فُرصَةُ رمضان
هوية بريس – أيوب بولعيون
عاد رمضان، و العود أحمد، عاد و أهل علينا شهر الخيرات و البركات، و على الأمة الإسلامية قاطبة، على كل إنسان مسلم في مشارق الأرض و مغاربها، بمنائر التقى و بشائر الهُدى، حاملا معه منابع الرزق و الخير العميم، شهر الرحمة و المغفرة، التزكية و الترقية، الذي يعتبر غُرة و تاج كل عام هجري جديد، و صحيفة من صحائف عمر الإنسان، حُق أن يُكتب عليها خير الأعمال و الأقوال و النيات بحبر الصدق و الإخلاص، و أرضا طيبة مباركةً، تُحرث و تزرع بأيادي الاجتهاد و العمل المثابر الحثيث ، بقلوب مشتعلة بنار الحب و القرب، متطلعة مشتاقة، ملآنة بالمشاعر القوية الجياشة، مشاعر شوق و توق…، كتابا جديدا مُباركا نقرأ فيه أنفُسنا و نعيد النظر في حياتنا…، شهر الفضل و الفيض الالهي.. ، رمضان مقبل علينا كتحدٍّ و فرصة حقيقية.
**
إن شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدًى للناس..، فرصة للإنسان المسلم لوضع الذات على التوجه المنهجي / الشرعي /العقلي / السليم… وَ وضعها أمام مرآة الاختبار الحقيقي، بعيدا عن المرايا المنكسرة المشوهة ( بفتح الواو و كسرها) لعيش الإنسان، مرآة تجعل الإنسان يكشف خبايا و مطايا النفس الغائرة ،و يرى بعين البصيرة مدى توافقه مع منطلقات دينه الحكيم..
رمضان فرصة جديرة بالاستثمار ليعيد الإنسان ترتيب أولويات حياته، و معرفة حقوق النفس و البدن و العقل عليه… ليعرف المسؤولية التي يتحملها و الأمانة التي يحملها، و هو مستخلف في أرض نفسه قبل أن يكون مستخلفا في أرض الله…
رمضان فرصة لإعادة النظر جيدا، بعين فاحصة نقدية جميع العادات و السلوكات التي تؤثث فضاء حياتنا اليومية منذ سنين عددا، و مسالك أصبحت مع كثرة الطرق، تُسلك و كأنها الحياة الصحيحة القادرة على منح السعادة و الخلاص، و ما هي إلا حياة الضنك و البؤس و الإفلاس..!
**
فرصة لهدم الزائف الغث و الزبد الذي يذهب جفاء، في مقابل البناء و إعادة الإعمار في النفس و الأرض، بما يُفيد الفرد و الناس و الحياة جمعاء..، رمضان كمثل قمة شاهقة، بعيدة عن أضواء الحياة المتعبة و الأدوار و الأقنعة و السيناريوهات الكثيرة التي تجعل من الإنسان آلة بلا روح، تشتغل بلا توقف و تلهث مدفوعة بوقود الآمال الطويلة و الشهوات و الملذات و عبادة أصنام اللحظة المزيفة و النشوة العابرة الكاذبة…، بعيدة عن مسببات ذبول الروح و خمود العقل… ، قمة تحفها النسائم العلوية، يختلي بها الإنسان للتخلية و التجرد من كل الفلسفات الباطلة.. لأن رمضان تخلية قبل أن يكون تحلية…!
رمضان التحدي لاختبار شجاعة الإنسان على التخلي والترك و التنظيم و الانضباط، أن يترك إلحاح العادة و يلبي نداء العبادة…، و يلجم نفسه عن الملذات و الشهوات… للارتقاء من وهدة البهيمية و قاع الغرائز إلى أفق الروح العابرة لكل مظاهر الاستهلاك المادية المتغطرسة في زمن جعل الاستهلاك برهانا و دليلا ساطعا للظهور و إثبات الذات…!
**
رمضان سبيلا للتحرر من القيود المكبلة الصدأة… و إعادة بناء فلسفة صحيحة، تستمد تعاليمها من الخطاب الالهي الحكيم، و الشرع النبوي الكريم، تجعل من التوازن و الاعتدال روحها و من الرشد عنوانها و من الفوز و النجاة خلاصتها… إنه فرصة لإعادة الحياة لمجراها الطبيعي و التخلص من بواقي ثقافة الاستهلاك و كل مظاهر الإفراط و التفريط.
رمضان فرصة لتأهيل و تقوية عضلة الإرادة و استنهاض روح العزيمة في زمن الكسل و التفرج و الترقب و التسويف و الانتظار الفارغ …، معيارا يقيس به الإنسان مدى التحكم في رغائب نفسه التي لا يُوقِفها إلا التراب، و الصبر على المكاره التي حُفت بها الجنة.
رمضان دليلا واضحا أن المعالي و اللذة الحقيقية الممتدة، لا تُنال إلا بالمرور على جسر التعب و العمل و المجاهدة و كل معاني السعي و الكدح… لأن النعيم لا يُدرك بالنعيم كما قالوا…!
**
الصيام كضرب من ضُروب الهضم الجيد و التفكير المُجد في أصناف الفضول؛ فضول الطعام والشراب و الكلام الفارغ و الترفيه و النوم و الخلطة و الراحة، فضول المقاهي و الفايسبوك و مواقع تدخين الأوقات …،رمضان وسطية و نقطة اتزان..
رمضان فرصة ليفهم الإنسان أنه أكبر من البهائم المدفوعة بالغرائز… بل مدفوعا بالغايات الكبرى السامية إلى حضرة السماء و العلياء… الإنسان و قصة المعراج!
رمضان ليس عطشا و جوعا و إنما ارتواءً من ينابيع المعاني المتدفقة، و عيون القيم الكونية الفضلى…
رمضان فرصة لتوطيد العلاقات الاجتماعية بين جميع الفئات و الطبقات على أساس الاحساس الجماعي المشترك، بالتعاون و التآزر و المواساة… رمضان هو إعلان المساواة الحقة بين البشر و عنوان للاتحاد و التماسك تحت لواء الإسلام و الأخوة الواحدة، بعيدا عن خطابات العنصرية و التفرقة…
رسالة يسر و رحمة و مرونة على الناس جميعا باختلاف مشروطياتهم…، لا رسالة إكراه و قهر و تضييق التي زرعتها الرأسمالية المتوحشة في عقول البشر..
**
رمضان ليس لمضاعفة الطعام و الشراب، بل رحمة و تخفيفا من العبء على بني آدم… رمضان جُنة و صونا للصحة الإنسانية و وقاية من أمراض الروح و البدن و العقل…! هو وصفة إلهية للوقاية و العلاج.. و تقديم لمقتضيات الروح على مقتضيات البدن!
رمضان إشارة أن الإنسان ظاهرة مركبة، فريدة بأبعاد كثيرة، و لا يُقارَب بالمقاربات المادية الاستهلاكية المحضة… و أن الجانب المادي لا يؤدي وظيفته إلا بالتكامل مع الجانب الروحي اللامادي، الإنسان الحامل لنور القبس الالهي…!
رمضان منحة و عطاء منذ البداية… أن يستيقظ المرء فجرا ليستبشر خيراً.. و يعيش جمالية الحياة و روعة الانبلاج… حين ينسلخ الوجود من عباءة الليل في صورة جليلة ربانية عنوانها الإبداع و الجمال… هي رسالة لإمكانية الانخلاع من حياة مظلمة قديمة إن توفر شرط “النهوض”!.
**
في هذا الشهر العظيم… رسالة أن الانسان بما هو كائن قادر على التجاوز، يستطيع تعليق اللذة إلى وقت آخر، و تنظيمها وفق تعاليم الشرع الحكيم، و لو كان لرمضان هذه الاشارة العظيمة لكَفَتْه حق الكفاية..
رمضان.. تكذيبٌ لكل المزاعم و الدعاوى التي يكررها المرء كأغنية حزينة تمنعه من تغيير نمط حياته، و الخروج من دائرة الفراغ و الضياع، و مراتع الهلاك.. فرصة للتغيير..
فرصة ليشعر المرء بألم المحتاجين و المكلومين من الناس الذين استبدت بهم أيادي الظلم و الطغيان… و استحضار معنى النعمة و الافتقار إلى الله، و الانعتاق من ضباب الأنانية و الاستغناء الكاذب الخادع، رمضان تهذيب لنزعة الأنا فينا!
رمضان شهر القرآن و القراءة بامتياز و الانسحاب من ضجيج و عجيج الحياة اللاهثة وراء النجاحات المهنية و المادية التي تصبح سرابا مع مرور الزمن و توالي الأيام…، حين ينجلي نور الوعي من وسط الغمام…، رمضان بارقة وعي و إدراك في سماء الغفلة البشرية!
**
رمضان شهر العلم و التفكر و التدبر و التأمل في ملكوت الله و بديع خلقه، شهر الحلقات الثقافية، العلمية، الإيمانية…، و هجران حلقات اللغو و السفاسف و الماجريات اليومية..!
رمضان في خدمة الفرد الواحد قبل أن يكون للجماعة و الأمة.. أفراد قادرون على تهذيب أنفسهم و قيادة الجماعة نحو الخير و الإصلاح و الفلاح…
رمضان فرصة لاستنهاض شجاعة ” اللا”، لا للنوم الزائد، لا للانشغال بالطعام و الشراب، لا للتماطل و التأجيل، لا للراحة المتعبة، لا لخمول العقل، لا للانصياع و الاستسلام لكل نزوة عابرة… نعم للتعالي على الغريزة و تنظيم قنواتها بما يخدم سعادة الإنسان التي لا تقاس بمنطق العد و الحساب ، نعم للعمل و التوكل و عزم الأمور.. رمضان حدود و حيلولة بين الإنسان و الحيوان..!
**
حرمان و بهجة.. حرمان و فرح.. حرمان ونشاط.. حرمان و تفاؤل.. حرمان و رضا.. حرمان و رجاء.. تعب وراحة.. حرمان وقوة.. حرمان و طمأنينة… حرمان و اتزان، رمضان جمعٌ بين الاضداد ؛ عنوان النضج والتكامل الإنساني..
رمضان سعادة أن نريد ما نملك و نفرح به، ندرك قيمة و ثمن الأشياء ( كسرة خبز، شربة ماء باردة، لمة العائلة..) ،شهر الشكر و الامتنان!..
تجربة معيشة لاختبار معنى أن تمتنع و تذوق لذة السيادة على ساح النفس، و تُمسك بمقاليد قيادتها و ردعها!
رمضان حلُّ عقدة الاصرار و العودة، و اقتحام ٌ للعقبة و الاطاحة بطغيان الإدمان…
الصيام كطريق لعيش انتصار و عزة الامتناع على خيبة اللهاث و الهوان… الامتناع الذي حرر أُمة الهند من بطش الطغيان و العدوان .. رمضان مدرسة لتكون فاعلا لا مفعولا به… الصيام ثورة و تربية و ثقافة…
رمضان نداء العقل و الفطنة في مقابل ثقافة الاستهلاك التي تخاطبُ الغريزة و الشهوة و البطنة..
**
رمضان هو حسن الانتقاء و الاختيار أمام الخيارات الكثيرة اللانهائية التي تحيل المرء إلى كومة من القلق و الندم و الصراع و التردد…، فرصة لتنظيف الماضي و ترتيب الحاضر و استشراف المستقبل..
رمضان السلام و الهدوء و العزلة الاختيارية… نجاة من دوامة الغضب و نيران الشهوات المضطرمة..
رمضان عزم و حزم، عهد و وعد ، أوبة و توبة، لكي لا تعود و تستسلم حليمةُ لعادتها القديمة… العادة التي تجعل صاحبها منهزما!
رمضان، صحوة الضمير و تعظيم لرقابة المرء على نفسه، ككائن أخلاقي مؤمن بالقيم و المبادئ الكبرى التي تتجاوز سلطة المجتمع و رقابة الآخرين… فرصة لإعادة الثقة و الإيمان.. و اختبار صِدق النوايا و صفاء المرايا..
رمضان،… راء الرواء و الرؤية السليمة.. ميم المغفرة و المسلم المنظم.. ضاد الضياء و الضمير الصاحي. .. ألف الانتصار و نون النجاة و النور الالهي… رمضان فكرة و عبرة.. فُرصتنا و حجة الله علينا.
مبارك على الجميع حلول هذا الشهر، مبارك على من اغتنم الفرصة و كسب التحدي و الرهان، و على كل من جعل من الصوم فلسفته في الحياة.