في ذكرى وفاة جمال عبدالناصر: نظرة إلى الأمام…

03 أكتوبر 2024 18:25
الذكرة الرابعة لمذبحة رابعة.. الألم والأمل!!

هوية بريس – إبراهيم عبد الله صرصور / الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني    

 (1)

في ظل حالة الانحطاط التي يعيشها العالم العربي والإسلامي في هذه الحقبة من تاريخها، وحالة الشلل الكامل امام عربدة حكومة نتنياهو – سموتريتش – بن غفير التي تجتاح وتقتل وتدمر شعوبا ودولا عربية، مستهترة بملياري مسلم حول العالم وسبعة وخمسين دولة عربية وإسلامية، وضاربة بعرض الحائط قرارات المؤسسات والمحاكم الدولية، يُحيي القوميون العرب الذكرى السنوية لوفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر… كيف يمكننا ان نقرأ سيرة الرجل في ظل الأوضاع المتردية التي يعيشها العالم العربي والتي بدأت تتشكل في سنوات حكمه الثمانية عشرة منذ العام 1952 وحتى العام 1970؟!…

لفت انتباهي ما امتلأت به صفحات مواقع الانترنت والفيسبوك والصحافة من مقالات بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة الرئيس المصري ناصر… لم أستغرب أن يكون لناصر معجبون في أرجاء الوطن العربي وربما في غيره، وهذا من حقهم طبعا …. فالرجل كان في مرحلة ما (القائد الملهم !!!) الذي لا يشق له غبار … لكن الذي استغربته فيما نشرته وسائل الإعلام قضيتين، الأولى، غياب النظرة النقدية والموضوعية لتجربة عبدالناصر البشرية، بهدف الاستفادة منها لبناء الحاضر والمستقبل، حتى بلغ بالبعض إلى درجة رفع التجربة إلى مستوى التجارب المعصومة التي لا يرقى إليها شك أو يُقْبَلُ فيها نقد.  والثانية، أنهم زادوا على خطيئتهم السابقة خطيئة أخرى، إذ صبوا جامَّ غضبهم على حركة (الإخوان المسلمون) أو (الإسلاميين الظلاميين !!!!) كما يحبون أن يسمونها، ووصفوها بما أثبتت الدراسات الحيادية بطلانه وكذبه …

رضي هؤلاء أن يكونوا في خندق واحد مع المتربصين بحركة الأمة في ظل التغييرات العميقة التي تجري في انحاء عالمنا العربي والاسلامي، والساعين إلى إحباطها وإفشالها وتكريس حالة الاستبداد والدكتاتورية الذي جسد ناصر نموذجا سيئا من نماذجها …

أخذت هذه الهجمة المستمرة حتى اليوم رغم الأنهيار العربي الشامل بسبب هذا النوع من الأنظمة المتهافتة، بُعدها الخطير في ظل التجارب الديمقراطية الوليدة في أكثر من بلد عربي خصوصا في مصر، ووصول الإخوان المسلمون إلى سدة الحكم عبر صناديق أول انتخابات حقيقية تتم في مصر منذ خمسة آلاف عام، فتحرك العسكر مدعومين بالناصريين (لا أعمم) والعلمانيين والليبراليين والراقصين والراقصات والفنانين والفنانات، ليذبحوا هذه التجربة، ولِيُجروا الدماء انهارا، فحولوا مصر خلال أشهر إلى سجن كبير لا مكان فيه إلا للمتملقين والمسبحين بحمد الانقلاب العسكري الدموي..

فتقدم في ظل هذه الأنظمة المجرمة حثالاتُ البشر ودُفِعَ الى أعماق السجون والمعتقلات والى صحراء المنافي حول العالم بعمالقة الشعب المصري من قادة الفكر والسياسة، فخلت الساحة لِمَنْ يقفون اليوم متفرجين و/أو متواطئين حيال حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني واللبناني، والتهديدات التي يوجهها نتنياهو في كل اتجاه متوعدا كل من يرفع رأسه من زعماء او شعوب الامة بالويل والثبور…   

(2)

سَبَحَ بي الخيال بعيدا وأنا أتابع الاحداث، وعادت بي الذاكرةُ وأنا أرمق الشعب المصري يصنع تاريخه من جديد، إلى تلك اللحظات التي عاشها ذات الشعب تغلي صدور أبنائه وتفور أفئدتهم حقدا على الملك (فاروق) الذي أخضع بلاده للاستعمار الأجنبي، وقاد أمته إلى هزائم متلاحقة، وسخر إمكانات دولته لإشباع غرائزه البهيمية، وداس الدستور بحذائه الثقيل، وَحَوَّلَ الجيش إلى حرس شخصي يحميه من شعبه…

تخيلت هذا الشعب وهو يقف على شاطئ الإسكندرية يثأر لكرامته بطريقته الخاصة من ذلك الملك الذي طغى وبغى وتجبر وتكبر، حتى سَوَّلَتْ له نفسه ارتكاب أفظع الجرائم ضد مصر وقواها الحية، وعلى رأسها اغتيال الإمام الشهيد (حسن البنا) رحمه الله، مرشد أعظم جماعة إسلامية إصلاحية عرفها تاريخ أمتنا المعاصر، جماعة (الإخوان المسلمون) …

ظن (فاروق)، أو هكذا سَوَّلَ له أسياده، أنه بهذه بهده الجريمة قد تخلص من أكبر أعدائه، وأزال من طريق استمرار مُلْكِه في مصر أجرأ خصومه، وما عرف أن الله كان له بالمرصاد، وأن الشعب المصري الذي أحب المخلصين من أبنائه، أصبح بركانا يغلي من داخله، سرعان ما تفجرت حممه فحولت ظلام مصر إلى ضياء، وعروش الظلم إلى هباء، لتقيم على أنقاضها صروح الحرية والانعتاق..  

الأمل الذي خاب….

هذا ما كان يتمناه الشعب المصري من انقلاب/حركة/ثورة 23 تموز/يوليو 1952 ، وقد رأوا ما فعل الله بفاروق ومُلكه… علق الشعب المصري والأمة العربية من ورائه آمالا عريضة على الثورة فدعموها بالمال والرجال، وكان (للإخوان المسلمين) الدور الكبير في نجاحها وحمايتها في أكثر مراحلها خطورة، وذلك باعتراف الثورة نفسها… لم يطمح (الإخوان المسلمون) يوما في السيطرة على الثورة أو فرض الوصاية عليها، بل كانوا الحريصين على أن تحقق أهدافها  في إطلاق الحريات، وإقامة مجتمع العدل والمساواة والديمقراطية المستنيرة والكرامة الإنسانية، إلا أن الثورة تحولت بعد مدة قصيرة إلى أتون تأكل أصحابها وتصفي أبناءها، وتحكم بالحديد والنار، وابتعدت ما استطاعت إلى ذلك سبيلا عن أهدافها، فذاق الشعب المصري في ظل حكمها ألوان العذاب، حيث انتهى أمرها إلى هزائم مريرة، وذل تجرعه الشعب المصري فوق ما تجرع من ذل سياسات الدولة الداخلية… الدكتاتورية والاستبداد والفساد… إنها ذات الأمراض التي انتفض ضدها الشعب المصري، عادت هذه المرة على دبابات (الضباط الأحرار)، ولكن إلى حين، وقد قيل (دوام الحال من المحال)

مرحلة جديدة قديمة…

سقطت منظومة (جمال عبدالناصر) مع وفاته، كما هو حال الدكتاتورية دائما، ليتسلم الحكم من بعده (أنور السادات)… لم يتعلم السادات من سلفه، فلم يُجْرِ تغييرات جذرية في نظام الحكم يؤسس لديمقراطية حقيقية، ولتداول سلمي للسلطة في ظل تعددية سياسية وإطلاق للحريات العامة. مرة أخرى يفقد (السادات) أعصابه في ظل ضغوط جماهيرية طالبت بحقها سلميا، فصب جام غضبه على قوى الشعب الحية وعلى رأسها (الإخوان المسلمون) لمجرد أنه رأى فيهم طليعة التحرك المعارض لسياساته الداخلية والخارجية، فجردهم من أبسط الحقوق، وزج بهم في السجون، وتجرأ على علمائهم بما لم يسبقه إليه أحد، فسرعان ما انتهى أمره إلى ما انتهى إليه سلفه… دكتاتورية واستبداد وفساد، ثم اغتيال على يد مجموعة من شباب مصر الغيارى وهو في عرينه وبين جنده وتحت سمع وبصر خلصائه وصفوته، (فما بكت عليهم السماء والأرض) …

حجج أقبح من ذنب…

يدخل عهد (حسني مبارك) منذ العام 1980، وتخضع مصر للأحكام العرفية من ذلك التاريخ وحتى سقوط مبارك بعد انتصار (ثورة 25 كانون ثاني/يناير) من العام 2011… لم يتعلم هو أيضا الدرس من أسلافه ، فعاد ليرتكب ذات الأخطاء والخطايا، فسام الشعب المصري أصناف العذاب، وكما كان لفاروق ولعبدالناصر وللسادات زبانيتهم الذي أذلوا الشعب وأهانوا كرامته وامتصوا دماءه، كان (لمبارك) زبانيته أيضا ممن افترسوا الشعب المصري، وحولوه، أو هكذا ظنوا بغبائهم، إلى مجموعة من العبيد الخانعين، وما عرفوا أن الشعب وإن صبر حينا، فلن يطول صبره، وقد قيل (إنما للصبر حدود)…

مرة أخرى تقع القوى الحية وعلى رأسها (الإخوان المسلمون)، فريسة لنظام مبارك كما كان حالها مع من سبقه، ومرة أخرى ينتهى أمره إلى ما انتهى إليه أسلافه… دكتاتورية واستبداد وفساد، ثم ثورة سلمية أشعل فتيلها شباب مصر، سرعان ما تحولت إلى ثورة شعب بأكمله، أزاحت مبارك ونظامه، وكادت توشك أن تحقق للشعب المصري النقلة النوعية التي طال انتظاره لها، وتحمل التضحيات الكثيرة والكبيرة في سبيلها… لم تعد حجج النظام في مصر وفي غيرها من الدول العربية تنطلي على أحد، خصوصا في زمن الانفجار المعلوماتي الذي نعيشه، والفضاء الإعلامي المفتوح ، وانكسار حاجز الخوف من شباب متعطش للتغيير، وقادر على إدارة مشروعه ألثوري بكل الكفاءة والذكاء والقدرة والحنكة والمهنية… لم تعد التهم التي تعدها نظم الاستبداد سلفا والتي لم تتغير منذ ثورة 1952 وحتى الآن، لتروج في أوساط الغالبية الساحقة من شباب الأمة، بعد أن انكشفت حقيقتها وبانت سوأتها، ولم يعد بالإمكان قبولها، وهذا بالفعل ما أثبتته ثورة الشباب في مصر…

الحل المشرف

آن الأوان للنظام العربي الرسمي، بعدما رأينا التاريخ تكتبه أجيال الشباب في تونس ومصر وليبيا واليمن وفي سوريا، أن يتحول الى نظام ديموقراطي حقيقي يضمن تداول السلطة سلميا في ظل نظام انتخابي عادل يحدد مدد الرئيس لفترتين فقط (دستور ثورة يناير المصرية نص على ذلك، فجاء دستور انقلاب السيسي ليفتح الباب على مصراعيه)، ومناخٍ من الحرية والتعددية لا يستثني أو يُقصي أحدا… فإن عجز النظام العربي على إحداث هذا التغيير العميق فيُسجل له التاريخ ما سجل للعظماء في العالم، فليتقاعد وليخرج من الساحة بشيء من كرامته، وأن يتعلم الدرس مما يجري…

إنَّ المراهنة على قوة العسكر والمخابرات وأجهزة الأمن مهما بلغت في وحشيتها وقسوتها وعدائها للشعب وولائها للنظام من جهة، وعلى الحليف الأمريكي أو الصهيوني من جهة أخرى، في حماية هذه الأنظمة، لن يجدي حينما يتحرك الشعب بكل قطاعاته كما حدث في ثورات الربيع العربي… إنها حتمية دينية وتاريخية: دولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة… والعاقل من اتعظ بغيره!!!…

الدرس المستفاد…

مضى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إلى الله سبحانه… سيظل المؤرخون يكتبون عن فترة حكمه، وسيظل الناس فيه بين منتقد ومادح…. أما أنا فمع منطق القرآن الكريم في تعامله مع الآخر… فليس الإنسان شرا كله، كما انه ليس خيرا كله… حقبة عبدالناصر حقبة ارتكب فيها نظامه الجرائم ضد الإنسانية بشكل لم يكن حتى في زمن الملكية… كان فيها الدكتاتورية والاستبداد في أفظع صورها وفي جميع مجالات الحياة.. انتهاك فاضح للحريات الشخصية والسياسية غير مسبوقة… وانتشر التعذيب على أوسع نطاق، وعشعش الفساد في كل أركان الدولة حتى خالط العظم واللحم … فيها الهزائم العسكرية وعار الأبد… فيها وفيها… لكن فيها أيضا دعم حركات التحرر العربية.. وفيها مشروع الإصلاح الزراعي… فيها نهاية حكم الإقطاع… ويبقى السؤال: أي وجهي الصورة سيطغى في النهاية؟ نترك ذلك للتاريخ…… عموما، الرجل بين يدي الله وهو أعلم به الآن …  

العسكر ينقلب على الشعب ولكن إلى حين…

أما (الإخوان المسلمون) فلن يضرهم من يظلمهم…. فقد عودونا أن ردهم على من يظلمهم يكون دائما في الميدان عملا وعطاء وتضحية… خصومهم مضوا إلى غير رجعة، أما هم فقد وصلوا قمة السلطة عبر صناديق الاقتراع وبإرادة شعبية خالصة… أولئك الذين حكموا السنوات الطوال، وامتصوا دماء الشعب ألقت بهم الجماهير إلى حيث تعلمون..

أما (الإخوان) فقد وصلوا قمة الهرم السلطوي لا بالانقلاب ولا بالإرهاب ولكن عبر صندوق الانتخاب.. فجاء الانقلاب الدموي الذي قاده موظف في الدولة وزير الدفاع اسمه السيسي، لينحاز إلى فلول النظام السابق ومجموعات المرتزقة ومصاصي دماء الشعب المصري من رجال الأعمال والحاقدين على الإسلام من غلاة الأقباط (وليس كلهم)، فأسال الدماء وأزهق الأرواح وفتح السجون وأطلق كلاب البلطجية ليعيثوا في الأرض الفساد…. حول الجيش والشرطة والمخابرات إلى أدوات تفتك بأحرار الشعب المصري… عاد بمصر إلى أسوأ مما كانت عليه في كل العهود السابقة من فاروق وحتى مبارك …

ظن واهما انه بدمويته سيوقف حركة التاريخ وسيقضي على أكبر قوة شعبية في مصر والعالم العربي: الإسلاميين وفي قلبهم حركة (الإخوان المسلمون).. لم يتعلم الدرس ممن سبقوه، فسينتهي حتما إلى ما انتهى إليه غيره، لكن هذه المرة في فترة قصيرة، خصوصا وأن الشعب المصري قد شب عن الطوق وكسر حاجز الخوف، فلن تخبو جمرة ثورته التي تحت الرماد، وسيخرج يوما في ثورته المتجددة حتى يُلقي بالانقلابيين إلى مزبلة التاريخ… 

إذا كانت الدموية هي سمة العسكر، فاستغرب ممن لا يحتمل نتائج الانتخابات الديمقراطية من القوى التي تدعي أنها ديمقراطية، فلا يختار مكانا له في خريطة العسكر إلى تحت أحذيتهم (البيادة) الغليظة، ثم يدعي انه متنور حتى النخاع… عجبي ….

قاموا بثورات مضادة بأقذر الوسائل في التاريخ، وحاكوا أنجس المؤامرات وأخسها ضد نهضة الشعوب، فَصَيَّرُوا إنجازاها خرابا، ثم قالوا: أنظروا ماذا فعل ربيعكم!!!  

طه حسين يلخص المشهد…

إذا تقدم المنافقون والافاقون ليقفوا في صدر المشهد وفي الصف الأول، فلا بد ان يكون مركزنا بين الأمم في الصف الأخير!…

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M