في ذكر مناقب وخصال الراحل محمد السائح -رحمه الله-
هوية بريس – د.فيصل أمين البقالي
الأستاذ الداعية المربّي د.محمد السايح في ذمة الله، قُبِض في مِنىً بعد قضاء حجّه، وصُلِّيَ عليه في الحَرم بمكة المُكرّمة..
عندما التحقتُ بالمكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح سنة 2015م متعثرا في خجلي واجدا نفسي بين فضلاء وعلماء وشيوخ.. كان بينهم رجل طويل الصمت في غيرما جفاء، قليل الاعتناء بالهندام في غيرما ابتذال، جريئا بالرأي في أدب ووقار، نزّالا عند رأي الجماعة دونما إسراف في الموافقة ولا إسفاف في المخالفة.. وقد نشأت بيني وبينه مودّة وألفة.. وقد كان ينتحي بي في بعض الأحيان ليسر لي ببعض ما لا يحبه أو يوافق عليه من بعض ما يذهب إليه الإخوة.. وكان يركب في ذلك معي مركب الإشارة والفكاهة في اعتدال هو دأبه وتحفظ هو طبعه..
كان كثير الاعتداد بتراث الأمة العلمي والمنهجي وهو ما عبّر عنه بقوة في كتابه “المنهجية المعرفية الإسلامية” حيث انتقد فيه بشدة كثيرا من الخلفيات الفكرية للحركة الإسلامية.. عظيم الوفاء لأساتذته وشيوخه وعلى رأسهم شيخه الذي أثنى عليه وأهداه كتابه الأخير المثير للجدل وهو الذي أشرت إليه آنفا.. وشيخه ذاك هو الدكتور المصطفى السكوني الفجيجي الحسني رحمه الله.. وكم ذا أشار إليه في أحاديثي معه، فكان يثني ويثني ويقول لي: “ليتك رأيته، فهو من بقية السلف الصالح”.. أما في كتابه المذكور فقد قال فيه وهو يهديه الكتاب: “إلى من رتب لنا سبيل الطلب، فسلك بنا في دروب العلم أولا بأول، فجنّبنا مسلك التنافر بين علوم الدين، وعلّمنا حب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في السلوك إلى الله تعالى وتدبر كتابه العزيز: شيخنا وقدوتنا وبركتنا العلامة الدكتور المحدث المفيد الفقيه الأديب النسابة المشارك المربي، أبي أسامة المصطفى بن عبدالقادر غانم السكوني الفجيجي الشريف الحسني، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه الله عن طلبة العلم كل خير، وأورثه جنة الفردوس. أخبرته قبل وفاته بأيام قلائل، بإتمام هذا الكتاب، ففرح به، ووعدني بتقديمه، وكان ذا أسقام متواصلة، رحمه الله.. لكن قدر الله وما شاء فعل، فالله يجزيه عنا في دار المقامة خير الثواب”. هذا هو إهداء سيدي محمد السايح إلى شيخه وتقديمه له يعطيك فكرة عما طوى عليه صدرَه من الخير والحب وعميق الوفاء. ولغته تعطيك فكرة عن عقله وعلمه وفكره رحمهما الله..
أهداني بعض كتبه، وكنت أعجب لكثير من أفكاره في فرادتها وأحيانا في غرابتها، وفي كل مرة أعجب من شجاعته في عرضها وعدم مراعاته لبعض الاعتبارات التي ليست مما يُعْتَبَر في العلم، ولكنها مفيدة حتى عندما تتسم بالوجاهة في ذاتها أو في سياق إيرادها.. يشفع لها علم صاحبها، فإن لم يشفع له علمه فيها، فخُلُقُه وأدبُه في عرضها..
كنت دائما أدعوه ليزورني في طنجة، وكان يعدني خيرا ويشفع وعده بشوقه للقاء سيدي مصطفى البحياوي حفظه الله، فيرى تلجلجي في أن أقدمه إليه لأني لا أحب أن أضع نفسي في مقام ليس لي، فأقول له: “تجيء إلي وأنعم بقربك وأحظى بشرف زيارتك، والأخرى ييسرها الله تعالى”.. فيبتسم صامتا ثم نمرّ الى موضوع آخر..
كان مجوّدا في قراءته للقرآن، وكنا ننعم بها عندما يختاره الأخ الرئيس لافتتاح لقاء أو درس أو محاضرة أو نشاط بتلاوة ما تيسّر من القرآن.. وقد سألته عن ذلك يوما فأخبرني بأنه تعلم النجويد والتلاوة برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق (وهو مذهب المغاربة القائم على هذه الثلاثية) ومع مراعاة المقامات الموسيقية على أستاذ ولكنه عاد فهوّن مما لديه، وقال أنه شيء قليل نعلمناه لنقرأ كتاب الله على الوجه الذي يرضاه أئمتنا وفق ما وصلهم من أسلافهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم… كان محتفيا بأشعرية المغاربة ويراه مذهيا عقديا وتصوريا ومنهجا في التفكير، ولذلك كان قوي المشاركة في مناقشة كتاب شيخنا مولاي احمد الريسوني حفظه الله “الاختبارات المغربية في التدين والتمذهب” ، ملحوظ الانخراط في ورش الاختيارات المغربية ونحن نناقشها في إطار الإعداد للميثاق الجديد لحركة التوحيد والإصلاح…
كان مسؤولا عن جهة كبيرة من جهات الحركة وهي جهة القرويين والتي تضم أقاليم فاس ومكناس وتازة ووجدة والرشيدية وخنيفرة وبني ملال وغيرها، وكان محبوبا من الإخوان وهو ما ظهر في نهاية مدة مسؤوليته وشهد به من حضر ذلك اليوم وقد رام الإخوان إعادة انتخابه، لكنه كان مكتفيا وراغبا في إفساح المجال لغيره والعودة إلى اشتغاله العلمي والأكاديمي.. وبقي مع ذلك في الصف معينا لا مسنعينا، حاملا لا محمولا، رافدا لا مرفودا..
في يوم توقيعه لكتاب “المنهجية المعرفية” في الموسم الماضي لمعرض الكتاب بالرباط، جاءه مجموعة من الطلبة الذين درسوا عنده في الجامعة، وقد لاحظت حديثهم اليه بحب بيّن صادق، ورأيت كيف يحنو عليهم ويخفض لهم الجناح رحمه الله.. وهذا الظن بربانيٍّ مشتغل بالعلم مثله..
ختم حياته المباركة بأعظم الشعائر وأحفلها وأجمعها للمسلمين على صعيد واحد.. فحج الى بيت الله الحرام وقضى المناسك ووقف بعرفة، ثم أناخ بمنى ليكون على موعد مع الله ذي الجلال والإكرام.. واليوم صُلِيَّ عليه في الحرم المكي بعد صلاة الظهر، وكم هي مكة المكرمة لائقة به وبسيرته وبحزمه مع نفسه، وبتقلله من الدنيا وبإخباته لربه وخفض جناحه للمومنين وخدمته لسنة سيد الرسْل أجمعين صلى الله عليه وسلم..
فإلى رحمة الله أيها الأخ الطيب والأستاذ المجتهد والمفكر الحر والداعية المربي الحليم.. نستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه وإنا لله وإنا إليه راجعون..
في الطريق إلى البيضاء.. 15 ذي الحجة 1443هـ الموافق لرابع يوليوز 2023م.