قرآن برغواطة: كذبٌ لا حقيقة (1)

02 ديسمبر 2025 12:15

قرآن برغواطة: كذبٌ لا حقيقة (1)

هوية بريس – د. محمد أبو الفتح

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد؛ فقد شاهدتُ لقاء مصورا بين المسمى (عبد الخالق كلاب) وضيفه (محمد الْمْسيّح)   في موضوع “قرآن برغواطة” ، وقد هالني كثرة ما رأيت وسمعت من التزوير والتلبيس والتدليس على المشاهدين، بأساليب ماكرة قد لا يتفطن لها عوام الناس، فرأيت أن أكشفها حتى تكون ظاهرة للخاص والعام، فأقول وبالله التوفيق:

اعتمد المسمى(عبد الحق كلاب) وضيفُه (محمد الْمْسيّح) على أساليب غاية في المكر والدهاء لتضليل المشاهدين ، أحصيت منها نحوا من عشرة أساليب منها:

1-أُسْلُوبُ التَّهْوِيلِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِطْرَاءِ الْمُتَبَادَلِ:

افتتح المستضيف (عبد الخالق كلاب) اللقاء بالرفع من شأن ضيفه (محمد الْمْسيّح) وتقديمه للمشاهدين على أنه متخصص في “علم الخطاطة والمخطوطات وفقه اللغة المقارن” ، وأنه في هذا الميدان هو الفارس المغوار، والبطل الذي لا يُشَقُّ له غبار،  ثم إن هذا الأخير لم يقصر بدوره في إطراء مُضيفه، والنفخ فيه حتى غدا يبدو أكبر من حجمه الطبيعي بأضعاف مضاعفة، وذلك منهما مكر ودهاء، حتى يأخذا المشاهد بالزِّمام ، فَيُسْلِسَ لَهُمَا الْقِيَادَ، وَيُسَلِّمَ لَهُمَا كُلَّ ما يَصْدُرُ عنهما من كلام. وهذه طريقة ماكرة في إغواء عوام الناس، ولكنها لا تنطلي على أولي العلم والأبصار، فما إن يتكلم المتكلم منهما حتى ينكشف عُواره، ويَنْجَلِيَ عنه غُباره:

سَتَعْلَمُ حَينَ يَنْجَلِي الْغُبَارُ*** أَفَرَسٌ تَحْتَكَ أَمْ حِمَارُ

2-التَّظَاهُرُ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْوَثِيقَةِ وَالْبَاحِثُونَ عَنِ الْحَقِيقَةِ:

رفع (كلاب) وصاحبه في مطلع الحلقة شعار “الثقة في الوثيقة”، وتظاهرا بالبحث العلمي وبالموضوعية، وبالخبرة الطويلة في مجال المخطوطات…

ثم زعما بعد ذلك أن هناك قرآنا برغواطيا فيه العلم العظيم عندهم، بينما هذا القرآن المزعوم لا توجد له وثيقة أصلا، فلست أدري ما الداعي إلى استضافة “خبير بالخطاطة والمخطوطات”، وليست هناك خطاطة ولا مخطوطة أصلا، ولست أدري كيف استطاع هذا الخبير أن يثبت صحة هذه المخطوطة غير الموجودة أصلا، وأن يتجاوز ذلك إلى وصف ما تضمنته من “العلم العظيم عندهم”؟!!!

خبراء المخطوطات حقا لا يثبتون صحة المخطوطة إلا بعد نقدها، نقدا داخليا ونقدا خارجيا:

أما النقد الخارجي : فللتأكد هل المخطوطة أصلية أم مزورة؟ وكيف وأين تمت كتابتها؟ من هو كاتبها أو ناسخها؟

ويتم التحقق من ذلك من خلال:

-تحليل المواد المكونة لهذه الوثيقة: كنوع الورق أو الرق، ونوع الحبر، والتجليد، ومدى تناسبها مع الفترة التي تُنسب إليها.

-التأريخ العلمي: عن طريق الكربون المشع.

-دراسة الخط: (الباليوغرافيا) للعلماء والعلماء.

-فحص اللغة والشكل العام (مثل نوع الخطوط والاختصارات المستخدمة).

-كل ذلك للتحقق من صحة المخطوطة،  وهل تنتمي فعلا إلى الحقبة التي تنسب إليها، أم هي وثيقة مزورة؟

وأما النقد الداخلي : فللتحقق من مصداقية المعلومات المضمنة في المخطوطة، وهل تتطابق مع المعرفة التاريخية أو الثقافية للعصر الذي تنسب إليه؟ وهل اللغة والأسلوب المستعملان يتوافقان مع الكاتب مفترض أو مع عصره وزمانه؟

ويتم التحقق من هذه الأشياء من خلال: تحليل السياق التاريخي والثقافي، ومقارنة النص بنصوص أخرى معاصرة موثوقة، دراسة المصطلحات والتعبيرات المستخدمة…

وبالجملة فالحكم على المخطوطات يحتاج إلى5 علوم رئيسية وهي:

1-الكوديكولوجيا : دراسة المادة والورق والحبر.

2-الباليوغرافيا : دراسة الخط.

3-النقد النصّي : تحليل النسخ واختلافاتها.

4-التحقيق التاريخي : سلسلة النُسّاخ والتملكات.

5-التحليل الأسلوبي والفيلولوجي : نسبة النصّ للمؤلف.

[ينظر: “مقدمة في علم المخطوط العربي”- لويس ماسينيون- ترجمة صلاح الدين المنجد، و”المدخل إلى علم المخطوطات” للمترجم السابق، و”علم المخطوطات: نشأته وتطوره” لأكرم حسن العلاف].

وأما خبير المخطوطات الذي جاء به (كلاب) فهو فريد من نوعه حقيقة لا مجازا؛  فقد استطاع بعبقريته الفذة أن يشتغل على مخطوطة غير موجودة أصلا، وأن يحكم على مضمونها بأنها تحتوي على علم عظيم، ويتحسر على تفريط المغاربة فيها وإضاعتهم لها… وكل ذلك من غير مخطوطة، ولا نقد داخلي، ولا نقد خارجي، ولا شيء من العلوم المعتمدة في دراسة المخطوطات…

وتأمل معي أيها القارئ الكريم هذا الحوار العجيب:

-قال (كلاب) (د45: 25) باللهجة المراكشية، وبفرحة جنونية : “دَابَا أَسِيدِي مُحَمَّدْ دَابَا حْناَ كَانَ عِنْدَنَا قُرْآنْ… دِياَلْ بُرْغْوَاطَة”.

-قال (المْسيّح) مُتَعَالِماً مُفْتِياً: “نَعَمْ… أُو فَرّطُو فِيهْ… يَا رِيتْ كُونْ بْقَا غِيرْ نُسْخَة وَحْدَة”.

-قال (كلاب) مُتَصَابِياً بَاحِثاً عن النص : “آنَا قْرِيتْ هْنَايَا… وَاحْدْ السُّورَة الِّلي هِيَ الْأَخِيرَة…فِيهَا الْعِلْمُ عِنْدَهُمْ… الْعِلْمْ كَامْلُو…”

-قال (المْسيّح): “مَجْمُوعْ فْ سُورَة وَحْدَة… نَعَمْ”

-قال (كلاب) قارئا النص: “…وَفِيهَا سُورَةُ غَرَائِبِ الدُّنْيَا وَهُنَاكَ الْعِلْمُ الْعَظِيمُ عِنْدَهُمْ…”

-قال (المْسيّح): “هَدَا هُوَ الْعِلْمْ اللِّي كُناَّ تَانْهَضْرُو عْلِيه… اَلْقُرْآنُ… مَعْنَاهُ التَّعْلِيمُ الْحَقِيقِي… اَلْعِلْمُ الْحَقِيقِي… هَا هُو حْطُّو لِيكْ فْ سُورَة”.

-قلت: بهذه البجاحة يصف شيئا لم يره قط أنه هو العلم الحقيقي، ويحكم على مضمون وثيقة لم يرها حتى في المنام… في حوار أشبه ما يكون بمسرحية هزلية بَطَلَاهَا هما الثنائي المَرِح : (كلاب) و(المْسيّح)….

ولم يكتف (المْسيّح)  بما سبق بل زعم هو وصاحبه (د49: 50) أن قرآن برغواطة كان مكتوبا بحروف الليبو، التي أخذت منها حروف تيفيناغ… ولست أدري كيف عرفا ذلك، قبل أن يعثرا على المخطوطة، خاصة إذا علمنا أن هذه الحروف هي ليبية في الأصل،  ولم تكن منتشرة في منطقة النفوذ البرغواطي (بين سلا وآزمور)، وإنما وُجدت منقوشة على الصخور في الشرق والجنوب الشرقي للمغرب (فكيك، الأطلس الكبير، وادي درعة) [ يراجع مقال: “الفن الصخري والكتابة الليبية في بلاد المغرب القديم”  للدكتورة حفيظة لعياضي في المجلة التاريخية الجزائرية المجلد 3 العدد 1، ص 8-30].

ومن أعجب الدعاوى التي لا ينقضي منها العجب أن (الْمْسيّح) ذكر أن أحدهم أرسل إليه كتابا مخطوطا في الصيدلة باللغة الأمازيغية [ د56: 40]،

-فقفز مجنون برغواطة قائلا :”…هَدَاكْ الْمَقْطَعْ لِّي رَسْلُو لِيكْ تَايْدْخُل فْ سُورَةْ “غَرَائِبِ الدُّنْيَا… وَهُنَاكَ الْعِلْمُ الْعَظِيمُ عِنْدَهُمْ… مَاشِي بْعِيد ”

-فَأَجَابَهُ ضَيْفُهُ مُجَامِلاً لَهُ: “نَعَمْ … مُمْكِنْ… مُمْكِنْ جِدًّا “.

-قلت: هذا غرائب الدنيا حقا، أن ينتقلا إلى النقد الداخلي للمخطوطة المفقودة بافتراض أن مخطوطة أخرى قد تكون منها، بلا أدنى دليل …

هكذا فليكن العلم ! وهكذا فليكن خبراء علم الخطاطة والمخطوطات!

-وخلاصة الكلام: أن القوم لا يملكون خطاطة ولا مخطوطة، بل إنهم لا يستطيعون إثبات وجود شخصية “صالح بن طريف” ، ولا وجود “قرآن برغواطة” أصلا إلا من خلال مراجع الخصوم، والتي أقرا مرارا أنها غير موثوقة عندهم…

وكل ما عند القوم من هذا القرآن المزعوم نُقُولٌ مترجمة إلى اللغة العربية، بألفاظ ركيكة، ومعان هزيلة، نقلها خصوم الدعوة البرغواطية بزعمهم، ولكنهما مع ذلك، وبكل بَجَاحة وصفاقة وجه، ينتقيان من كلام هؤلاء الخصوم ما وافق أهواءهما، ويردان منها ما لا يخدم غرضهما، في تجسيد مفضوح للذَّاتية في أبشع صورها، والتجرد الكامل من الموضوعية… وهما اللذان يرفعان شعار “الثقة في الوثيقة”، وشعار “البحث عن الحقيقة”، بينما في الواقع: لا وثيقةَ ثَمَّةَ ولا حقيقةَ… إنما هي الأوهام والظنون الكاذبة…

﴿إِنْ هِيَ إِلَّآ أَسْمَآءٞ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ بِهَا مِن سُلْطَٰنٍۖ اِنْ يَّتَّبِعُونَ إِلَّا اَ۬لظَّنَّ وَمَا تَهْوَي اَ۬لَانفُسُۖ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ اُ۬لْهُد۪يٰٓۖ﴾ [النجم: 23].

﴿ اِنْ يَّتَّبِعُونَ إِلَّا اَ۬لظَّنَّۖ وَإِنَّ اَ۬لظَّنَّ لَا يُغْنِے مِنَ اَ۬لْحَقِّ شَئْاٗۖ﴾ [النجم: 28].

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
9°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة