قرآن برغواطة: كذبٌ لا حقيقة (4)

12 ديسمبر 2025 11:19

قرآن برغواطة: كذبٌ لا حقيقة (4)  

الحلقة الأخيرة: صَيْحَةُ نَذِيرٍ

هوية بريس – د. محمد أبوالفتح

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أمّا بعد؛ فقد تقدّم معنا في المقالات السّابقة ذكرُ بعضِ ما تضمّنته حلقة “قرآن برغواطة” التي نشرها (عبد الخالق كلاب) من المغالطات والأساليب الماكرة في تضليل المشاهدين، بلغت أحد عشر أسلوبا، وهي:

1-أُسْلُوبُ التَّهْوِيلِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِطْرَاءِ الْمُتَبَادَلِ.

2-التَّظَاهُرُ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْوَثِيقَةِ وَالْبَاحِثُونَ عَنِ الْحَقِيقَةِ.

3-التَّظَاهُرُ بِالْمُحَافَظَةِ وَالتَّدَيُّنِ لِخِدَاعِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ.

4-التَّظَاهُرُ بِالْبَحْثِ عَنِ الْحَقِيقَةِ وَدَعْوَةُ الْمُشَاهِدِينَ إِلَى سَمَاعِ شُبُهَاتِهِمْ.

5-التَّظَاهُرُ بِالتَّمَكُّنِ فِي الْعِلْمِ، وإِبْهَارُ الْمُشَاهِدِينَ بِأَسْمَاءٍ وَمُصْطَلَحَاتٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ.

6-التَّظَاهُرُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ الْقَدِيمَةِ كَالْعِبْرِيَّةِ وَالآرَامِيَّةِ.

7-اَلتَّظَاهُرُ بِالتَّمَكُّنِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ.

8-اِسْتِعْمَالُ مُغَالَطَةِ “رَجُلِ الْقَشِّ”.

9-اِسْتِعْمَالُ مُغَالَطَةِ “الثُّنَائِيَّةِ الْكَاذِبَةِ”.

10-اِسْتِعْمَالُ مُغَالَطَةِ “تَجَاهُل الْمَطْلُوبِ”.

11-اِسْتِعْمَالُ مُغَالَطَةِ “الِاشْتِرَاك”.

وفي هذا المقال أذكر –الأسلوب الثّاني عشر والأخير، لا على سبيل الحصر لأساليب القوم؛ فإنّي قد أعرضت عن باطل كثير تَفَوَّه به (كلوب) وضيفُه (الْمْسيّح)، استغناء مِنِّي بما ذُكر عمّا لم يذكر، وأرجو أن يكون فيما ذكر -إن شاء الله- كفايةٌ ومَقْنَعٌ لمن عقل وأنصف. فأقول مستعينا بالرحمن على أهل الإفك والبهتان، ومستنصرا به على أهل الظلم والعدوان:

12-إِطْلَاقُ ادِّعَاءَاتٍ تَارِيخِيَّةٍ كَاذِبَةٍ فِي صُورَةِ حَقَائِقَ مُسَلَّمَةٍ:

سأكتفي من ذلك بمثالين:

-المثال الأول: ادّعاءُ (كلاب) أنّ قرآن برغواطة كان متداولا، يُقرأ في القرن الخامس والسّادس الهجريّ، وعزوُه ذلك إلى ابن حوقل والبكري وصاحب الاستبصار؛ وذلك لإيهام المشاهدين ثبوتَ هذا القرآن المزعوم بالتواتر والانتشار الواسع…

قال (كلاب) [ د46:35]: “هَادْ الْقُرْآنْ رَاهْ كَانْ مُتَدَاوَلْ حْتَّى الْقَرْنْ الْخَامِسْ وَالْقَرْنْ السَّادِسْ الْهِجْرِي… فْ الْقَرْنْ الْخَامْسْ وَالسَّادْسْ كَانْ مُتَدَاوَلا أُو هَادِي بْشَهَادَةْ ابْنْ حَوْقَلْ، أُو بْشَهَادَةْ الْبَكْرِي، أُو بْشَهَادَةْ صَاحِبْ الِاسْتِبْصَارْ لِّي عَاشْ فْ الْقَرْنْ 6 هـ/12م . . .”

-قلت: مع أنّ (كلاب) يدّعي التّخصص في التّاريخ، فإنّ كلامه ليس دقيقا، وذلك لأنّه لا دليل على تداول قرآن برغواطة في القرن السادس الهجري، وإنما تدل المصادر التي أحال عليها على اندثار ديانتهم في منتصف القرن الخامس الهجري، بعد سقوط دولتهم، وتفصيل ذلك كالآتي:

-أمّا ابن حوقل؛ فإنه قد مات حوالي سنة 367هـ، أي: توفّي في أثناء القرن الرابع، فكيف يشهد على تداول قرآن برغواطة في القرنين الخامس والسادس؟!

-وأمّا أبو عبيد البكري؛ فقد قال ما نصّه: “… ولم تزل برغواطة في بلادها، مُعْلِنة بدينها، وبنو صالح بن طريف ملوكُها، إلى أن قام فيهم الأمير تميم اليفرني، وذلك بعد عشرين وأربعمائة من الهجرة، فغلبهم على بلادهم، وسباهم، وجلا من بقي منهم، واستوطن ديارهم وانقطع أمرُهم، وعفا أثرُهم ولم يَبْقَ لضلالهم باقية، ولا من أواصرِ كُفْرِهِمْ آصرة ” [ المسالك والممالك 2/827].

-وأمّا صاحب الاستبصار؛ فقال بعد أن ذكر القبائل التي دخلت في ديانتهم: “… ولم يزالوا على ‌تلك ‌الديانة إلى عام 452″ [ الاستبصار ص 200] .

*والحاصل: أنّ ما ذكره (كلاب) غير دقيق، والصحيح هو أن قرآن برغواطة لم يتجاوز تَدَاوَلُه زمانيا القرن الخامس الهجري، واندثر في النصف الثاني منه، ولم يتجاوز تداوله مكانيا نفوذَ دولة برغواطة، والذي كان يمتدّ من نهر أبي رقراق شمالا (سلا) إلى نهر أم الربيع جنوبا (آزمور)، أي: نحو 200 كلم، ومن المحيط الأطلسي غربا إلى سفوح الأطلس المتوسط شرقا (غرب الخنيفرة)، أي: حوالي 300 كلم، فهي بقعة صغيرة من مساحة المغرب الأقصى. ولا نَنْسَ أنّ البرغواطيين فرضوا قرآنهم وديانتهم على الأمازيغ بالقوّة، وأبادوا جميع من خالفهم في منطقة نفوذهم، فقد ذكر البكريّ وغيره أنّ ثالث ملوكهم – وهو: يونس بن إلياس بن صالح بن طريف- ” أظهر ديانتهم، ودعا إليها، وقتل من لم يدخل فيها، حتّى أخلى ثلاثمائة مدينة وسبعا وثمانين مدينة، حمل جميع أهلها على السّيف؛ لمخالفتهم إيّاه، وقتل منهم بموضع… سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين قتيلا” [المسالك والممالك 2/821].

-قلت: هذه مجزرة بشريّة، وإبادة جماعيّة، في حقّ الأمازيغ، لم يرتكبها الأمويّون ولا الأدارسة ذوو الأصول العربية، وإنّما ارتكبها البرغواطيّون الأمازيغ في حق إخوانهم الأمازيغ، ومع ذلك يدافع عنهم (كلاب)، ويريد أن يُحْيِيَ قرآنهم وعقيدتهم التي استباحوا بها دماء آلاف الأمازيغ وأعراضهم وأموالهم.

-المثال الثاني: من الدّعاوى الباطلة أيضا التي ألقاها (كلاب) ادعاؤه أن قرآن برغواطة كان موجودا قبل أن يبدأ التدوين في المنطقة العربية في النصف الثاني من القرن الثاني بزعمه، وكعادة صاحبه (المسيح) فقد وافقه على دعواه، وبكل تأكيد…

-قلت: هذه شبهة أثارها المستشرقون وعلى رأسهم (جولد تسيهر)، وتبعه على ذلك المستغربون العرب، ورغم أنّ علماء المسلمين قد أبطلوها وأجابوا عنها بما لا يدع مجالا للشكّ، إلّا أنّ المستغربين لا يزالون يلوكونها ويجترونها بين الفينة والأخرى…

قال (كلاب) [د50: 15]: “فُوقَاشْ بْدَا التَّدْوِينْ رَاهْ حْتَّى النِّصْفْ الثَّانِي مِنَ الْقَرْنْ الثَّانِي الْهِجْرِي عَادْ بَدَاوْ تَيْكَتْبُو حْنَا رَاهْ عْنْدْنَا قُرْآنْ”. ووافقه (الْمْسيّح) كعادته.

-والجواب عن هذا أن يقال:

-إن كان يريد المقارنة بين القرآن الكريم وبين قرآن برغواطة؛ فالقرآن قد كُتب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في الجلود واللّخاف وغيرها من الأدوات التي كانت متاحة حينها، وجُمع في مصحف واحد في خلافة أبي بكر الصديق س، وهذا يعني أن القرآن كان مكتوبا قبل أن يولد صالح بن طريف بنحو قرن من الزمان.

-وإن كان يريد المقارنة بين الحديث النبويّ وبين قرآن برغواطة؛ فالحديث بدأت كتابتُه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ومن ذلك صحيفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في فرائض الصدقة [صحيح البخاري 1454]، والصّحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما [صحيح البخاري 113، ومسند أحمد 6510، وسنن أبي داود 3646، وتقييد العلم للخطيب ص84، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر1/73]، وصحيفة أبي شاه رضي الله عنه [ البخاري 2434، ومسلم 1355 ]، وصحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه  [البخاري 111 ]، وصحيفة سمرة بن جندب رضي الله عنه  [ سنن الترمذي بعد الحديث 1296، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1261]، وصحيفة عبد الله بن أبي أوفى [ البخاري 2833 ]، وصحيفة جابر بن عبد الله [ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار ص: 11]، و صحيفة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه [ ذكرها الدكتور أكرم العمري في “البحوث” ص: 228 وذكر أنها موجودة في مكتبة شهيد علي بتركيا ] … ثم اتسعت دائرة كتابة الحديث في زمن التابعين أكثر، وبلغت أوجها في زمن أتباع التابعين ومن جاء بعدهم… والحاصل أن كتابة الحديث قد بدأت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يولد صالح بن طريف بنحو قرن من الزمان أيضا.

وقد أبقى الله القرآن وأبقى حديث نبيه صلى الله عليه وسلم، وقطع دابر قرآن برغواطة حتى لم يبق له ذكر ولا أثر، لا في الصدور ولا في السطور، هو والذي جاء به، وصدق فيه قوله تعالى: ﴿اِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَ۬لَابْتَرُ﴾. والحمد لله رب العالمين.

خاتمة: وهي صَيْحَتَا نَذِيرٍ… صيحةٌ للمسلمين عموما، وصيحةٌ للمسؤولين خصوصا.

-أما صيحتي ونصيحتي للمسلمين عموما فأقول: “يا معشر المسلمين! احذروا هؤلاء الدجالين المحتالين الذين يريدون صدّكم عن دينكم بشبه هي أوهى من خيوط العنكبوت… لا تمكّنوهم من أسماعكم، وذروهم في خوضهم يلعبون”.

-وأما صيحتي ونصيحتي للمسؤولين فأقول: “رجاءً كُفُّوا هؤلاء السفهاء عن المسلمين، وألجموهم عن الطعن في دين المغاربة، وزعزعة عقيدتهم، والعبث بأمنهم الروحي… رجاءً تصدوا لهذه الدعوات الموقدة لنار النعرات العرقية والطائفية بين العرب والأمازيغ، والتي تعتبر المسلمين ذوي الأصول العربية، والأنساب الشريفة غزاة (كالأدارسة والعلويين)؛ ولهذا تجدهم يحتفون بدولة برغواطة الانفصالية المتمردة على الدولة الأموية والإدريسية، مُتَنَاسِينَ أنَّ الإسلام دخل المغرب على يد الأمازيغ (طارق بن زياد)، وأنّ الذين أسقطوا الدولة البرغواطية وقضوا عليها هم الأمازيغ المرابطون [ تاريخ ابن خلدون 6/279-280]، وأن الإسلام قد أذهب عنا عصبية الجاهلية، وجمعنا على عبادة الله وحده، واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل معيار المفاضلة بيننا هو التقوى”.

وفي الختام أقول لهؤلاء الْمُرَوِّجِينَ لِقُرآن برغواطة، والطاعنين في القرآن الكريم من طَرْفٍ خَفِيٍّ: ﴿قُلَ اَرَٰٓيْتُمُۥٓ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اِ۬للَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِۦ مَنَ اَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِے شِقَاقِۢ بَعِيدٖۖ﴾ [فصلت: 51].

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
13°
19°
السبت
18°
أحد
18°
الإثنين
15°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة