قصتي من سجن الإلحاد إلى حرية الإيمان!
هوية بريس – خالد سليمان*
الخميس 24 مارس 2016
أجد أن من المفيد أن أسرد عليكم قصة تحولي من الإلحاد إلى الإسلام، فلقد كنت أقرب إلى أبي جهل في يوم من الأيام، لعلها تنفع بعض الإخوة الذين تعبث برؤوسهم الشكوك والوساوس. كنت قد ولدت ونشأت في أسرة مسلمة، متدينة نوعا ما. بل إن فترة طفولتي قد تزامنت مع اتجاه المرحوم والدي إلى مزيد من التدين. تصادف أنني كنت أتمتع بصوت جميل، أجمل حتمًا من أصوات الكثير من المغنين الذين يغنون هذه الأيام؛ ما جعل والدي يشجعني على الذهاب إلى المسجد لتعلم التجويد والترتيل، بل إنه كان يجعلني أشارك في جلسات بيتية كان يعقدها مع بعض أصدقائه بحضور مقرئ متخصص لتعلم أحكام التجويد. فرحت بذلك طفلًا وفتىً، فقد أصبحت محط الإعجاب والتقدير في البيت والمدرسة والمسجد.
لكن المشكلة أن البشر يأخذون الأديان التي ولدوا عليها شيئًا مسلَّمًا به، أو إرثًا ثقافيًّا، فلا يدرسونها دراسة جدية عميقة نقدية متأنية، لتصبح لمعظمهم مجرد طقوس شكلية وسلسلة من الأوامر والنواهي، وهذا كان شأني. المهم، قضيت طفولتي وصباي وأنا أعيش حياة أقرب للمثالية، تدور ضمن نطاق المسجد والدراسة والقصص والروايات الطفولية الناعمة؛ ما جعل مني شخصية حالمة، ربما يغلب عليها البراءة والسذاجة. وعندما ولجت المرحلة التي يسمونها بالمراهقة، أخذت أتأبط شرا وأتراجع عن اهتمامي بالشأن الديني، إذ بدأت أحس بالرغبة في التحرر من أجواء التدين والانضباط، وبت أضيق ذرعًا بالقيود والضوابط، وأتمنى أن أحظى ببعض ما يحظى به أترابي الأشقياء من مغامرات ومتع، كما أن سلوك الكثير من المتدينين عن جهل أو عن نفاق كان يبعث فيّ الإحباط والنفور والمغص.
عندما أنهيت الثانوية العامة، كانت الخطة أن أسافر للولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة الدراسة هناك، غير أن أبي، رحمه الله، غيّر رأيه، متذرعًا بالظروف المالية، وبخشيته من أن أضيع أو أنحرف في بلاد “الفسق والضلال” على رأيه. كان معدلي يؤهلني للحصول على مقعد في إحدى الجامعات الحكومية، وبخاصة أن أبي كان قد خدم في الجيش قرابة ربع قرن، حيث كانت الدولة التي كنت أعيش فيها تمنح أبناء العسكريين نسبة من المقاعد الجامعية. ولكن، ولأسباب تتعلق بالفساد والمحسوبيات والتمييز، حرمت من التمتع بذلك المقعد. وبعد قرابة العامين من التخبط وانسداد الآفاق في وجهي، وجدت أن من الأفضل، ويا لحمقي، أن أقوم بأداء الخدمة العسكرية الإجبارية، التي كانت لمدة سنتين، على أمل أن أتابع دراستي بعد إنهائها.
كانت تجربة الخدمة العسكرية أسوأ تجربة مررت وسأمر ويمكن أن أمر بها في حياتي، وكان من نتائجها المباشرة أن كفرت بالله، وبكل ما هو مقدس، لقد كرهت نفسي وكرهت أهلي وكرهت العرب وكرهت المسلمين وكرهت البشر أيامها. فقد التقيت هناك، وأنا الحالم الذي كنت أظن أن العالم جميل وخيّر عمومًا؛ بكائنات قبيحة وبشعة وشريرة ومريضة لم أكن أتخيل ولو في الكوابيس وجود مثلها على ظهر هذه الأرض، وكان عليّ أن أصبح عبدًا لمثل تلك الكائنات البغيضة لمدة عامين كاملين! لم أجد أحدا أصبّ عليه غضبي وقهري ونقمتي واكتئابي إلا الله، فقد حملته بمنتهى البساطة والطيش المسئولية عن معاناتي، على اعتبار أنه هو الذي خلق أولئك الأوغاد، وهو الذي وضعني في ظروف صعبة وقاسية أجبرتني على التصبح والتمسي بوجوههم العكرة، لذلك قررت الكفر به، أو شطبه من قاموس حياتي، أو عدم التفكير به في أفضل الأحوال!
بعد انتهائي من المأساة العسكرية، قيض لي بعد جهد جهيد أن أدخل الجامعة، وفق نظام كان يمنح الحاصلين على الثانوية العامة من سنوات سابقة نسبة من المقاعد في الجامعات الحكومية. كنت أود دراسة الحقوق، ربما للإسهام في تخفيف الظلم في عالمنا القبيح، لكن مكتب تنسيق القبول اختار لي دراسة علم الاجتماع. ولكي أزيد الطين بلة، اخترت الفلسفة تخصصًا فرعيًّا! لسوء الحظ، كان معظم أساتذتي من الملحدين، أو من العلمانيين، أو من المسلمين الجهلة بالإسلام، لذلك عززوا بأفكارهم الوضعية وبالنظريات المادية التي كانوا يروجونها قناعاتي السلبية عن الدين، كأفيون للشعوب، وكأساطير اختلقها البشر لعجزهم عن فهم الظواهر والقوى الغامضة، ورغبتهم في السيطرة على بعضهم البعض عن طريق ادعاء الحديث باسم تلك القوى! لكن المثير أن توجهاتي الرافضة للدين لم تؤثر كثيرا في النزعة الدينية داخلي، دون أن أجرؤ على مواجهة نفسي لمحاولة فهم استمرار حيازتي لتلك النزعة، فقد بقيت مثلا أواظب على الصوم، كما لم أشرب من الخمر في حياتي إلا رشفة واحدة بصقتها سريعا لسوء مذاقها، ولا أدري كيف سقطت زجاجة المنكر من يدي، وكان ذلك آخر عهدي بها…
ثم تابعت دراساتي العليا، وحصلت على عمل بحثي في الجامعة. كنت قانعًا بحياة الحرية التي أعيش، فمن دون إله يعبده المرء، يستطيع أن يصبح إله نفسه، وأن يعيش على حل شعره مختالا فخورًا، وأن يقرر لنفسه وبنفسه ما هو صواب وما هو خطأ! لقد كان الكبر يحركني إلى حد بعيد، فقد كنت أرفض أن أخضع لعبودية الله، مع أنني كنت في واقع الأمر عبدًا لأشياء كثيرة، منها رغباتي وطموحاتي وأهدافي الدنيوية التي كنت أصارع من أجل تحقيقها.
ظل الوضع كذلك إلى أن حصلت بالصدفة على عمل جديد في أحد المراكز البحثية، وهنا كانت نقطة التحول التي غيرت حياتي، وأنقذتني من براثن الإلحاد أو اللاأدرية كما قد أسمي حالتي، أي عدم الجزم، أو عدم الاكتراث، بوجود إله من عدم وجوده، وقذفتني مجددا إلى حياض الإيمان. فقد كان المركز يقوم بتنفيذ مشروع بحثي عن التنمية في الوطن العربي، وكان يحتاج إلى شخص بمؤهلاتي لكي يشارك في إدارة فريق البحث، والطريف في الأمر أن الأستاذ الذي رشحني للوظيفة هو من الملحدين فيما أظن، لذلك أدعو له اليوم بالهداية لأنه كان، دون أن يدري أو يقصد، سببًا في هدايتي!
هناك افتراض، بل يقين قوي، سائد لدى معاشر العلمانيين والمناهضين للأديان، الذين كنت منهم، يفيد بأن سبب تخلف العرب هو الإسلام، وأن الغرب لم يتقدم ولم يصبح متحضرا ومتفوقا إلا عندما نبذ الدين وراء ظهره، لذلك فإن الطريق الوحيد بل الأوحد للتقدم في المحيط العربي هو تقليد تجربة الغرب وإحداث قطيعة لا رجعة عنها مع الدين! كان من بعض أهداف المشروع البحثي الذي انخرطت فيه بحماس التحقق من صحة ذلك الافتراض، ولذلك وجدتني مضطرًا إلى قراءة ما لا حصر له من الكتب والدراسات عن تاريخ الأديان الرئيسية وتعاليمها وعلاقتها بالعلم والتنمية والنهضة.
وأثناء قراءتي ونقاشي مع أعضاء الفريق البحثي، وجدتني دون أن أعي ذلك أو أكون متحمسًا له أعيد النظر في فكرة الله، لأكتشف أنني لم أكن يومًا منكرًا لوجود الله، لقناعتي بوجود ما لا حصر له من الأدلة الساطعة على وجوده، لكنني كنت في واقع الأمر غاضبًا منه ومقاطعًا له، وهذا حال كثير من الملحدين بالمناسبة. فهم يتذرعون بما يسمونها “أدلة علمية” لإنكار وجود الله، لكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم، حتى وإن جبنوا عن الاعتراف بذلك، أنه موجود، وأنه لا يمكن تبرير أو تفسير كثير من الأمور، وفي مقدمتها وجودهم نفسه، إلا بإقرار وجوده.
فالحقائق العلمية تؤكد أن الكون له بداية، وهذا يؤكد استحالة تولد هذا الكون البديع المنظم من العدم، أو تشكله بالصدفة، فلا بد من وجود قوة واعية حكيمة مقتدرة وقفت وراء إبداعه، تختلف عنه وتتجاوزه في الخصائص والصفات. تلك القوة الواعية الحكيمة هي صفة من صفات “الله” لدى من يؤمنون به، بينما يتفنن الملحدون في ابتكار حجج سخيفة واهية لتجنب الاعتراف به.
فثلة من الملاحدة مثلا يزعمون أن هناك قوة بالفعل قد أوجدت الكون، ولكن لا علاقة لها بإله الرسالات السماوية الذي ينكرون وجوده، فهي قوة غير واعية أنشأت الكون ووضعت قوانين حركته، دون غرض معين، ودون أن تكون معنية بالتدخل في مجريات الأحداث فيه! زعم بائس ومناف لأي منطق هو، وهو أشد تهافتا من إضاعة الكثير من الوقت في مناقشته. فكيف يمكن تخيل قيام قوة عمياء بإيجاد هذا الكون الفسيح المذهل المحكم التنظيم! من أين جاءت تلك القوة “العمياء” بكل تلك القدرة والحكمة والعلم والمعرفة، التي تبدت في إقامة ذلك الكون المعجز وضمان استمراره مليارات السنين!
ولماذا تجشمت تلك القوة عناء إيجاد الكون وما ومن فيه من مخلوقات إن لم يكن ذلك لأغراض معينة، بينما يخبرنا العقل والفهم السليم أن لكل شيء حولنا، سواء صنعناه بأنفسنا أو جئنا إلى الدنيا فوجدناه وظائف محددة! إن التفسير الوحيد العقلاني الممكن هو التفسير الذي يقدمه الدين، الذي يقول بوجود خالق حكيم عليم قوي واحد. فبما أن الكون موجود بالفعل، وليس بالشيء المتوهم، فإن هناك من أوجده حتمًا. والتسلسل لتتبع من أوجد الكون سيقود بالضرورة إلى موجد أول، كان موجودًا قبل الكون، وقبل المكان والزمان، وهو يتمتع بقدرات مطلقة وصفات خارقة.
حتى أكون صادقًا، لم أكن سعيدًا بعودة فكرة الله إلى حياتي، إذ كنت قد اعتدت حياة الفوضى التي أعيش دون ضوابط أو قيود أو إلزامات دينية. لكن ثقتي بوجود الله، التي أعدت اكتشافها رغما عني عبر احترامي لعقلي ولنتائج بحثي، كانت تحتم عليّ البحث عن ذلك الإله، ومعرفة الدين الذي أرسله، لأن من السخف الافتراض بأنه خلقني من باب العبث أو التسلية، أو أنه خلقني وتركني لأعيش وألهو وآكل وأشرب كما البهائم ثم أموت وانتهى الأمر!
لا أخفيكم أنني كنت ميالًا إلى بعض الأديان الأخرى، عندما لم أكن أعرف الكثير عنها، فقد استقرت في وعيي ذات يوم بوصفها أديانًا سهلة مسالمة، ليس فيها الكثير من الواجبات والتكاليف والالتزامات، إضافة لأني لم أكن قد نسيت بعد سخطي على “المسلمين” الأشرار الذين حولوا حياتي إلى جحيم، ولم أكن أود الرجوع واحدًا منهم!
لكن البحث في تلك الأديان سرعان ما صرفني عنها، فبعضها لا يؤمن بوجود إله من الأساس، وبعضها يجعل من بعض المخلوقات العاجزة آلهة، وهو ما لا يمكن أن يقبل به المنطق السليم، أو أن ينسجم مع مفهوم الإله باعتباره خالقًا لا يمكن أن يخضع لما تخضع له مخلوقاته، وإلا بتنا نتحدث عن كائن آخر لا علاقة له بمفهوم الألوهية.
لم يتبق إلا الإسلام كي ألتفت إليه بحرص، وكنت خلال قراءتي في سياق الدراسة المذكورة قد بدأت بتكوين صورة أوضح وأنقى عنه، صورة تحليلية موضوعية، بعيدة عن التحيز له أو ضده. فوجدته دينا عقلانيا منطقيا عمليا يعلي من شأن العقل والتفكير، بل يطالب الإنسان بألا يؤمن دون دلائل عقلية راسخة، وجدته دينا في منتهى البساطة والوضوح والتناسق، يتمتع بمستوى رفيع من الأخلاقية والعدل والقدرة على حل مشكلات البشرية، مع مراعاة الجوانب الروحية والمادية في الإنسان وعلاقاته باتزان واعتدال.
وكلما كنت أقرأ المزيد عنه وعن تاريخه، وأدرك أن العرب الحفاة العراة لم يصبحوا شيئا يذكر في يوم من الأيام إلا بفضل اعتناقه، كنت أزداد إعجابًا به وانجذابًا إليه، وأزداد رغبة في ضرب نفسي بالشبشب العتيق، لأني كنت قد سمحت لعقلي بأخذ إجازة مفتوحة أعمتني عن الرؤية، وحرمتني لسنوات طويلة من التفيؤ تحت ظلال ذلك الدين الرائع، بما يوفره للمرء من سكينة وإحساس بالأمن والرضا وبصحبة الله ورحمته، وبأن للحياة معنى، خلافًا لحياة الخفة الهائمة التي كنت أحياها على غير هدى.
كان ذلك منذ نحو خمس عشرة سنة، لم تزدني هي وما طالعته فيها من قراءات عن الإسلام، وعن غيره من الديانات، إلا ثقة وإيمانا بأنه الدين الحق من عند الله. فأنا لم أستسلم وأسلم به بسهولة، بل كنت أقرأ وأقرأ المزيد عنه وعن الشبهات التي تثار حوله، لعلي أجد ما يقنعني بتركه، إلا أنني لم أكن أزداد مع الوقت إلا يقينًا بصحته، وباستحالة أن يكون من مصدر بشري، وإلا لكان قد سقط حتما أمام فحصي الصارم المستمر لنصوصه وتعاليمه.
من وحي قصتي المتواضعة، فإنني أنصح كل ملحد بأن يكون صادقا مع نفسه، وأن لا تأخذه العزة بالإثم. وليحدد ما إذا كان يكفر بالله عن اقتناع فعلا، أم أنه يفعل ذلك من باب الغضب منه وتحميله وزر ما يحدث في هذا العالم. فثمة فرق كبير، فمن يضع على الله مسؤولية الشر في العالم، عليه أن يقرأ القرآن جيدًا، وسيدرك بوضوح أن القدرة على فعل الشر هي جزء طبيعي وضروري من الامتحان الذي خلقنا الله لأدائه. فالله لا يصنع الشر، ولكنه أعطى البشر القدرة على صنعه، تماما كما منحهم القدرة على فعل الخير. ومن ثم؛ فإنهم وحدهم يتحملون إثم اقتراف الشر.
أما من يظن بأنه يستند إلى أسس وذرائع علمية قوية تبرر إلحاده، فليسأل نفسه فقط: أي أسس علمية هذه والحجج التي يرددها الملحدون اليوم تتطابق مع ما كان الكفار الجهلة يرددون منذ أكثر من 1400 سنة، عندما كان العلم يكيل بالبتنجان! فقصة الإلحاد صدقوني ليست قصة دلائل علمية وبطيخ الشام، بل إنها قصة رغبة مسبقة ومبيتة لرفض وجود الله، وذلك لأسباب كثيرة، منها الجهل أو مرض القلب أو الغرور والكبر أو السخط على الدنيا وأهلها وموجدها أو السعي إلى الانفلات والتحرر من أية ضوابط أخلاقية دينية، ثم يتم الاستعانة بمقولات “علمية” فضفاضة وضبابية لا تثبت شيئا للتغطية على تلك الرغبة الشيطانية ومنحها الشرعية والتبرير!
(المصدر: موقع “ساسة بوست”).