قراءة نقدية في النظرية المقاصدية للفيلسوف طه عبد الرحمن (3/2)
هوية بريس – ذ. طارق الحمودي
سبق أن بينت في المقال السابق وجه ضعف انتقاد الأستاذ طه عبد الرحمن لمنصة التقسيم المقاصدي عند الفقهاء والأصوليين، مدعيا أن حصر كليات الضروريات في خمسة “يخل بالشروط المنطقية والمنهجية“، وظهر جليا أن الأستاذ وفقه الله جانب الصواب في ذلك لأسباب منهجية ومنطقية تخص عدم انتباهه لفلسفة التقسيم والأسئلة المنشئة، وكان مما اعترض به الأستاذ أيضا ما جعله “تأخير ما شأنه التقديم“، وقصده ما وقع في كلام الشاطبي من جعله “مكارم الأخلاق” في قسم التحسينيات، فاستنكر الأستاذ ذلك بدعوى أنه “يوهم بأنها مجرد كماليات من الممكن الاستغناء عنها،أي أنها بمنزلة ترف سلوكي للمكلف أن يأخذه أو يرده” و“..لا ينال المكلف بفقدها إلا جرح في المروءة..”! هكذا فهم الأستاذ طه موقف الفقهاء من الأخلاق، وقد كان على خطأ…خطأ كبير!
لتحقيق هذا لا بد من مقدمة متعلقة بالتحقيق في مفهومين، التدين ومكارم الأخلاق، وبيان طبيعة العلاقات بين المجموعتين، أما التدين أو التعبد فهو كما قال الشاطبي: “الرجوع إلى الله في جميع الأحوال، والانقياد إلى أحكامه على كل حال“، فهذا هو المقصد الأصلي من خلق العباد، والضروريات الأربعة المتبقية وهي حفظ العقل والنفس والنسل والمال خادمة، وما كانت ضروريات إلا لأنه بدونها لم يحفظ أصل التعبد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام“، ولأجل هذا زاد بعضهم “حفظ الأعراض” وأدخلها غيره تحت “حفظ النسل“، وقال عليه الصلاة والسلام :”لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مؤمن” وهذا يدل على أنها ذات قيمة كبيرة في نظر الشرع.
ولذلك قال أيضا:”ومن مات دون ماله فهو شهيد“، وقد بين الله تعالى أهمية أصل المال وما يدخل تحته من طعام وشراب ولباس ومسكن وغيرها فقال جل وعلا: “وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا“، فالمال قوام للحياة التي هي ظرف للتعبد، وأما تفاصيل الشريعة وصفاتها فهي وسيلة لتحقيق أصل التعبد، ولذلك تختلف باختلاف الأمم، ويعد جزء “العبادات” فيها أصلا أصيلا، والقصد منها تحقيق “الخضوع لله والتوجه إليه والتذلل بين يديه والانقياد تحت حكمه وعمارة القلب بذكره حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله ومراقبا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيا في مرضاته وما يقرب إليه على حسب طاقته“.
ليس يخفى على الناظر في المقاصد أن تفاصيل الشريعة تشمل الضروريات، وهي ما كان مقيما لأصل التعبد وما لا يقوم إلا به من أصول الدنيويات المادية الأربعة ، ومنها ما هو مكمل لهذه الضروريات، ومنها ما هو حاجي ومنها ما هو تحسيني، ومنها ما هو مكمل لهما، والحاجيات والتحسينيات نفسها مكملة للضروريات التي تخدم قيام أصلها وهي الكليات الخمسة الضرورية، والتي تؤول آخرا إلى قيام أصل التعبد والدين كما هي فلسفة المقاصد على التحقيق.
وأما مصطلح الأخلاق فله إطلاقان، إطلاق بالمعنى الأعم المنطبق على الشريعة كلها، ظاهرها وباطنها، عباداتها وعاداتها، وهي التي قصدها الشاطبي بإيراد حديث إتمام صالح الأخلاق -وهي الرواية التي نسبها طه عبد الرحمن للبخاري في الأدب المفرد وهو مصدر، وللسيوطي في الجامع الصغير وهو مرجع، ولا يصح النسبة للمرجع مع معرفة المصدر، خصوصا في الحديث، والرواية أيضا عند الإمام أحمد في مسنده، وقال فيها: “الشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق“، وقد ذكر الشاطبي من جملتها مشروعية العاقلة وهي من الحاجيات المسقطة للحرج، ومشروعية الوقوف في المشعر الحرام وتحريم الربا لأن الربا يضاد القصد من حفظ أموال الناس ، ويتممها ما يحفظ النفس والعرض كما ورد في حديث حجة الوداع، بل زاد الشرع الخطاب بدلائل التوحيد والنبوة كما يقول الشاطبي، وهي من أعلى الضروريات!
إذ بها يتحقق حفظ الدين والتعبد، ولذلك حقق ابن عبد البر أنه ‹‹يدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله، والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل، فبذلك بعث ليتممه››، وقد نبه الزركشي إلى أن من التحسينيات ما “يتعلق بالآخرة، كتزكية النفس ورياضتها و تهذيب الأخلاق المؤدية إلى امتثال الأمر واجتناب النهي“، فليس معنى كون الشيء تحسينيا أن لا يكون له قيمة شرعية تأصيلية عندهم كما ظنه الأستاذ طه.
وأما الإطلاق الثاني بالمعنى الأخص فهي “محاسن العادات العملية المنافية للأحوال المدنسات“، فإن من معاني “الخلق” العادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في القصواء حين خلأت: “ما ذاك لها بخلق” أي “بعادة“، ومن أصول هذا الباب قوله عليه الصلاة والسلام: “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن“، وقوله: “أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة، تقوى الله وحسن الخلق“، فأشار بالتقوى “إلى حسن المعاملة مع الخالق، وبحسن الحلق إلى المعاملة مع الخلق” كما قال الطيبي ، وهو معنى قوله “خالق“، وهي التي قصدها الشاطبي في حديثه عن التحسينيات، وهي داخلة تحت المعنى الأعم لزوما.
فصارت الأخلاق بالمعنى الأعم أنواعا ثلاثة، بعضها ضروري، وبعضها حاجي، وبعضها تحسيني، وبعضها تابع ومكمل لواحدة منها، وتحتها مكارمُ أركانٌ وأخرى واجبة وثالثة مستحبة، بعضها من قبيل العدل وأخرى فضل، وبان أنها جزئيات في المقاصد وليست كليات، إلا أن التذلل لله وحبه أصل أخلاق المعاملة مع الله القاصدة لنيل رضاه، فهما أساس الدين وروحه، فلا وجه للتعارض بين الإطلاقين كما بدا للأستاذ طه، وجاز للشاطبي أن يستعملهما معا، والسياق مقيد، ولو انتبه الأستاذ طه إلى مراتبها واختلاف إطلاقاتها كما نبه عليه فقهاء الإسلام وسياقات المصطلح في كلامهم لعلم أنه ليس ثم قصد إلى الاستهانة بمكارم الأخلاق عند الفقهاء والأصوليين كما يوهمه موقفه، ولعلم أنهم كانوا دقيقين في تنظيرهم.
ومما يبعث على الاستغراب أنه زعم أن الأصوليين ادعوا أن القيم التحسينية لا يترتب عليها إخلال بنظام ولا حصول إعنات، وهي دعوى لم يقم عليها دليلا فعالا، بل قد قال الشاطبي: “قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما، ولذلك إذا حوفظ على الضروري فينبغي المحافظة على الحاجي، وإذا حوفظ على الحاجي فينبغي أن يحافظ على التحسيني، إذ ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي، وأن الحاجي يخدم الضروري“.
فيلزم منه أن التحسيني عندهم يخدم الضروري ولا بد، وأن الإخلال بالحاجيات والتحسينيات ينتج إخلالَ إضعافٍ بوجه ما، فأين زعمَ -كما قال الأستاذ- الأصوليون أن الإخلال بالتحسينيات على ما مرَّ في تحقيقها لا يترتب عليه إخلال بنظام مطلقا أو أنها مجرد ترف سلوكي مما قرره الشاطبي أحسن تقرير؟!
أليس قد ذكر الأستاذ نفسه أن فيها ما هو واجب عندهم؟
كان قصد الأستاذ طه عبد الرحمن من هذه الاعتراضات أن يقدم بديله عن التقسيم المعروف للمقاصد، وأنه متى سلم القارئ باعتراضاته التي ظهر أن لم تستطع تجاوز سياج “الدعوى”، “وجب إنشاء تقسيم جديد للقيم يكون بديلا للتقسيم المألوف“، وهذا يدل على أن مفهوم التجديد في مناهج علماء الإسلام عنده وصل إلى مستوى التبديد، وأن التعديل يعني عنده التبديل، فهل أنشأ الأستاذ تقسيمه بنظر مستقل أم استورده؟
سأحاول في المقال القادم إن شاء الله بيان حقيقة أصول ومقاصد فلسفة الأخلاق وطبقات القيم عند الفيلسوف طه عبد الرحمن وفقه الله إجمالا، وروعة فلسفة الأخلاق عند فقهاء الإسلام، والفرق بين الفلسفتين، ومرة أخرى.. أستسمح الأستاذ الفاضل في هذه المتابعة… فكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا المرسلين…