فيلم Eternals ووقفةٌ مع أفلام الأبطال الخارقين
هوية بريس- تسنيم راجح
انطلق قبل عدة أيام فيلم Marvels الجديد Eternals في دور العرض الأمريكية وفي عدد من دول العالم، وكعادة أفلام الأبطال الخارقين صار الفيلم موضة بين الشباب الذين يريدون التسلي بحضوره ومعرفة شخصياته وقصصهم والقوى الخارقة التي يملكونها، إلى جاب الاستمتاع والنظر في المؤثرات البصرية المبهرة المرافقة لهم وإتقان كل مكونات الفيلم وتناسقها في العمل الترفيهي الذي أمامهم.
ولشعبية هذا النوع من الأفلام وانعكاساتها العقدية التي يغفل عنها كثير ممن يشاهدها للترفيه وجدت أن أفرد له بعض النقد لننتبه لأثره علينا ولا نستخف بقدرة هذه المدخلات التي تبدو بسيطة على التأثير في فكرنا وحياتنا من حيث لا ندرك.
الفيلم الذي يترجم عنوانه حرفياً إلى “الخالدون” يحكي قصته الخاصة لبداية الخلق، إذ يبدأ بعبارة “In The Beginning” تماماً كما يبدأ سفر التكوين -من كتب العهد القديم عند المسيحيين- ثم يحكي قصصاً تمزج بين النصرانية المحرفة، والميثولوجيا اليونانية القديمة، والميثولوجيا الإيرلندية وغيرها من الأساطير في قصة شخصياتٍ شبيهة بـ”الآلهة” والبشر وضعها كائن خارق ضخمٌ على الأرض لتحرس الكوكب أمام مخلوقات شريرة قد تدمره وتنهي وجود البشر عليه في أي لحظة.
من مقدّس إلى مسلٍّ!
إنها قصة قد تبدو بسيطة إن نظرنا إليها بعين المتلقّي المسترخي الذي يتناول البوشار وينتظر أن يرى ما يمتعه، لكنها تحتوي كثيراً من الأخطار العقدية والإشكالات الإيمانية التي لا ينبغي الاستهانة بها، فالكاتب بكل بساطة يقدِّم تخيُّله الخاص لنشأة الكون، ويطرح في إطار الترفيه تصوره عن الله والملائكة والشياطين وهدف الحياة، وينتقد منظومة الخير والشر التي يستمدها الإنسان من الله، فالشخصيات المكلّفة بحماية الأرض تتساءل في كثير من الأحيان عن مسؤولياتها وعن تماشيها مع ما تريد، كما أن الكاتب يقدم صورةً لما يمكن للإنسان العادي تحصيله إن تقرب من أنصاف الآلهة هؤلاء ورافقهم، وهو ما يشابه إلى حد كبير ما عرضته أفلام سابقة من نفس النوع -كفيلمي Thorو Hercules- لكن مع تمثيل أكبر وأخطر للخلق وهدف الوجود والإله الموجد كذلك.
والإشكال في هذه الأفلام ليس في أن المشاهد قد يشرك تلك الشخصيات الخيالية بالله بشكل مباشر، فهو يعلم أنها خيال ووهم، إنما في أنها تجعل أمر الآخرة والملأ الأعلى والمعجزات والكرامات وعلامات الساعة ونهاية العالم أموراً مسلِّيةً مفتوحة للخيال والتنبؤ فضلاً عن السخرية والتسخيف، فيغيب عن قلبه أي قداسة للغيب والخوض فيه، وينسى تدريجياً أن الحديث في هذه الأمور محصور بالوحي المنزّه الذي يخبرنا بما لا يمكن أن نعلم دونه، وبذلك تختلط الأمور في ذهنه شيئاً فشيئاً بين الذي يراه بشكل متكرر ومتناقض معروض عليه في كل فيلم على حدة، والذي يقرأه في القرآن ويكرره في صلواته الخمس كل يوم، فإن كانت تلك الصلوات مُصلَّاةً على غفلة، وتلك الأفلام مشاهَدةً بتركيز وتغييب للنقد والمحاكمة وكثير من التكرار، فحين ذلك يتداخل الحق الغيبي بالأساطير لتصير كلها في ذهنه في خانة الخيال والفتنازيا لا أكثر.
ولعل تناقص هيبة الغيب في نفس من يكثر متابعة تلك المواد من أهم آثارها؛ إذ لكل منا نفس واحدة مهما حاولنا تخيل أنها مقسمة أو لا تربط الأمور ببعضها إذ تفكر فيها، فيصعب على الذهن وضع الإله ونهاية العالم وبدايته في خانة المتعة تارة وفي خانة الجد والخوف والرجاء والحب والعبودية والتسليم بعدها بدقائق قليلة، ومع هذا التناقض والاستمرار في غض الطرف عنه، تزول قداسة ذاك ويغيب عن النفس تذكر أن هذا منكر وهذا حق وهي لا تشعر.
الإنسان الخارق
يمكن عزو بدايات مفهوم البطل الخارق للفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” عام ١٨٨٣ و فكرة الإنسان المتعالي -فوق البشري- الذي يمكن لوجوده أن يبرر بقاء جنسه[i]، والذي رسم فيه الفيلسوف الملحد ما رآه أهدافاً ينبغي أن تسعى البشرية إليها بدلاً عن القيم الدينية المتجاوزة التي عرفتها الشعوب الغربية من قبل، فنيتشه الذي قال بـ”موت الإله” وضع الصورة الخارقة التي اخترع وسمى Übermensch كبديلٍ عن كل الثوابت التي كان يستمدها البشر من الإيمان، وكحماية لهم من السقوط في فراغ العدمية التي تختفي فيها كل الأرضيات التي يمكن التحاكم لها[ii] ، فكانت هذه الفكرة البشرية الخيالية لتمثل النموذجية التي ينبغي للبشرية السعي لها. وفي عام ١٩٠٩ ترجم توماس كومون المفهوم إلى الإنكليزية ليصير باسم “Super Man” الذي ظهر لاحقاً في القصص المصورة ومن ثم الأفلام والمسلسلات بصورٍ مختلفة كثيرة.
وإن كانت فكرة نيتشة الفلسفية لا تظهر بوضوح في أفلام الأبطال الخارقين التي نرى اليوم، فإن نتائجها تتجلى فيها بلا شك. ففي هذه العوالم التي يرسم كتّاب الأفلام لا نرى أثراً لأي دعاء أو استعانة بالله أو التدين عند المصائب التي لا يوجد منقذ ولا أمل للبشرية فيها إلا في شخصٍ أو مجموعة أشخاص يشبهون البشر شكلاً ويملكون قوىً استثنائية تجعلهم قادرين على ما يحلم الناس العاديون بفعله، فمنهم من يطير ومنهم من يقرأ أفكار الآخرين ومنهم من يملك قوىً عضلية كبيرة ومنهم من يرى عبر الجدران وإلى غير ذلك مما يجعل الإنسان مستغنياً عن اللجوء للإله وباحثاً عن نجاته في بشرٍ خارق يشبهه ولا يشبهه.
هذا التمثل البشري للإله خطير عقدياً بما يدخل في ذهن المشاهد من أنه مستغنٍ عن الرب ببعض القوة والتكنولوجيا والتقدم العلمي الذي يجعله أيضاً يشبه البطل الذي يرى على الشاشة، وتجعله مثله قادرٌ على تجاوز كل المشكلات والارتقاء بجنسه بدون استحضار للغيب ولا الاستعانة بالإله، فمن تلك الشخصيات مَن قوته بدرعٍ متطورة صنعها مثل (Iron Man)، ومنهم من قوته بسيارات وطائرات ومخابر وتدريبات رياضية مكثفة خاضها كما لدى (Batman)، فما حاجة الإنسان عندها للتعبد واللجوء لمولاه؟ كيف سيستشعر ضعفه ويرضى به؟ ولم يمنع نفسه أياً من المتع الدنيوية إن كانت تلك الأمثلة التي باتت قدواتٍ تصور كل الخيرية تقضي يومها في قتال الأشرار وليلها في السُّكر والزنا والحفلات؟
ففي تلك العوالم نجد الخير والشر مبنياً على حكم البطل الخارق ومصالحه والقيم التي يختار، فهو الذي يحفظ السلام على وجه الأرض وهو الذي يقرر المبادئ التي على كل الناس التماشي معها، والقبول بها، ففي عالم الرجل الوطواط -مثلاً- يحق له التجسس بكاميرات مراقبة على كل المدينة وبدون إذن من أي سلطة لأنه الذي يحميها، وفي عالمSuperman يحق له تحطيم أي متجر أو مقهى وهو يطير بلا انتباه ليلاحق الشرير الخطير، وفي عالم الرجل الحديدي نراه بشكل متكرر يسخر من الشرطة ورجال الحكومة الذين يعلمون أنهم لا يقدرون على مجاراة كفاءته وذكائه وحده، والغريب أننا كمشاهدين نتلقى هذه المواد بكل بساطة ولا ننتبه إلى ما تقوله وما تبني عليه في إطارها الترفيهي.
سحر الوهم
لعل من المشترك بين أفلام الأبطال الخارقين على اختلاف قصصها والشركات المنتجة لها هو امتلاؤها بالمؤثرات البصرية واعتمادها بشكل كبيرٍ على إتقان فريق كبير من المصممين لها، فالممثل في تلك الأفلام غالباً ما يقف أمام شاشة خضراء كبيرة يقوم بحركات بهلوانية أمام عصاً أو كاميراً يتظاهر فيها أنه يقاتل شريراً أو يتحول لشكلٍ آخر أو يستخدم قوة خاصة أو يسقط من سطح بناء دون أن يخدش، وإن كانت هذه المعلومة معروفةً لدى المتابعين إلا أن سحر الصورة ودقتها تغيِّب عن ذهنهم حقيقة ما يفعله الممثل الواقف أمامهم، فهم وإن علموا أن الفيلم محشوٌ بالمؤثرات الخاصة إلا أنهم قد يغفلون عن المدى التي تذهب إليه تلك المؤثرات، فيتخيلون أن الممثل لديه جزء من القوة العضلية التي تظهر في اللكمة التي يمارس أو كل اللياقة البدنية الظاهرة أو حتى أنه يلبس اللباس الذي يظهر على الشاشة، بينما الحقيقة هي أن معظم الظاهر أمامنا في المنتج النهائي هو من صنع المحاكاة الحاسوبية التي يقوم الممثل بحركات متقطعة معينة يعيد المصممون ترتيبها فيه.
وهنا فإنه من الضروري التذكير للصغار والكبار الذين يكثر انبهارهم بما يشاهدون و غفلتهم عن أثره عليهم، فهم من ناحية يجهلون عدد الساعات التي قضاها فريق العمل في تجهيز كل مشهد من الفيلم، ومن ناحية أخرى لا يدركون مقدار الأموال التي أنفِقَت لنرى الفيلم بصورته النهائية التي تتناغم فيها حركات الممثل تماماً مع المحيط والمركبات التي يحلق فيها والأشعة الصادرة منه وغير ذلك، ومن آثار هذا الانبهار أن تغدو معايير الصحة البدنية عند اليافع مساوية لشكل جسد البطل الخارق الذي رآه ظاهر العضلات قادراً على رفع الأثقال والقفز والجري بشكل استثنائي، وإن لم يحدث شيء من ذلك فإن أقل ما تحدثه تلك المؤثرات هو إبهار المشاهد وتعطيل آليات تفكيره الناقد فيجد نفسه مستغرقًا في تأمل سحر الصور وبريقها المذهل، دون أن يلاحظ الإشكالات العقدية والفكرية التي تتسرب إليه خلال مشاهدتها.
إني -وإن كنت- في هذا المقال أتحدث عن أفلام الأبطال الخارقين بشكل خاص، فإن كثيراً مما ذُكر يمكن إسقاطه على ما يسمى بأفلام الخيال العلمي أو الفنتازيا بشكل عام، ومن ذلك أفلام السحرة ومصاصي الدماء والمستذئبين وغيرها مما قد يوجه للصغار والكبار من الخيالات التي تصنع لذاتها عالماً خاصاً تحكمه قوانين يخترعها الكاتب وتحتكم شخصياته لمنظومات خير وشر خاصة بها كذلك، ولذا فإن دورنا كمؤمنين ومربين واعين أن نراقب نفوسنا أمام تلك المواد ونحدد تلقينا لها وموقفنا تجاهها لا كمشاهدين مستسلمين، إنما كمحللين ناقدين، وكذلك أن نعنى بالمقدار الذي يستهلكه أبناؤنا منها واستعدادهم لنقد محتواها وفهمه وتمييز أثره عليهم على الدوام.
[i] Arvhie Bland, Comic book superheroes: the gods of modern mythology, The Guardian, 2016.
https://www.theguardian.com/books/2016/may/27/comic-book-superheroes-the-gods-of-modern-mythology
[ii] Loeb, Paul. “Finding the Übermensch in Nietzsche’s Genealogy of Morality”. Journal of Nietzsche Studies. 42–4: 77 – via EBSCO Host.
الجدير بالذكر أن هذا الفيلم تم منع عرضه في السعودية و قطر و الكويت لأغراض أخلاقية و دوافع دينية…