في أزمة المنهج ومنهج التعامل مع المنهج (رب ضارة نافعة)
هوية بريس – د.خالد الصمدي
الفاضل المحترم الدكتور امحمد جبرون
بعد التحية والتقدير على الجهد الذي بذلتموه في تفاعلكم الثاني والذي استفدت منه كثيرا والذي لا أشك أنه قد سلط الضوء بشكل أكثر تفصيلا على عدد من الأفكار التي ربما لم يسمح بها الإجمال في السابق، فأصبحت الآن أكثر وضوحا، لدي ولدى عدد من متتبعي هذه المحاورات الغنية.
أتفق معكم تماما في التشخيص والقول بوجود أزمة في المنهج، خاصة في التعامل مع نصوص الوحي واستثمار معارفه، وهذا في تقديري ليس جديدا، فقد كان هناك وعي مبكر بهذه الأزمة وهو الذي نتجت عنه الإرهاصات الأولية لعلم أصول الفقه مع الإمام محمد بن ادريس الشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة، بعد أن اشتغل الناس بالفقه بالاستناد المباشر إلى القرآن الكريم وما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه واجتهادات الصحابة الذين شهدوا الوحي وتفرقوا في الأمصار، واحتاج المشتغلون بالفتوى والقضاء إلى أدوات الاستنباط والاجتهاد حين أعوزهم النص أو استشكل عليهم فهمه في كثير من الأحيان.
فكانت قواعد علم أصول الفقه المستمدة معظمها من استقراء وتتبع القواعد المنهجية في القرآن الكريم وسياقات تنزيله والتطبيقات العلمية في البيان النبوي الشريف، وقد كشفت الإرهاصات الأولية لهذا العلم عن روعة العقل المسلم في الاجتهاد والتفاعل مع مستجدات العصر، وتطور هذا العلم وأبدع رواده مشرقا ومغربا إلى أن وصل الأمر إلى الإمام الشاطبي رحمه الله الذي أبدع الفكر المقاصدي وتطبيقاته في الاعتصام والموافقات، ولا زال هدا العقل الفقه الواعي المستنير موجودا بحمد الله لا ينضب ولا ينقطع منه الخير إلى يوم القيامة، ولا زال يبدع إلى اليوم نظرات جديدة في تطوير هذا المنهج ولن تكون الأمة في هذا الأمر عاقرة بحال.
ولذلك لا مجال لوضع الفقه القديم في سلة واحدة ووصمه بالكسل والسكون وعدم القدرة على الاجتهاد والتجديد وإن كانت بعض الفترات قد عرفت النزوع نحو التقليد والجمود لأسباب علمية وسياسية معلومة فصل فيها الكلام المشتغلون بتاريخ التشريع في الإسلام.
ففي هذا المسار الفقهي الغني بمذاهبه ومدارسه وبيئاته المشرقية والمغربية من العلماء الأعلام ما تفتخر بهم البشرية بله عن الأمة الإسلامية،
ولعل في الاشتغال اليوم بموضوع الخطاب الكوني عن الإسلام والقيم الكونية القرآنية، ومناهج بناء المعرفة في القرآن الكريم والسنة النبوية والأطروحات التي نتجز في التكامل المعرفي بين العلوم، واستثمارها في تجديد النظر في قواعد علم أصول الفقه بخاصة ومنهجية التعامل مع مصادر الوحي ومعارفه بصفة عامة كل هذه المجهودات، ستكون حبلى بالخير بإذن الله.
غير أن هناك محاذير ينبغي الانتياه إليها في هذا السياق، وتتمثل في أن الاشتغال بتطوير المنهاج لم يكن بدوره حقلا صافيا لا تكدره الدلاء فقد استغل هذه الأزمة أقوام يسعون إلى تحنيط الدين وإخراجه من الحياة والدفع به إلى زاوية السلوكات والقناعات الفردية على غرار ما حصل للمسيحية في الغرب، فدعو إلى ردم الأصول واتهاموها بالنسبية والماضوية والتريخانية في سعي إلى إخراج هذه المرجعية من حلبة التدافع الإنساني لما تشكله من نقيض موضوعي لمشروعها، وهذه الفئة تحتاح إلى منهاج خاص للتعامل معها قوامه مناقشة المرجعيات والأصول عوض الفروع.
ومن ناحية أخرى اشتغال عدد من المهتمين بمسار التحديد في الفكر الإسلامي من داخل المرجعية الإسلامية لكن بعضهم سقط في التسرع تحت ضغط الحاجة الماسة إلى رفع الملام عن الإسلام فعمدوا إلى حرق المراحل، عوض الصبر وتدقيق النظر في القضايا العلمية والمنهجية باستثمار جهد الأقدمين والبناء على رصيد الخير فيه، تجدهم يتنكرون لعدد من الأحكام الشرعية القطعية الورود والدلالة والتي قد يبدو لهم محرجة في سياق عالمي متحول، واشتغلوا بالجواب عن الجرئيات غياب نظرة شمولية للمشروع الإصلاحي العام الذي جاء به الإسلام في كل مجال من مجالات الحياة، وهذا بدوره من تجليات أزمة المنهج.
مع أن المطلوب هو تدقيق النظر فيها بالمنهج الأصولي العميق وقواعد المجددة مع استثمار السياق وتحولاته وعلومه ومعارفة خاصة منها معارف الوحي وكل ما يفيد من العلوم الإنسانية والاجتماعية بما يعطي الأولية في التعامل مع النصوص الشرعية للإعمال عوض الإهمال، وهذا ما يجعل الحاجة ماسة في عصرنا إلى انتقال الاجتهاد من الفردي إلى الاجتهاد الجماعي في إطار مؤسسة الاجتهاد المتعددة التخصصات، لأن كل سعي إلى اجتهاد فردي في قضايا شائكة سيكون مظنة الزلل ، وسيخلق الالتباس لدى العامة.
وللخروج من هذه الأزمة مع استحضار تحدياتها التي أشرنا إليها، ندعو إلى التريث في القول في القضايا الكبرى الشائكة وإحالتها إلى مؤسسات الاجتهاد المتوفرة القائمة مع الحرص الشديد والسعي الحثيث من طرف المفكرين والعلماء والمصلحين على دعم هذه المؤسسات وإسنادها بالأفكار والآراء والاقتراحات والإمكانات وتكوين الأطر المؤهلة حتى تؤدي دورها في الاجتهاد على أكمل وجه، فتصون بدلك لحمة الأمة وخياراتها وثوابتها الجامعة، وتعتمد هذه الاجتهادات في سن القوانين والتشريعات من طرف صناه القرار.
هذا من حيث المنهج الذي يحتاج بالفعل إلى جهود كبرى تعيد ترتيب النظر الفقهي في النص الشرعي وتنزيله حتى يستأنف الإسلام دوره الحضاري ويملأ الفراغ القيمي والمفاهيمي الذي يعاني منه العالم بعد سقوط عدد من آلهة حقوق الإنسان.
وسنعود بحول الله إلى النقاش التفضيلي في ثمار هذا المنهج في تدوينة ثانية.
وتقبل صديقي خالص التقدير على فتح هذه النافذة التي دخل منها شعاع الحوار الراقي الهادف ولكم مني أزكى السلام.