قضية ابتسام لشكر: كيف أضاع أحمد عصيد بوصلة العقلانية

قضية ابتسام لشكر: كيف أضاع أحمد عصيد بوصلة العقلانية
هوية بريس – سعيد الغماز
برز في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بعض المثقفين الذين يدَّعون امتلاكهم لفكر تنويري قائم على العقلانية. ويقول هؤلاء إنهم يحملون مشروعا حداثيا قائما على العقل والعلم.
من بين هؤلاء المثقفين الأستاذ أحمد عصيد، الذي كتب مقالا في جريدة إلكترونية ونشر شريطا على قناته في اليوتوب، يتفاعل مع قضية ابتسام لشكر التي أصبحت تُعرف إعلاميا بقضية سب الذات الإلهية.
اعتبر عصيد في تفاعله مع قضية سب الذات الإلهية، أن ما قامت به ابتسام لشكر، هو فقط ردة فعل على استبداد السلطة، التي نصَّبت نفسها حارسة للدين. وذهب إلى حد القول إن هذا الاستبداد سواء من السلطة أو المجتمع، دفع بالعديد من الشباب إلى النفور من الدين ذاته.
كما أنه تحدث في مقاله عن “موجة شبابية تتعمد السخرية من المعتقدات والأديان والكتب المقدسة والرموز الدينية عموما”. لكنه في نفس المقال لا يتحدث إلا عن حالات معزولة، واحدة من تونس وأخرى في الجزائر وحالتين في المغرب. تِعداد سكان تونس لا يتجاوز 12،3 مليون نسمة، الجزائر 47،5 مليون والمغرب 36،8 مليون. فأي عقلانية هذه التي تتحدث عن موجة شبابية وسط ملايين البشر؟
أمام هذه الأرقام التي تتحدث عن نفسها بلغة النسبية في الرياضيات، ربما الأستاذ عصيد يُمنِّي النفس بأن تتحول الحالة الشاذة لابتسام لشكر إلى موجة شبابية.
في خرجته الإعلامية، تحدث الأستاذ عصيد عن قضية ابتسام لشكر، التي وقعت في سياق معين وبمدينة معلومة وفي ظروف مفهومة. لكن عصيد، حين أراد تفكيك عناصر القضية المعروفة بسب الذات الإلهية، وتحديد أسباب الواقعة، انتقل إلى مكان آخر وإلى زمان بعيد.
فلفهم ما قامت به ابتسام لشكر، ذهبت عقلانية عقل عصيد إلى القرون الوسطى، ليتحدث عن سلطة الكنيسة وما قامت به في حق العلماء والمفكرين وحتى أتباعها حيث كانت تفرض عليهم جزية كنسية اغتنى منها الكهنة. وسافرت عقلانيته إلى أوروبا التي انتفض مثقفوها وفلاسفتها ضد استبداد الكنيسة.
بعد ذلك، تعود عقلانية عقل عصيد، إلى بلاد المغرب ليُسقط عليها أحداثا وقعت في أوروبا، ويتحدث عن قضية راهنية بإثارة أحداث وقعت في القرون الوسطى. فأي عقلانية هذه التي “كَتَدْخَلْ وَتَخْرَجْ فالموضوع بلا منطق”؟ وأي عقل هذا الذي يمكنه تحمل هكذا عقلانية؟
لو كان الأستاذ أحمد عصيد، يعرف ولو القليل من العلوم الكونية، كما يصفها الدكتور الفايد، لما وقع في هذه “اللَّخْبَطَة” بتعبير المصريين.
إذا كانت للفايد هفوات كثيرة، فعلى الأقل، تركيزه على دور العلوم الكونية في تطوير الفكر وتنمية العقل، ينطبق على حالة الأستاذ عصيد. قد لا يعرف هذا الأخير، أن العلوم الكونية تُصنف المادة في ثلاث حالات: صلبة أو سائلة أو غازية. الماء كمادة، يمكنه أن يتخذ هذه الأشكال الثلاثة: الماء المُثلج هو مادة صلبة، والماء في الطبيعة هو مادة سائلة، وفوق الحرارة يتحول إلى مادة غازية.
لو كان الأستاذ عصيد يحمل عقلا علميا، دارسا ولو بشكل طفيف العلوم الكونية، كما يدعو إلى ذلك د. الفايد، لعلِم أن الحديث عن الماء ينطلق من حالته كمادة. فلا يمكن للإنسان إطفاء عطشه بماء في حالة غازية أو صلبة. الماء الذي يُطفئ العطش هو الماء في حالة سائلة.
العقلانية ليست شعارا، ولا مصطلحا نزين به خطابنا كما يفعل الأستاذ عصيد. بل العقلانية هي قواعد علمية وآليات تفكيرية، نستعملها في تحليل القضايا وفهم الأحداث المجتمعية.
الحداثة كذلك هي قواعد فكرية وآراء مرتبطة بتاريخ وحضارة وثقافة الشعوب والمجتمعات. فلا يمكن نزع حدث وقع في مجتمع له تاريخه وحضارته وثقافته، ثم إسقاطه على مجتمع بثقافة مختلفة وحضارة مغايرة وتاريخ متباين. إنها قاعدة العقل العلمي الذي يميز بين خصوصية المادة الصلبة والمادة السائلة مثلا. وهذا ما ينقص عقلانية عقل عصيد، ليصير عقلا علميا يحلل بعقلانية، بدل عقل يسرد الأحداث ويتوهم أنه يستعمل أدوات العقلانية.
إن مثل هذا العقل المتخصص في السرد، لا يمكنه أن يطرح أفكارا عقلانية. كما أنه بعيد كل البعد عن الحديث سواء عن الحداثة أو التقدم. اللهم إن كانت حداثة مشوهة وعقلانية مقلِّدة لا يمكن إلا أن تنتج التقهقر والتردي.
حين نفقد التاريخ والثقافة والحضارة والهوية، نصبح كالمريض بدون مناعة، ويتحول بذلك إلى فريسة سهلة لأي ميكروب. وفي أفضل الحالات يصير نسخة مشوهة للآخر الذي يريد أخذ أفكاره وإسقاطها على حاله. وهذا ما وقع من الأسف للأستاذ عصيد.
لنعود إلى قضية سب الذات الإلهية، التي اعتبرها عصيد حرية تعبير ورِدَّة فعل فقط. وهنا سأبتعد عن عقلانية عقل عصيد، وأستعمل الأدوات العقلية التي يستعملها المثقفون الحداثيون في العالم المتقدم، بدل إسقاط أحداث وقعت في أوروبا على واقعنا.
لو لَبِسَت ابتسام لشكر قميصا فيه عبارات تمجد النازية، وتجولت به في شوارع برلين، ماذا سيكون رِدَّة فعل العقلانية الألمانية والحداثة الغربية؟
لو لَبِسَت ابتسام لشكر قميصا فيه عبارات ضد السامية، وتجولت به في شارع الإليزيه في باريس، ماذا سيكون رد فعل العقلانية الفرنسية والحداثة الغربية؟
الأكيد أنه سيتم اعتقالها ومحاكمتها على أساس القوانين السائدة في تلك البلدان والتي تُجرم تلك الأفعال. لأن حرية التعبير ليست مطلقة في الحداثة الغربية. وأنا أتعجب لعصيد الذي يتحدث عن الحداثة، ويعتبر سب الذات الإلهية حرية تعبير. الأكيد أن حداثة عصيد لا علاقة لها بحداثة التنوير التي أبدعها دافيد هيوم، وجون جاك روسو، ومونتسكيو، وجون لوك. أتحدث هنا عن فلاسفة العقد الاجتماعي الذي أبدع النظام الديمقراطي مع فصل السلط، كنمط في الحكم لبلوغ التنمية والتقدم.
هذه هي الحداثة، وهذا ما قامت به السلطات المغربية، وهذا ما ورد في تدوينة الأستاذ مصطفى الرميد. ابتسام لشكر خالفت قوانين بلد يُجرِّم تلك الأفعال وسيتم محاكمتها على هذا الأساس. وهذا ما يقع في البلدان الحداثية التي ربما لا يعرف عنها عقل عصيد، سوى ترديد مصطلح الحداثة دون فهم كنهه أو عمقه.
فعقل عصيد يجب أن يستوعب أن العقلانية تتعامل مع الظواهر والميكانزمات والأدوات، وليس مع الحدث في حد ذاته لاستنساخه بشكل بليد واللاعقلاني.
منطق عصيد في التحليل لا يمكنه إلا أن ينتج عقلانية بلا تفكير وحداثة بلا تقدم.



