في ظلال العنف المدرسي وسُحبُه القاتمة

19 أبريل 2025 19:45

هوية بريس – يسين عيسو

لقد استحال مِحرابُ العلمِ في زماننا هذا ساحةً للوَغى، وامتدت يدُ التلميذِ -تلك اليدُ التي ما خُلِقَت إلا لِتَسطُرَ حُروف النورِ أو لِتُصافِحَ يدَ المُعلِّمِ امتنانًا وعرفانًا- امتدت بِطَيشٍ وعُدوانٍ لِتَنالَ من هيبةِ ذاك الذي لم يأتِ إلا لِيُبَدِّدَ ظُلمةَ الجهلِ من روحهِ. إنَّهُ لداءٌ عُضالٌ قد استشرى في نفوسِ أَولادِنا، وغَمامةٌ سوداءُ حالكةٌ ألقت بظلالها، فحجبت شمسَ الاحترامِ والتقديرِ بين التلميذِ وأُستاذهِ.

إنَّ الناظرَ في هذه الآفةِ المُستَحكِمةِ، لَيَرى أشباحًا وظلالًا تُلقي بِثِقَلِها على روحِ هذا الناشئ، وتُغَرِّيهِ بِسُلوكِ سبيلِ العنفِ، وتُزَيِّنُ لهُ القُبحَ في صورةِ قوةٍ أو رجولةٍ زائفة. فما هي إلا مَرايا مُتَكسِّرةٌ تعكسُ صورًا مُشَوَّهةً من عالَمٍ يحيطُ بهِ، فَيَتَشرَّبُها قلبُهُ الغَضُّ كما تتشرَّبُ الأرضُ العَطشى ماءَ المطرِ، ولو كان مِلحًا أُجاجًا.

– أولُ هذه الظِّلالِ وأقتَمُها: ظِلُّ البيتِ المُعتَلّ:

البيتُ هو المَهدُ الأول، والحِصنُ الذي يأوي إليهِ الصغيرُ، فإذا كان هذا الحِصنُ نفسُهُ مَيدانًا لِلصُّراخِ واللَّطمِ، وإذا كانت حيطانُهُ لا تَستُرُ إلا قَسوةَ أبٍ أو عُنفَ أمٍّ أو شِجارًا لا يَنقطِعُ حَبلُهُ؛ فكيفَ تُريدُ من نَبتةٍ نَشَأت في هذه التُربةِ المالحةِ أن تُثمِرَ حُبًّا أو تُورِقَ رِفقًا؟ إنَّ الطفلَ الذي يَرتَشِفُ كأسَ العنفِ في بيتهِ صباحَ مساءَ، لَيَخرُجُ إلى العالمِ وقلبُهُ مُثقَلٌ بِغَضبٍ مَكتومٍ، وروحُهُ تَئنُّ تحتَ وطأةِ ما رأى وما سَمِع. فيرى في حَزمِ الأستاذِ – وإن كانت تَأديبًا أو تَوجيهًا – صدىً لِقَسوةِ البيتِ، ويرى في ضَبْطِ سُلوكِه صورةً لِلتَسَلُّطِ الذي عاناهُ، فَتَثورُ فيهِ نوازِعُ التمرُّدِ والانتقامِ، لا لِشخصِ الأستاذِ، بل لِتلكَ الأشباحِ الثقيلةِ التي تَسكُنُ ذاكرتَهُ وتُعَكِّرُ صَفوَ أيّامهِ. إنّهُ يَضرِبُ في الأستاذِ صورةَ القهرِ التي أَلِفَها.

– ثاني الظِّلالِ: سِحرُ الشاشةِ المَسْموم:

تِلكَ الشاشةُ التي نَصَبناها في قُلوبِ بيوتِنا، والتي تَفتَحُ على الصغيرِ نوافذَ على عوالمَ لا قِبَلَ لهُ بِتَمييزِ غَثِّها من سَمينِها. فَتُلقي إليهِ بِبُذورِ العُنفِ مُغَلَّفَةً بِبَريقِ البطولةِ الزائفةِ، وتُريهِ القَتَلَةَ والمُجرِمينَ في صورةِ أبطالٍ يَصولونَ ويَجولون. فَيَتَشَرَّبُ عقلهُ الصغيرُ أنَّ القوةَ هي الغَلَبَةُ، وأنَّ حَلَّ المُشكلاتِ لا يكونُ إلا بِالعَضلاتِ المُفتولةِ أو بِالصوتِ العالي. تُصبِحُ مشاهدُ الضربِ والركلِ والتنكيلِ مألوفةً لِعينيهِ، فَتَتبَلَّدُ مَشاعِرُهُ، ويَخفُتُ في نفسهِ صوتُ الرحمةِ، ويَستَسهِلُ فِعلَ الشَّرِ، ويَرى في الاعتداءِ على مُعلِّمِهِ ضربًا من ضروبِ إثباتِ الذاتِ التي استقاها من أبطالِ الوهمِ على الشاشةِ اللعينة.

– ثالثُها: أوهامُ الميادينِ الرقمية:

وما أدراكَ ما تلكَ الألعابُ الإلكترونيةُ التي تَخطَفُ لُبَّ الصغيرِ، وتُدخِلُهُ في ميادينَ افتراضيةٍ لا قانونَ فيها إلا قانونُ القوةِ الغاشمةِ، ولا هدفَ فيها إلا التدميرُ والقتلُ وسَفكُ الدماءِ الرقميةِ؟ يَقبِضُ الصغيرُ على أداةِ التحكمِ وكأنّها سِلاحٌ، ويَضغَطُ على الأزرارِ فَيَرى أمامَهُ عوالمَ تنهارُ، وشخصياتٍ تُبادُ. فَيَعتادُ عقلُهُ على الاستجابةِ السريعةِ للعنفِ، وتَتَرَسَّخُ في لاوعيهِ أنماطٌ سلوكيةٌ تُقدِّسُ العدوانَ وتُكافئُ عليهِ بالنقاطِ والمَراحلِ والمُكافآتِ الوهميةِ. ثم يخرجُ من هذا العالمِ الافتراضيِّ إلى واقعِ المدرسةِ، فإذا بِقوانينِ اللعبةِ تَسبِقُهُ إلى فِكرهِ، وإذا بِيَدِهِ التي اعتادتِ الضغطَ على أزرارِ التدميرِ تَمتَدُّ لِتُؤذي، ظنًّا منهُ أنَّ الحياةَ كلَّها مَيدانٌ للتحدي والصراعِ كما عَلَّمَتهُ اللعبة.

رابعُ هذه المؤثراتِ، وهو خيطٌ دقيقٌ ولكنه فاعلٌ: حُلمُ الهجرةِ المُبَدِّد:

حينَ يَرى التلميذُ واقِعَهُ مُظلِمًا، ويُصَوِّرُ لهُ الإعلامُ أو المُحيطونَ بهِ أنَّ النجاةَ والخلاصَ والسعادةَ كُلَّها تَكمُنُ وراءَ البحارِ، في ديارِ الغربِ أو بلادِ الأحلامِ المَزعومةِ؛ فإنَّ نفسَهُ تَتَمَزَّقُ بينَ واقعٍ يَمقُتُهُ ومُستقبلٍ مأمولٍ بعيدِ المنالِ. يَشعُرُ بالغُربةِ في وطنهِ، وبالضَّياعِ في مدرستهِ التي يراها عَقبةً أو مَضيعةً للوقتِ الذي يَفصِلُهُ عن حُلمِهِ بالرحيل. هذا الشعورُ بالإحباطِ واليأسِ من الحاضرِ، وهذا التطلُّعُ المُستَمِرُّ إلى ما هو خارجَ الأسوارِ، قد يَتَحَوَّلُ إلى سُخطٍ ونِقمةٍ على كُلِّ ما يُمَثِّلُ هذا الواقعَ المَرفوضَ. فيكونُ الأستاذُ، والمدرسةُ، والنظامُ التعليميُّ كُلُّهُ في نظرهِ جُزءًا من هذا الواقعِ البائسِ الذي يُريدُ الفِرارَ منهُ. فَيُفَرِّغُ شُحناتِ يَأسِهِ وغَضَبِهِ في وجهِ مُعلِّمِهِ، لا كُرهًا لشخصهِ، بل كُرهًا لِما يُمَثِّلُهُ من قَيدٍ يَكبَلُ حُلمَهُ بالهجرةِ والانعتاقِ المَوهوم.

إنَّ هذهِ الظاهرةَ ليست إلا جُرحًا نازِفًا في جَسَدِ المُجتَمعِ، لا يُداويهِ لَومُ التلميذِ وَحدَهُ، ولا عِقابُهُ بِمِثلِ ما فَعَل. بل لا بُدَّ من النظرِ إلى تلكَ الجُذورِ العميقةِ التي تَمتَصُّ منها شجرةُ العنفِ ماءَها السَّامَّ. لا بُدَّ من إصلاحِ البيتِ لِيَعودَ حِصنًا للأمانِ لا مَصدرًا للخوفِ، ولا بُدَّ من تَنقيةِ ما يُعرَضُ على شاشاتِنا وما يَلعَبُهُ صِغارُنا لِتَسموَ النَّفسُ بدلًا من أن تَهبِطَ إلى دَرَكِ الوحشيةِ، ولا بُدَّ من زَرعِ الأملِ في نفوسِ الشبابِ، وربطِهِم بِتُربَتِهم وأرضِهِم وقِيَمِهِم، لِيَرَوا في العلمِ سبيلًا للرقيِّ لا عائقًا أمامَ سرابِ الهجرةِ.

إنَّ روحَ التلميذِ أمانةٌ في أعناقِنا جميعًا، فإذا فَسَدَت، فليسَ الفسادُ فيها وَحدَها، بل هو انعكاسٌ لِفسادٍ أعمَّ وأشملَ في الهواءِ الذي نَتَنَفَّسُهُ والماءِ الذي نَرتَوي مِنهُ. فَلْنَتَدارَكِ الأمرَ قبلَ أن يَستَفحِلَ الداءُ، ويُصبِحَ مِحرابُ العلمِ خرابًا يَنعِقُ فيهِ البومُ، وتَضيعَ هيبةُ المُعلِّمِ في زحامِ الضَّجيجِ والفوضى.

واللهُ من وراءِ القصدِ، وهو يهدي السبيل.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
10°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة