جائحة “كورونا” وقفة للاستدراك والتأمل والاعتبار
هوية بريس – محمد بوقنطار
مهم جدا أن نفتح خرقا في جدار الظلام الفاقع السواد، ليتسلّل منه نور التفاؤل ويلوح في الأفق بريق البياض وسط هذه الكومة من العتمة السوداء، ويستشرف الناس أمل البقاء المستوفي لنصاب معيشة الحياة الطيبة، وقد نُهينا عن تمني الموت ولقيا العدو، كما أمرنا بطلب الشكر لا نشدان الصبر.
ولعل من التفاؤل أن نواجه هذا البلاء بنفوس مطمئنة، وأفئدة تحسن الظن بربها، مسلِّمة لقضائه وقدره، موقنة بأن لهذا الليل البهيم نهاية سيؤشر على وأدها بعد حين قريب إسفار صبح ذلك الفجر ولابد، إذ ليس ما ألمّ ببلادنا وبلاد الناس من حولنا من باب قيام الساعة، ولا أزوف القيامة، وإنّما هي فتنة وبلاء وأزمة وضيق وقَدَرَة متلوة بتوسعة وانفراج ويسرين لابد أن يغلبا عسرا واحدا، فحتى الذين اجتاحتهم البلوى واختارهم طير الردى، فإنّما هو انتقال يطبعه في الأخير التجافي عن دار الغرور والرحيل عنها إلى دار الحبور، ويا فوز من فاز، وإنّما يستريح من مات وغُفِر له حسب الاستدراك النبوي على أمنا وحِبِّ رسولنا صلى الله عليه وسلم عائشة الصديقة بنت الصّدّيق رضي الله عنهما.
وقد مرّت الإنسانية منذ بعثة آدم وإلى يوم الناس هذا بكوارث وحروب واضطرابات وقلاقل خلفت وراءها للتاريخ سطورا من الضحايا والهلكى والمكلومين، ثم قامت للناس الحياة واستقامت لهم المعيشة، وقد كان هذا من الله عقابا لتجبر في الأرض أو استكبار فيها بغير حق، أو كان ابتلاء لرفع الدرجات ودفع العباد إلى محراب الطاعة، ووقوفهم على حقيقة فقرهم وحاجتهم إلى خالقهم في الرخاء والشدة، والفتنة محك تتمحص تحت ناره المعادن كما قيل يقال، وقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إني أحبك، فقال : انظر ما تقول فقال إني أحبك ـ ثلاث مرات ـ فقال عليه الصلاة والسلام : إن كنت تحبني فأعد للفقر تَجْفَافاً فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه” ولا ريب أن هذا قيل في مناخ كان يعج بالعصبيات الجاهلية الثرية التي استباحت بمالها المتوارث وغصبها لحقوق الغرباء من المحبين لسيد الخلق، استباحت الحياة على نحو ماجن إباحي ظالم، عصبيات مترفة كانت مهمتها محاصرة الدين الناشئ في ظل غربته الأولى ومن ثم شل حركته الدعوية الفتية عبر سلب المنتمين إليها في السر قبل العلن أبسط الحقوق الإنسانية، وتعريتهم عن ثوب ما يستحقونه من حياة كريمة، وذلك ديدن المفسدين وتلك سيرتهم في دولة التاريخ.
لقد ظهر هذا الفيروس القاتل أوّل ما ظهر بعيدا عن أرضنا هنالك في الصين، ثم ما لبث أن تناهى إلى أسماعنا ومرمى أبصارنا، فقد رأينا كيف كان الناس يتساقطون تساقط أوراق الشجر في يوم خريفي اشتدت ريحه وجف مناخه، وكان رد فعلنا أن قابلنا ذلك الأمر البعيد بالنكتة الشامتة، والتعاليق المضحكة، والرسائل المستهزئة، ولربما كان المسوِّغ لهذه الشماتة أننا حسبناها من صميم نصرة إخواننا الإيغور المضطهدين من نظام الصين البودية، ولم يكن وليس هذا من النصرة والمدافعة في الشيء.
تتوالى الأيام مصحوبة بأخبارها الحبلى بمسميّات الضحايا ورسومهم، ومئنات الانحسار وأخبار الحصار، بين عشية وضحاها يتسلّل إلينا الوباء لواذا، فيتجاسر على الكبير منا قبل الصغير، وقد كشف دخوله واقتحامه الأول عن معدن الكثير منا ابتداء، حيث تفشت في صفوفنا الإشاعة وتغوّلت الأكاذيب والأراجيف حتى تعدته وسبقته بسنوات ضوئية، واشتعل سوق الكلام بغير خطام ولا أعنّة، وانقاد بعضنا بل جلنا انقياد القطيع حتى وقع البعض في حمى البعض، وإذا بالمشهد وكأننا حمر مستنفرة فرت من قسورة، قادتنا الإشاعة في تكالب وتهارش تحت طائلة استشراف حقيقة جوع محقق واحتمال راجح لاستبعاد شبع معلق، ليشكل هذا الانقياد منا طوابير مبثوثة في فوضى عارمة ونزق بهيمي وجشع متوحش متكالب، وإذا بنا قد تهافتنا في سباق محموم وحركة دافقة بعنف السيل في منحدره ومبتغى منتهاه، نشتري بنهم ونحتكر بجشع، ويحاول الواحد منا أن يستأثر بنصيبه من الغداء، نصيبا يستوعب ما يحتمله مكث هذه الجائحة بين ظهرانينا وزيادة، يقع هذا ولو كان على حساب قوت المواطن الضعيف ولو كان نصيبه منه بمعدل مؤونة يوم واحد، يقع هذا وإن ترادفت بتكرار الأخبار الرسمية ذات الأرقام المسؤولة مفيدة بأن البلاد تمتلك مخزونا من الزاد يكفي الأمة المغربية لشهور عددا.
إنها فعلا صورة شوهاء كانت في خضمها المعالم الإنسانية والأواصر الوطنية ومعها الأصالة الإسلامية مطوية في يد حواضن موغلة في الأنانية، ونفوس منصرفة إلى حب الذات، مغمورة في ملذات الطين، مخلدة إلى الأرض في لهاث كلبي دأب أن يمارسه المبطلون المنسلخون عن آيات الله في كل زمان وكل مكان.
فهل كان هذا ليرد عنا نقما ومصائب أفادت سوالف الوقائع والأفعال والخلال أنها حقت علينا بما كسبت الأيدي وقارفته الظواهر بتوجيه وعزم وإصرار من السرائر ؟؟؟
وإنها لسوالف نحسات شاع فيها الضيق والعوز، وقد جاوره الإسراف والإتراف في النفقات المريبة، ورقص فيها المال العام وملحقات المال الخاص لمعشر العميان، ثم احترق وتناثر رماده في جحود ونكران.
وها هنا سؤال يحيل على البحث في ماهية الأسباب والمسبِّبات المسؤولة عن نتائج الاستهجان الذي وصلته وخضعت له هذه الأجيال ـ من الطفولة مرورا بالشباب والكهولة ووصولا إلى الشيخوخة ـ حتى غاصت في وحله وملأت أفمامها من طينه اللّزب المسنون.
آه لقد زرع وبذر فينا المترفون مبادئ ومساوئ أخلاق وسلوكيات لا ننكر أنها صادفت هوى في نفوس جلِّنا، كما لا ننكر أن خليط الإرسال والتلقي قد حصل تفاعله المنشود وقد صادف قلوبا مريضة فتملّك، ثم أنكر علينا حق الحياة في دائرة الأخوة العامة في تجلِّيها المتسامي.
ثم آه لقد انسلخنا عن لباس التقوى وما تربينا عليه وأخذناه بالسند المتصل عن معشر آبائنا كما أخذوه هم عن أجدادنا، من فطر سليمة ونفوس مسالمة قوامها الإيثار والتكافل والتضحيات داخل مسمّى الجسد الواحد، الذي متى ما اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
ولربما كان من الجنون والسفه أن تنتظر من المريض الواهن الضعيف جوده لغيره بالقوة والعافية، إذ كيف لحكومات مترادفة لم تفلح طيلة تاريخ وفترات تعاقب إدارتها للشأن العام في توجيد وإنتاج ما يرد البصر ويلبِّي الحاجة من أسرّة الإنعاش الطبي، فكم كانت الحسرة كبيرة وكلنا يتابع تصريح رئيس الحكومة المغربية يفصح عن العدد المحصور من كراسي الإنعاش المرهونة بالعدد القليل من المستشفيات الحكومية والتي كان قد بنى بعضها المستعمر زمن الحماية والانتداب.
وإنها لرزايا محرجة أن يسمع الشعب الخائف من شبح الموت المتربص ومن سطوة هذه الجائحة عن هذا الخصاص المهول، وهو الذي لطالما عاش حينا من الدهر غير قصير تحت سكرة الإتراف الزائف والنزق الحائف حاضرا مريدا مدمنا على تسجيل وقفته في كل التظاهرات والمهرجانات المحتفية ـ في غير انقطاع ـ بالغباء والاستغباء وبالبلادة والاستبلاد، مهرجانات كانت تتناسل عاما بعد عام تناسل الفطر في يوم ممطر، كان يصرف على صانعيها ومؤسسي بغيها ولهوها وعلى أبطال سهراتها الموغلة في المجون من المغنين والمغنيات، والراقصين والراقصات واللاعبين واللاعبات من المحليين والأجانب من الذين أغرقوا البلاد والعباد في حياة منكودة كانت فيها الآفاق مليئة بالغيوم وبالسحب الغاضبة السوداء التي حالت بين الناس وضحوة الحياة الطيبة في معناها الإنساني الحضاري المتسامي أضعاف أضعاف أضعاف… ما كانت تنوء بشحه وتئن من بخله وضعف رصيده ميزانيات المشاريع الصالحة المُصلحة البناءة البانية الراشدة المُرشدة.
واليوم وما أدراك ما اليوم، ونحن نعيش هذه القدَرَة، ونتوجس خيفة من هذا التهديد الذي أوقرنا في البيوت حكاما ومحكومين، وأذاقنا شيئا من وعيد سطوته التي أهلكت هنالك عند الغالب الأبيض الضرع والزرع، اليوم وقد تمايزت معادن الناس وانفصل الأصيل النفيس عن الرديء الأشابة، واستصرخت الدولة ومعها الشعب وممثليه من الطيف السياسي واحتاج هذا الجميع إلى وقفة جنس الذكر والأنثى من الطبيب والممرض، والأستاذ والمعلم، والشرطي، والدركي، والجندي، ورجل القوات المساعدة، والإطفائي، ورجل النظافة، والتاجر ، والعالم الرباني، والمفتي الذي يطمر الفتنة بين مسالك فهمه وحصافة عقله، ورجاحة فكره وفقهه الذي يبيح للعباد التدثر في مسلاخ التعبد الاستثنائي الترخصي في غير استدراك مقال ولا صراخ مقول.
نعم اليوم لم نبق أو لربما وقفنا على حقيقة عدم جدوى الحاجة إلى مهرج أو مغن أو راقص أو ممثل أو مخرج، كان يتحرك في دائرة سراب كدحه دقيقة أو ساعة أو ثلث ليل، ليصبح يمشي في كبر ويتكلم في استكبار ويتمايل في عتو وخيلاء، ثم بقصد أو بغيره يسرِّب للناس في إغاضة حجم رصيده ورقم غنمه الغلول المتغوّل في تلك الدقيقة أو ذلك الثلث من ليل الإثم وظلام الخطيئة…
أهكذا ضُرِب للحق المعلوم نصيب من المال العام والخاص، أهكذا كانت تُراعى حدود الله في الكسب ثم الإنفاق؟؟؟
إنها والله لخلوف أيام لا نزال نرسل فيها البصر اجترارا فينقلب إلينا خاسئا وهو حسير، حسرة تملأ الفؤاد أسى وتغمر القلب في مغالبة كآبة ذات ثقل وجثوم.
لسنا بصدد محاسبة أحد، ولا نحن في موقع لوم واحد أو اثنين أو ثلاثة، فلا الصفة تسمح، ولا الوضع يرحب ويؤشر، وإنما المطلوب المرغوب، وقد أبان المغاربة ملكا وحكومة وشعبا ـ إلا من شذ عن هذا الكل ـ على مواقف نبيلة، يجب أن تردفها بالاستمرارية والاطراد مراجعات ووقفات مسؤولة مُرَشدة وحكيمة، متى ما رفع الله هذا الوباء، وهو رافعه سبحانه ولابد فضلا لا واجبا، يقف الجميع كل من موقع مسؤوليته ومنزلة نفوذه ليتسنى لنا تسمية المسميات باسمها الحقيقي، حتى يتبيّن الصلاح الصالح فلا يضام أحد في رؤيته، وينكشف الفساد المفسد فلا يشك في مستشرف هلاكه أحد، مؤسسين بذلك لعهد جديد تكون سيرته مستفيدة من هذا التأديب الرباني الذي ساد الأرض، معيدة النظر في كل سبب أو وسيلة أفضت على مائدة الفتنة والابتلاء إلى نتيجة أو مقصود تبين أنه ولد باستهلال فاجر وعاش كذلك ثم مات ميتة سوء.
وأن نركب بعد هذا الوقوف أمواج الإيمان المرابط المكافح الذي يرى أصحابه بنور من الله، وأن نكف ونمسك عن إظهار وتمكين جوقة العفن الأخلاقي، مؤمنين باليقين أنها أشد إهلاكا من الوباء نفسه، وأنها لم تزل ولا تزال وستبقى تعيق عجلة الإنتاج، وتكف الأيدي الطاهرة عن البطش المقصود المحمود نقلا وعقلا وحسا وطبعا، إذ لا يعقل أن ننتظر كأمة موصولة بالله الغيث من قرب الغزاة وقد تبيّن بالصوت والصورة والرائحة كيف أن الناس هناك وهنالك صاروا في مضمار استصراخ الدواء يقولون “رأسي رأسي وما دونه فنصيب للطوفان”.
نسأل الله أن يردنا إليه ردا جميلا، وأن يرفع عنا هذا الوباء والبلاء إنه ولي ذلك والقادر عليه، “والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”