قراءة في سيكولوجية الفساد حراك الجيل الرقمي لأجل لتغيير

قراءة في سيكولوجية الفساد حراك الجيل الرقمي لأجل لتغيير
هوية بريس – د. الحضري لطفي
مقدمة
هذه القراءة تنطلق من منظورٍ نفسيٍّ فطري، يُحاول أن يفهم الفساد لا بوصفه ظاهرةً اقتصادية أو سياسية فحسب، بل كخللٍ في توازن النفس بين فطرتها وغرائزها. ولسنا في هذا المقال بصدد عرض الأرقام أو الإحصاءات عن الفساد في المغرب، فذلك مجال الاقتصاديين والهيئات المختصّة القادرة على قياسه بلغة المؤشرات؛ إنما غايتنا أن نقرأه بلغة النفس والفطرة، لأن جذوره أعمق من الأرقام وأسبق من القوانين. فالفساد في جوهره ليس انحرافًا طارئًا في التاريخ، بل تصريفٌ غريزيٌّ لنوازعَ كامنةٍ في الإنسان حين يختلّ ميزانه بين الفطرة والغريزة.
منذ أن طوّعت النفس لابن آدم قتل أخيه، انكشفت في الإنسان قابليةُ الفساد بوصفها ميلًا بدائيًا نحو التملك والتفوّق والسيطرة. هذه النوازع، إن لم تُهذَّب بالضمير والإيمان، تتحول إلى آلياتٍ نفسيةٍ دفاعيةٍ تبرّر الحسد والغيرة والاحتيال والحقد باسم المصلحة أو البقاء.
الفساد إذن ليس خرقًا للقانون فحسب، بل خيانةٌ للميزان الداخلي الذي يُفترض أن يُبقي الغريزة في خدمة القيم لا في صراعٍ معها. وكل فعلٍ فاسدٍ يبدأ بانزياحٍ خفيٍّ في الوعي، حين يُستبدل الشعور بالحقّ بشعورٍ بالمكسب، ويتحوّل التقدير الاجتماعي من ثمرةٍ للصدق إلى غايةٍ تُنافِس قيمته وتُزيحها من موضعها الطبيعي.
إننا هنا لا نُناقش الفساد كظاهرة إدارية أو مالية، بل كصراعٍ داخليٍّ دائمٍ بين نوازع الغلبة والغنيمة من جهة، ونداء الفطرة نحو العدل والأمانة من جهة أخرى. وكلما انتصرت الغريزة على الفطرة، اتّسعت دوائر الفساد في النفس أولًا، ثم في المجتمع والدولة تباعًا.
من هنا، تأتي أهمية هذه القراءة النفسية التي تحاول أن تكشف رغبة الجيل الرقمي في كسر جدار الفساد، لا من موقع الغضب العابر، بل من موقع الوعي الذي يرفض التطبيع مع الانحراف. فليس من الواقعي أن يُهدم الفساد دفعةً واحدة، إذ تراكم عبر أجيالٍ وثقافاتٍ ومؤسساتٍ، لكن الواقعي والمطلوب هو البدء بالفعل، لا الانتظار السلبي ولا القبول بالواقع الذي يُغذّي الفساد ويمنحه شرعيته الصامتة.
إنّ كل شرارة وعي، مهما كانت صغيرة، تُحدِث في جدار الفساد شقًّا يمرّ منه ضوء الإصلاح. فالبداية، مهما بدت متواضعة، أصدق من صبرٍ خانعٍ يبرّر الخطأ باسم الواقعية. ولهذا، فإنّ الجيل الرقمي، بما يمتلكه من أدوات كشفٍ ومساءلة، لا يطالب بالمستحيل، بل يُعلن أن الوعي أول الطريق إلى التصحيح، وأنّ مقاومة الفساد تبدأ من لحظة رفضه نفسيًا، قبل مواجهته قانونيًا أو مؤسساتيًا.
البنية النفسية للفساد
الفساد سلوكٌ صادر عن نفسٍ أمّارة تستبدل القانون بالمنفعة، والحقّ بالمصلحة، والضمير بالتأويل.
يمكن تحليل دافعيته عبر ثلاث طبقات:
1. المستوى المعرفي: تشوّه في الإدراك الأخلاقي يجعل صاحبه يرى الرشوة “حيلة”، والمحسوبية “ذكاء”، والتهرب “تدبيرًا”. هذا الانحراف المعرفي يُسمّى في المقاربة الفطرية “إزاحة القيم”، أي نقل المعيار من الحقّ إلى النفع.
2. المستوى الانفعالي: الفساد يُغذَّى بالخوف والطمع؛ خوفٌ من الخسارة، وطمعٌ في الزيادة. لذلك يعيش الفاسد في قلقٍ دائمٍ، يُغطيه بالابتسامة والتبرير.
3. المستوى السلوكي: يتحول التشوّه المعرفي والانفعالي إلى ممارساتٍ متكررة، تُصبح مع الزمن عادةً اجتماعية مبرّرة، حتى يختفي الإحساس بالذنب.
الفساد كمناعة نفسية فاسدة
ننظر إلى الفساد كآلية دفاعٍ معكوسة:
– حين يعجز الفرد عن تحقيق ذاته بجهده، يُعوّض بالغش أو النفوذ أو الرشوة.
– وحين يشعر بالدونية، يُخفيها بالتحكم في مصائر الآخرين.
– وحين يغيب الشعور بالانتماء، يُنمي الولاء للمصلحة الخاصة بدل الجماعة.
الفساد هنا ليس انحرافًا اقتصاديًا فحسب، بل اضطرابٌ في الإحساس بالقيمة والكرامة. إنه محاولة مرضية لتعويض الشعور بالعجز أو الرفض أو الإقصاء، من خلال السيطرة أو الكسب السهل.
منطق العدوى النفسية
الفساد ينتقل بالاقتداء أكثر مما ينتقل بالقانون. حين يرى الشاب أن النجاح يمر عبر الوساطة، يُصاب بما نسميه في العلاج الفطري إحباط العدالة؛ أي انكسار الرابط بين الجهد والمكافأة. هذا الإحباط يُنتج ثلاثة أنماطٍ نفسية في المجتمع:
1. المُستسلم: يبرر الفساد لأنه فقد الأمل في تغييره.
2. المُقلّد: يمارسه خوفًا من التهميش.
3. المُقاوِم: يواجهه باسم الضمير والعدالة.
إذًا، المعركة ليست فقط ضد شبكات الفساد، بل ضد ثقافةٍ نفسيةٍ ترسّخ أن “الالتفاف أنفع من الالتزام”.
أثر الفساد على الوعي الجمعي
الفساد لا يُفرغ خزائن الدولة فقط، بل يُفرغ المعنى من حياة الناس. إنه يدمّر الثقة، ويُحدث انفصالًا بين الفرد ومؤسساته، فيتحول الوطن من فكرةٍ جامعة إلى سوقٍ للمصالح. من منظور علم النفس الفطري، حين تتكرر الخيانة المؤسسية، تنشأ في النفوس عُقدة الإقصاء: إحساسٌ جماعيّ بأن القيم لا جدوى منها.
وحين تتعمق هذه العقدة، يبدأ الشباب في الهجرة أو الانسحاب الداخلي، لأنهم لا يجدون صدىً لأخلاقهم في الواقع.
حين نقارن بين الدول العربية في مؤشرات الفساد والنمو، لا نقرأ فقط تفاوتًا إداريًا، بل تفاوتًا في النضج النفسي للمجتمع السياسي. فحيث يسود احترام القانون، تكون النفس الجماعية قد تجاوزت طبقة “الأنا الأنانية” إلى “الأنا المسؤولة”. أما حين يُحتقر القانون، فذلك يعني أن النفس الجمعية لا تزال أسيرةً للغريزة السلطوية.
وبالتالي، العلاقة بين الفساد والنمو هي علاقة بين النضج النفسي والازدهار الاقتصادي.
اضطراب غريزة الولاء والانتماء
الفساد لا يُضعف الاقتصاد فقط، بل ينخر في أساس الولاء والانتماء. فعندما تتآكل الثقة ويُختزل الصالح العام في مصالح فردية، تبدأ الأمة في فقدان أهم سلعةٍ غير مرئية تملكها: الالتزام الجماعي بالمعنى والواجب. ومع كل انحرافٍ عن النزاهة تتفكك الروابط النفسية التي تشدّ الناس إلى وطنهم، فيتحول الانتماء من علاقة وفاءٍ إلى علاقة منفعة، وينعكس ذلك على كل مجالات الحياة من الاستقرار الأمني إلى النمو الاقتصادي، لأن الشعور بالعدل هو البنية التحتية لكل ولاءٍ حقيقي.
وتتجلّى آثار الفساد في ثلاثة عناصر متشابكة تُشكّل جوهر الأزمة:
1- يُسفر الإحباط المستمر عن هجرة الأدمغة والحرفيين وأصحاب المشاريع الصغيرة؛ فالمواطن الذي يعتقد أن الكفاءة لا تُكافأ وأن الانتماء لا يُقدَّر، يختار البحث عن بيئة تقدّر مهارته وتمنحه مكانة وليس بيئة تستهلك جهده وتسرق حقه. خروج هذه الطاقات يعني خسارة رأس المال البشري الذي يصنع الابتكار ويوفر فرص عمل، وبالتالي تباطؤ النمو وضعف القدرة التنافسية.
2- يتراجع دافع المبادرة والاستثمار المحلي: رائد الأعمال الذي يرى أن مشروعه سَيُبتَلع بالواسطة أو أن أرباحه ستُنهب تحت ذرائع الفساد، يميل إلى تجميد مشروعه أو تحويل أمواله إلى وجهات آمنة خارج البلد -ما نسميه هروب رؤوس الأموال- مما يقلص الاستثمار ويزيد الاعتماد على التمويل الخارجي.
3- يولّد انعدام الانتماء سلوكيات انتقامية أو استهتارية تجاه الممتلكات العامة؛ المواطن الذي يشعر بأن الوطن لا يحتضنه قد يلجأ -وعيا أو جهلًا- إلى إيذاء ما حوله كنوع من التعبير عن الاحتقار أو كمسألة توازن نفسي: إذا الوطن لا يحمي حقي، فلماذا أحمي ممتلكاته؟ هذا السلوك يضاعف تكاليف الصيانة ويرفع كلفة الخدمة العامة ويقلل جودة البنية التحتية، ويعيدنا إلى حلقة اقتصادية سلبية.
4- الانهيار النفسي للعقد الاجتماعي يجعل المجتمع أرضًا خصبة لاستغلال خارجي: المخابرات أو القوى الخارجية تستغل شعور الإقصاء والمرارة لتجنيد عناصر محلية عبر إغراءات مادية أو وعود بالمكانة، أو عبر استثمار الانقسام لإشاعة الفوضى. تحويل إحباطات داخلية إلى خيانةٍ أو تواطؤٍ مع عدو خارجي هو نتيجة متوقعة حين يفتقد المواطنون سبل الإصلاح والعدالة.
بالتالي، الفساد لا يستهلك المال وحده؛ بل يُقوّض الثقة ويُجهِض الطاقات ويُسهِم في هجرة الكفاءات وهروب رؤوس الأموال ويزيد من مخاطر الاختراق الأمني.
رفع الوعي بمعنى الفساد
حين ندرس الفساد من الزاوية النفسية، يجب أن نبدأ من جذره التربوي. فالفاسد في موقع القرار كان يومًا تلميذًا صغيرًا تعلّم أن الغشّ مهارة، وأن النجاح لا يحتاج إلى جهدٍ بل إلى حيلة. هكذا يُزرَع الفساد في المدرسة قبل أن يُمارَس في الدولة، ويُربَّى عليه الطفل في بيئةٍ تتساهل مع ما تراه “غشًا بسيطًا” بينما هو في الحقيقة تشويهٌ مبكرٌ لمعنى العدالة والجهد.
التلميذ الذي يرى أن الغش ذكاءٌ وأن الالتزام سذاجة، يُعيد بناء مفهوم النجاح في عقله على أساسٍ فاسد: أن القيمة لا تُكتسب بالاستحقاق، بل بالتحايل. وحين يتخرّج هذا التلميذ إلى الحياة العامة، لا يتخلى عن الغش، بل يوسّع نطاقه. فيصبح المسؤول الذي يزوّر، أو الموظف الذي يتلاعب، أو المواطن الذي يبرّر الرشوة. وهكذا ينتقل الفساد من سلوكٍ مدرسيٍّ إلى ثقافةٍ وطنيةٍ متجذّرة.
الأسَر أيضًا تشارك في تكريس هذا الانحراف حين تتعامل مع الغش على أنه “تحرّز مشروع” أو “دهاء مطلوب”، بل إن بعض الآباء يساعدون أبناءهم على الغشّ باسم الخوف عليهم من الرسوب. بهذا الفعل الصغير يُكسر الرابط بين الجهد والنتيجة، وبين الأخلاق والمكافأة. ويفقد الطفل ما يسميه علم النفس الفطري “التصريف السليم للدافع”، أي توجيه الرغبة في النجاح نحو العمل لا نحو التحايل.
الفساد إذًا لا يبدأ في المكاتب ولا في المناقصات، بل في الورقة المدرسية التي يُكتب فيها الكذب للمرة الأولى. ومن هنا تكمن خطورة التطبيع النفسي مع الفساد؛ إذ يدخل المجتمع في دائرة مغلقة: نحارب الفساد في المؤسسات بينما نُنشئه في المدارس والبيوت. فيتخرّج كثير من التلاميذ وهم يحملون في لاوعيهم قابليةً نفسيةً للفساد، أي استعدادًا داخليًا لتبرير الغشّ كلما رأوا فيه وسيلةً للربح أو حمايةً من الخسارة، فيتحوّل الغش في وجدانهم من خطأٍ أخلاقي إلى خيارٍ واقعيٍّ مشروع.
لهذا لا يمكن لأي إصلاح اقتصادي أو قانوني أن ينجح ما لم يُرفَق بإصلاحٍ تربويٍّ يُعيد تعريف النجاح، ويغرس في الأطفال قيمة المكابدة والجهد، حتى يفهموا أن الشرف في المحاولة الصادقة، لا في النتيجة المزيفة. فمن يَغشّ اليوم في امتحانٍ بسيط، قد يَغشّ غدًا في مصير وطن.
الفساد “أنا كنعرف”: زيف الكفاءة وخداع الإصلاح
الفساد لا يقتصر على من يختلس المال العام أو يسيء استعمال السلطة، -كما ذكرنا- بل يمتد إلى كل مَن يقدّم عمله بغير صدقٍ أو أمانة، مهما كان موقعه أو مهنته. فحين يدّعي الإنسان -حِرفيًّا كان أو أستاذًا أو مهندسًا أو محاميًا أو حتى مكوّاجيًا …- معرفة ما لا يعرف، أو يتظاهر بالإتقان وهو عاجز عنه، يتحول من خادمٍ للمنفعة العامة إلى مُعطِّلٍ لها، ومن مُصلحٍ إلى مُفسدٍ خفيّ. وكذلك من يَعِد بإنجاز عملٍ ثم يتهرّب، أو يضمن جودةً لا يملكها، أو يُخفي تقصيره اتقاءً للّوم، إنما يشارك في شبكةٍ الفساد الذي يُضعف الثقة بين الناس. وحين تضيع الثقة، ينهار الأساس النفسي الذي يقوم عليه كل تبادُلٍ ماليٍّ أو اجتماعي، فيعيش الناس في دائرة الشكّ والمراقبة الدائمة، بدل أن يكون التعامل مبنيًا على الطمأنينة والمسؤولية. فمن ينحرف عن الحق في عمله، أيًّا كان حجمه أو مجاله، يفسد في الأرض من حيث لا يدري، ويُسهم في تآكل البنية الأخلاقية التي تحفظ للأمم قوامها وكرامتها.
مسارات نفسية لتصحيح الفساد واستعادة الانتماء
استعادة الانتماء الوطني لا تتحقق إلا بإعادة بناء الوعي بالحقّ والعدالة، وحماية المصالح المشروعة التي تُعيد للمواطن ثقته في الجهد والجدارة. حين يرى الإنسان أن العدالة تُطبَّق فعلاً، يبدأ بتقدير البقاء والعمل في وطنه كقيمةٍ معنويةٍ لا كمخاطرةٍ اقتصادية. ولتحقيق هذا الاتزان، نقترح خطة متعددة الطبقات:
1. التصحيح المعرفي–القيمي: إعادة تشكيل المفاهيم المرتبطة بالكسب والنجاح والنفوذ، لتتحرر من منطق الغنيمة وتعود إلى منطق الاستحقاق. فالفكر الفاسد لا يبدأ باليد، بل بالفكرة التي تُبرّرها، وإصلاح الفكر مقدمةٌ لإصلاح السلوك.
2. التصحيح الانفعالي: تحويل الطاقات الانفعالية السلبية مثل الخوف والطمع والحسد إلى طاقةٍ إيجابية من الأمل والمنافسة الشريفة، عبر إعادة توجيه دوافع الخوف من الفقر والطرد الاجتماعي نحو العمل المنتج بدل التحايل.
3. التصحيح الاجتماعي: غرس ثقافة الشفافية والمساءلة من القاعدة إلى القمة حتى لا يبقى الفساد “سرًّا عامًا”. فحين يرى المواطن القدوة في محيطه الصغير، يترسخ الإحساس الجماعي بالنزاهة أكثر من أي حملة رسمية.
4. التصحيح الروحي: ربط الأمانة بالعبادة لا بالمراقبة. فقول النبي ﷺ: “اتقِ الله حيثما كنت” هو مبدأ العلاج الذاتي الدائم؛ إذ تتحول المراقبة الإلهية إلى مناعة داخلية تمنع الفساد قبل وقوعه.
5. التصحيح السلوكي–الاستهلاكي: أحد جذور الفساد الخفية يكمن في الهوس بالاستهلاك والمقارنة الاجتماعية؛ فالكثير من الأفراد يفسدون بدافع إشباع نزعات الغريزة التملكية أو رغبة الظهور الاجتماعي. التنافس على المظاهر يدفع الإنسان إلى تبرير الوسائل غير المشروعة للحفاظ على مستوىٍ ماديٍّ أو رمزيٍّ متخيَّل. لذلك، يصبح من الضروري رفع الوعي بخطورة هذا النمط النفسي، وتربية الذوق الاقتصادي المتزن القائم على القناعة وضبط الرغبات.
تقليل الاستهلاك الواعي ليس فقط سلوكًا اقتصادياً، بل علاجٌ نفسيٌّ للفجوة بين الرغبة والواقع، وبين الصورة الاجتماعية والحقيقة الذاتية.
6. الرادع القانوني: لا يكتمل مسار التصحيح دون ردعٍ واضحٍ يُوازن الإصلاح النفسي. فالنّاس ثلاثة: من تردعه خشية الله، ومن تردعه هيبة القانون والعقاب الصارم، ومن لا يردعه إلا خوف الموت وخسارة المصير. لذلك يجب أن يتكامل الوعي الداخلي مع الردع الخارجي. فحيث يغيب القانون، يفسد الضمير، وحيث تُطبَّق العدالة، تستقيم النفوس. وتُعد تجربة الصين مثالًا بارزًا على فاعلية الصرامة القانونية في مكافحة الفساد؛ إذ تصل فيها عقوبة الفساد والاختلاس الذي يلحق أضرارًا جسيمة أو ينطوي على مبالغ ضخمة إلى الإعدام. وعلى الرغم من أن هذا الإجراء قاسٍ ومثير للجدل من الناحية الإنسانية والحقوقية، إلا أنه أثبت فاعليته في الحد بشكل ملموس من حالات الفساد الكبيرة ونجح في استعادة هيبة القانون وثقة المواطن في قدرة الدولة على المحاسبة الفورية والصارمة.
بهذه المسارات يُعاد ترميم المعنى الداخلي للمواطنة، ويتحوّل الإصلاح من مجرّد سياساتٍ خارجية إلى عملية تصحيح نفسي جماعي تعيد للأمة اتزانها الفطري، وللوطن قيمته في النفوس قبل أن تعود له مكانته في العالم.
خاتمة:
الفساد لا يُستأصل بالوعظ وحده، ولا يُقاوَم بالقانون وحده، بل بتكامل الضمير والعقاب. فليس جميع الناس تُهذّبهم الفطرة، وكثيرٌ منهم لا يردعهم إلا القانون حين يغيب الوازع الداخلي. لهذا، فإنَّ المجتمع لا يُصلح نفسه إلا إذا جمع بين وعيٍ نفسيٍّ يوقظ الضمير ونظامٍ قانونيٍّ يفرض الهيبة. فحيث يغيب الردع، تفسد النفوس، وحيث تُطبَّق العدالة، يُبعث الإحساس بالانتماء.
إنّ إعادة بناء الولاء للوطن لا تتمّ بخطاب العاطفة، بل بترميم الثقة بين المواطن والدولة. فالمواطن لا يخلص لوطنٍ لا يحمي حقَّه، والحقّ لا يُصان في وطنٍ يستهلك أكثر مما يُنتج، ويُظهر أكثر مما يُتْقن. لذلك فإنّ تقليص الاستهلاك المظهري وضبط الرغبات واستعادة المعنى القيمي للعمل هي ركائز نفسية لبناء ولاءٍ صادقٍ ومستدام.
ويقوم هذا النموذج التصحيحي على الخطاب الإلهي القرآني الذي جمع بين الترغيب والترهيب، والرجاء والخوف، والعطاء والعقاب؛ إذ لا يُصلح النفسَ وعدٌ بلا وعيد، ولا يُقوّم السلوكَ حبٌّ بلا هيبة. فكما أن الجنة تُبنى بالرجاء في رحمة الله عز وجل، فإن النار تذكيرٌ دائمٌ بعاقبة الظلم والفساد.



