة التَّشْيِئ، لا بد من الانتقال إلى الجذور النصية والفكرية التي أسهمت في ترسيخ مفهوم استعلاء الذات واحتقار الآخر، وهو ما يتبدى بوضوح في نصوص التلمود. إن الغاية من استعراض هذه النصوص – التي نوردها كما وثقها المتخصصون – ليست التحامل، بل كشف البُعد النفسي والمعرفي الذي يبرر عملية نَزْع الإنسانية عن الأغيار. إن هذه الأُطر الدينية تُشكل القاعدة التي انطلق منها تجريد الآخر من صفة الكيان البشري، وتحويله إلى “شيء” يُعامَل كـ “حيوان” أو “غنيمة” أو حتى كـ “هدف يسهل إقصاؤه وقتله”، متجاوزة بذلك حدود الفردية لتصبح مبدأً عقائديا منظما.

أبرز النقاط التلمودية المرتبطة بالتَّشييئ ونزع الإنسانية

تُظهر النصوص التلمودية المقتبسة تجذرا عميقا لمفهوم التَّشْيِئ عبر ثلاث مستويات رئيسية:

1. التجريد الكامل من الإنسانية (Objectification):

هذه النقاط تُجرِد الآخر من صفة الإنسان، مساوية إياه بالكائنات الدنيا أو الجامدة:

1. المقارنة بالحيوان: “الفرق بين اليهود وغيرهم هو كالفرق بين الإنسان والحيوان”.

2. تَشيئ الممتلكات: “بيت غير اليهودي مثل زريبة للحيوانات”.

3. تَشيئ المرأة: “المرأة غير اليهودية مخلوقة في هيئة إنسان لتكون صالحة لخدمة اليهود، وإلا فهي حيوان”.

4. مُساواة العزاء بالحيوان: “خادمه غير اليهودي إذا مات لا يُعزّى فيه لأنه حيوان”.

2. إباحة الإقصاء والعنف:

هذه النقاط تُسهِل العنف والقتل عبر نزع القيمة عن حياة الآخر وحقوقه:

1. إباحة القتل: “يدعو التلمود بشكل صريح إلى قتل الغريب.” و”إن أفضل الأغيار هو المقتول”.

2. الحماية القضائية: “من يضرب الجوي (الغير اليهودي) لا يُحاسب، أما من يضرب اليهودي فيُقتل”.

3. نزع الحقوق: “يَحظُر على الطبيب اليهودي علاج الأغيار يوم السبت، حتى لو ماتوا”.

4. نزع الشفقة والحقوق المادية: “ليس من العدل الشفقة على الأعداء، ويجوز الكذب عليهم، وعدم رد الضائع لهم، أو دفع ديونهم إذا ماتوا”.

3. الفصل التام وعزل الذات:

هذه النقاط تُرسخ الفصل في كل من الديانة والقانون والمجتمع:

1. نفي الأخوة الإنسانية: “فريضة “أحبب قريبك” خاصة باليهود فقط.” و “قريب اليهودي هو اليهودي فقط، والباقي حيوانات في صورة إنسان”.

2. الفصل الديني والاجتماعي: حظر تناول الطعام مع “الأغيار”، وحظر الزواج المُختلَط، وعدم قبول شهادة الأغيار في المحاكم لكونهم “كاذبون بطبيعتهم”.

3. العقيدة الحلولية والإقصاء الكوني: “يحل الله في شعبه المختار… والباقون “خارج القداسة”.

المستويات البنيوية للتَّشْيِئ

₋ المستوى العقدي: هي الجذر الأخطر للتَّشييئ، لأنها تُلبس منطق الإقصاء والإبادة لبوسا شرعيا أو دينيا. هنا يتحول التشييئ إلى عقيدة تُنتج طمأنينة زائفة: اطمئنان إلى أن محو الآخر أمر مقدس يقرب إلى الله أو يخدم “الحق المطلق”. مثال: بعض نصوص التوراة والتلمود التي تأمر بإبادة شعوب كنعان، أو تجعل دم “الأغيار” أقل قيمة من دم اليهود، فتحول الإبادة إلى واجب ديني لا إلى جريمة.

₋ المستوى الروحي: انطفاء استشعار النفخة الإلهية في الآخر، أي غياب رؤية أن كل إنسان نفخ الله عز وجل فيه من روحه. حين تُمحى هذه الرؤية يُختزل الآخر إلى مادة ترابية بلا قداسة. مثال: إبليس حين رأى آدم “ترابا” فحسب، ففاخر بمادته (النار) وأنكر النفخة التي بها صار آدم مُكرما.

₋ المستوى المعرفي: تجريد يُحول الإنسان إلى فئة/وظيفة/رقم، فيُمحى اسمه وقصته وتاريخه الفردي. مثال: توصيف القتلى في غزة كـ”أرقام” في نشرات الأخبار، والمريض كـ”سرير”.

₋ المستوى العاطفي: تخفيض التعاطف لتسكين الضمير عند ممارسة الظلم أو الإقصاء، بحيث تصبح القسوة ممكنة دون ألم نفسي. مثال: تبرير قصف المدنيين بحجة أنهم “دروع بشرية”، مما يُلغي الإحساس بالذنب ويجعل قتلهم مقبولا.

₋ المستوى الاجتماعي: حين يتبنى المجتمع بأكمله فلسفة التشييئ، يُمحى صوت النفس اللوامة الجماعية، ويصبح الظلم مُطبعا في الوعي العام، بل ويُكافأ الفاعل. مثال: قبول قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي خطاب “الأغيار”، حيث تتحول إبادة غزة إلى فعل عادي أو حتى بطولي.

₋ الحاصل: اتساع المسافة الأخلاقية، بحيث يُصبح الاستغلال والإقصاء والقتل مقبولا بل ومطلوبا، ويُرى الإنسان “شيئا” يمكن التخلص منه ببرود. مثال: تقديم الإبادة الجماعية في غزة كـ”دفاع عن النفس” أو “ضرورة أمنية”، وقبول ذلك في الخطاب الدولي وكأنه إجراء طبيعي.

طبقات وظائف التَّشْيِئ

1.الطبقة الفردية:

₋ تبرير الاستغلال: الآخر “أداة” أو “حالة” وليـس إنسانًا كاملًا. مثال: رب عمل يستنزف عماله كـ”أيدي عاملة” قابلة للاستبدال.

₋ تسكين الضمير الأخلاقي: تقليل الشعور بالذنب عبر إلغاء إنسانية الضحية. مثال: وصف قتلى الحرب بأنهم “أضرار جانبية”.

₋ تقبل الأوامر -الطاعة العمياء (التشييئ الذاتي): حين يختزل الفرد نفسه إلى وظيفة أو رقم. مثال: موظف يذوب في مؤسسته ويرى ذاته “ترسا في آلة”.

2. الطبقة الاجتماعية:

₋ تبسيط الواقع المعقد: عبر تصنيفات حادة تُريح من عناء الفهم والحوار. مثال: اختزال اللاجئين جميعًا بأنهم “خطر أمني”.

₋ حماية الجماعة: بناء سور رمزي يبرّر التفوق والإقصاء. مثال: مجتمع يعتبر نفسه “المختار” ويصوّر الآخرين كأدنى بطبيعتهم.

₋ شرعنة التمييز الاجتماعي: إعطاء غطاء ثقافي أو ديني أو قانوني للإقصاء. مثال: نظام الأبارتهايد سابقا في جنوب أفريقيا وما زال في فلسطين.

3.الطبقة السياسية–الحضارية:

₋ تسهيل العنف والإبادة: تحويل الإقصاء إلى خيار عادي أو حتى واجب. مثال: النازية التي شيّأت البشر إلى “أجناس” بعضها يستحق الإبادة، والأغيار عند اليهود.

₋ إضفاء الشرعية على الاستعمار والاحتلال: تصوير الشعوب كـ”متخلفة” أو “غير مؤهلة”، مما يبرر السيطرة عليها. مثال: الاستعمار الأوروبي لأفريقيا وآسيا.

₋ التشييئ المؤسسي المعاصر: اختزال شعب بأكمله إلى “أهداف عسكرية” أو “أرقام إحصائية”. مثال: خطاب الإبادة في غزة الذي يُحوّل الأطفال إلى “عبء ديموغرافي” والنساء إلى “تهديد سكاني”.

خاتمة

يتبين لنا أن التشييئ في فلسفة الأغيار ليس موقفا عرضيا ولا انحرافا أخلاقيا طارئا، بل هو منطق عقدي متجذر يفرغ الإنسان من روحه ويجرده من فطرته، ليصبح كائنا لا فطرة له، ويعيد تعريفه مادة قابلة للاستعمال أو الإبادة. هو مشروع نزع الإنسانية عن “الآخر”، يبدأ بفكرة التفوق وينتهي بفعل الإبادة. ذلك المنطق الذي ولد يوم أنكر إبليس نفخة الروح، وتكرس في نصوص التوراة والتلمود التي فرقت بين “المختار” و”الأغيار”، ليصبح أساسا لشرعنة الإقصاء والاستئصال.

وما يحدث اليوم في غزة هو الامتداد العملي لهذا الجذر العقدي ذاته: يُمحى شعب كامل من الخريطة، وتُختزل الحياة الإنسانية في بيانات وتقارير عسكرية، ويقدم الأطفال كأرقام ديموغرافية، والنساء كتهديد سُكاني، والرجال كخطر وجودي. إنها الصورة الحديثة لفلسفة التشييئ التي تنزع عن الإنسان كرامته لتبرر قتله، وتستبدل صوت الضمير الإنساني بمنطق القوة والمصلحة.

وهكذا تثبت غزة للعالم أن فلسفة الأغيار ليست نظرية قديمة في بطون الكتب، بل مرض ميتافيزيقي يعيد إنتاج نفسه كلما غاب الإيمان بوحدة الإنسان في أصل الخلق ونفخة الروح.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
18°
19°
السبت
19°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة