كتاب جديد بعنوان: أوقاف المغاربة على الرعاية الصحية
هوية بريس – محمد مرزوك
يناقش هذا الكتاب قضية محورية هي قضية الوقف الذي يعتبر نظاما إسلاميا فريدا وابتكارا نجعا لحل الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، فهو بحق من مفاخر الحضارة الإسلامية، والوقف بمعناه المبسط هو أن يهب الإنسان جزءا من ممتلكاته كالدور والعمارات والمحلات التجارية والأراضي الزراعية وغيرها لجهة خيرية ثم يقطع تصرفه عن الشيء الموقوف فتصير بذلك ملكا لتلك الجهة ولا يحق لمالكها الأصلي ولا لتلك الجهة بيعها ولا توريثها ولا رهنها ولا التصرف فيها بأي نوع من أنواع التصرف، بل يبقى خيرها مستمرا عبر العصور، وهذا كله تقربا إلى الله تعالى، إذ الوقف تجسيد فعلي للصدقة الجارية الواردة في الحديث النبوي” إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة” فذكر الحديث من بينها الصدقة الجارية. ويخص هذا الكتاب نوعا من هذا الوقف هو الوقف الصحي، أي الأحباس التي تخصص للرعاية الصحية، وقد يستغرب الكثير منا ويقول: أليست الأوقاف مخصصة فقط للمساجد، فالجواب نعم لكن في وقتنا الحالي أما تاريخ المغاربة فلم يكن كذلك.فقدعرف تاريخ المغرب اهتماما كبيرا بالوقف على الرعاية الصحية، فكان مصدر تمويل لكل المجالات الصحية من خدمات للمرضى وتعليم صحي وبحث علمي في مجال الصحة، وكانت عائداته في بعض الأحيان تكفي لسد احتياجات الصحة وتفوقها فتصرف بعد ذلك على جهات خيرية أخرى مما يبرز عظمتها وكثرتها.ولذلك سجلت كتب التاريخ تحبيس المغاربة ممتلكاتهم على رعاية المرضى قبل تأسيس المستشفيات، وبعد بناء أول مستشفى(الذي كان يسمى المارستان) بمراكش سنة 585هـ في عهد الدولة الموحدية، اتجه سلوك المغاربة نحو الوقف على المستشفيات الذي عرف ازدهارا كبيرا في عهد الدولة المرينية حيث تم خلالها بناء الكثير من مستشفيات المغرب خصوصا في عهد السلطان أبي عنان المريني. واستمر هذا السلوك الراقي للمغاربة في عهد الدولتين السعدية والعلويةإلى ما قبل المرحلة الاستعمارية، وقد كان الوقف على المستشفيات في كل المراحل السابقة مقترنا بالوقف على المساجد، بل كان في بعض الأحيان يؤخذ من أحباس المسجد للإنفاق على المستشفى. لكن المغربمنذ دخول الاستعمار عرف انتكاسة في الوقف عموما وعلى الرعاية الصحية خصوصا بفعل استيلاء الاستعمار على الأوقاف عموما وأوقاف المستشفيات خصوصا مما أدى إلى تدهورها وتحول بعضها إلى قيسارية كما وقع لمستشفى سيدي فرج بفاس سنة 1944.
والكتاب كذلك يبرز الأسباب الموضوعية والذاتية لتدهور الوقف على الرعاية الصحية ونقصانه أو اندثاره في عصرنا الحاضر رغم خروج الاستعمار، وكيف أن هذا التراجع أثر على قطاع الصحة بالمغرب وتم حرمان فقراء المغرب من مصدر قوي لتمويل خدمات الرعاية الصحيةباعتراف المؤسسات الرسمية للبلد.
ثم يقدم الكتاب مشاريع واضحة وخططا لإعادة إحياء هذا النوع من الوقف حتى يقوم بأدواره كما كان في السابق، ويقدم أفكارا مدروسة لتطوير هذا الوقف الصحي وترشيدهليساعد في تنمية مجالات صحية حيوية، ويسهم في النهوض بمجال الرعاية الصحية بالمغرب.
فالكتاب إذن يأتي يأتي ليذكر المغاربة بتاريخهم المشرق على الرعاية الصحية، وأن الوقف على المستشفيات لا ينفك عن الوقف على المساجد والمدارس وعلى الملاجئ ودور المسنين وغيرها، وأنه لا تعارض بين كل هذه المجالات، فقد وجدت أن المساجد كانت تذكر جنبا إلى جنب مع المساجد في الوثائق الحبسية.
وإذا كنا رأينا بعد جائحة كورونا سخاء المغاربة وإنفاقهم الكبير على الصندوق المخصص لهذه الجائحة عبر هبات وأعطيات وهذا يشعر بالسرور والفخر، فإن تاريخهم يشهد بسخائهم في الوقف على الرعاية الصحية، إذ الوقف مصدر دائم ومضمون عكس الهبات، لذلك كانت هذه الأوقاف تكفي للإنفاق على المستشفيات وعلى العاملين بها وعلى البحث العلمي، فيصرف ما تبقى على وجوه بر أخرى، مما يبرز حجمها.
وتجدر الإشارة ونحن في الحجر الصحي أنه كانت في كل ضواحي المدن الكبرى للمغرب أحياء مخصصة للعزل الصحي للمصابين بوباء، حيث ينفق عليهم وتوفر كل احتياجاتهم من الأوقاف، مما يبرز عظمة الوقف على الرعاية الصحية بتاريخ المغرب.
وإني لأرجو أن يقوم الإعلام والدعاة والعلماء ومراكز الأبحاث وغيرها في تذكير الناس وحثهم على إحياء أوقاف المغاربة على الرعاية الصحية كما كانت حتى نستطيع تطوير قطاع الصحة وتزويده بمصدر تمويل دائم ومضمون ليتكفل بالمرضى خاصة الفقراء منهم.