كد وسعاية أم اجتهاد في عماية؟

16 يوليو 2025 14:34

كد وسعاية أم اجتهاد في عماية؟

هوية بريس – محمد عوام

ترتفع بعض الأصوات من هنا وهناك، علمانية وإسلامية، وإن كانت هذه الأخيرة محصورة جدا، باقتسام الأموال بعد الطلاق، عملا بالكد والسعاية الذي قال به بعض العلماء وعلى رأسهم القاضي ابن عرضون رحمه الله، ونحن نلحظ هذا التوجه الجديد، وما يجلبه من دمار على الأسرة، وتخريب لها، وتفكيك لأواصرها، وضرب مصداقية الزواج بالعزوف عنه، وتحريف لما قاله العلماء في مسألة الكد والسعاية، ناهيك عن أكل مال الزوج بالباطل وافتئات على الشريعة الغراء.

لذلك وجب البيان والتصدي للبهتان، ونحن نقيده في هذه النقاط الآتية:

أولا: الكد والسعاية من الألفاظ المتقاربة المعنى، وتستعمل على سبيل عطف المترادفين، فالكد شدة العمل وطلب الرزق بإلحاح شديد، والسعاية تعني الكسب والتنمية والقصد في العمل. وهذان المترادفان يطلقان أيضا عند الفقهاء على حق الجرية والجراية، وحريق اليد، وتامازالت كما هو في سوس ونواحيه. (انظر فقه النوازل في سوس قضايا وأعلام 415، وحق الزوجة في الكد والسعاية لميلود كعواس 17).

أما في الاصطلاح فهي حق المرأة وغيرها من أفراد الأسرة في الثروة، التي شاركوا في تنميتها، بعد الموت أو الطلاق. فالكد والسعاية ليست خاصة بالمرأة كما يتوهم بعضهم، وإنما “يدخل فيها كل من قدر على الاشتغال والتكسب من أفراد الأسرة، فنجدهم يعبرون هكذا: سعاية اليتيم، وسعاية الأخت، وسعاية الأخ، وسعاية الولد، ومن له عدة زوجات فلكل واحدة سعايتها.” (فقه النوازل في سوس 416).

ثانيا: أن الكد والسعاية مرتبط بالعمل خارج البيت في الغالب، وإن ارتبط به فإنما يكون فيما هو خارج عما هو متعارف عليه من أعمال المنزل كالطبخ وغيره، لأن هذا جرى به العرف، ومقرر عند الناس، والنساء لا يتبرمن منه. لهذا ينبغي التفريق بين العمل المنزلي الذي جرت به الأعراف، وتحكمه العادات، والعادة محكمة، والمعروف عرفا كالمنصوص نصا، والمشروط شرطا، وبين ما هو خارج عن هذا كله، ويسهم في تنمية الثروة.

والفقهاء القائلون بالكد والسعاية ميزوا بين العملين، وفرقوا بينهما، رفعا لكل التباس، فيتحدثون عن العمل الذي تكون المرأة فيه تباشر عملا خارجا عما هو مألوف، أو بعبارة أخرى ليس من اختصاص المرأة ابتداء، كأعمال الحرث والحصاد، وجني الثمار، أو قد يكون من اختصاصها وتمارسه، لكنه ليس من العمل المنزلي المتعارف عليه، وإنما هو زائد على ذلك كأنواع النسيج والغزل وصناعة الزرابي. فاعتبروا هذا النوع من العمل من الكد، أي التعب والعمل والمشقة.

وهذا العمل خاص بنوع من النساء، وغالبهن من نساء البادية. قال ابن عبد الرفيع التونسي في أجوبته: “مسألة: ذكر أن قضاة المصامدة وفقهاءهم حكموا بشركة المرأة زوجها، لأن عرف بعض البلاد أن الزوجة مع زوجها يتعاونان في جميع الأشغال إلا ما ثبت أن الزوج استبد به بصنعة، أو انفرد به من ميراث، أو شراء يظهر أن المرأة لم يكن لها فيه شيء.” (نقلا عن فقه النوازل في سوس 417).

ويستبين هذا جليا من نص استفتاء ابن عرضون، كما ساقها العلمي في نوازله، إذ جاء فيه فيما نصه: “سئل أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسن بن عرضون عمن تخدم من نساء البادية خدمة الرجال من الحصاد والدراس وغير ذلك، فهل لهن حق في الزرع بعد موت الزوج لأجل خدمتهن؟ أو ليس لهن إلا الميراث؟….” (نوازل العلمي 2/101)

وبهذا ترى أن الفتوى ليست عامة في كل مال الزوج، وإن لم تكِّد أو تسعى فيه، وإنما هي متعلقة بالمال الذي تكون للمرأة فيه خدمة ويد في تنميته، وهذا غالبا ما يكون خارج البيت، لا داخله. والغريب أن تأتي طائفة اليوم من النسوانيات وبعض ممن ينتسب إلى العلم، فتريد –إرضاء لهذا التيار- أن توسع دائرة سطو المرأة على مال الزوج، وإن لم تقدم أي شيء فيه كد وسعاية، فيجعلن العمل المنزلي المتعارف عليه من مشمولات الكد والسعاية، فيطالبن بتثمينه. فلا جرم أن هذا من الظلم والسعي في تخريب البيوت، وإفشاء الصراع فيها بين الزوجين، وتفكيك وحدة الأسرة، وتعطيل الزواج بالعزوف عنه.

ثالثا: الفقهاء منذ زمان جعلوا الأعراف والعادات من صميم التشريع، فما قضت به مقضي، وما نفته منفي، بل كثير من القضايا والمسائل الاجتماعية يفصلون فيها بناء على العرف الاجتماعي، فقعدوا لأجل ذلك قواعد، منها: العادة محكمة، المعروف عرفا كالمشروط شرطا، العرف كالنص،…

وبناء عليه فالأعمال المنزلية، التي جرى بها العمل، وتعملها المرأة عن طواعية واختيار ورضا، لا تدخل في ما يسمى بالكد والسعاية، ولا تقتضي أن تتقاضى عليها المرأة أجرا، وإلا استحالت العشرة الزوجية، وأصابها من الاضطراب ما أصابها، إذ كيف تكون المرأة زوجة وأجيرة في الوقت ذاته، هذا لا يقول به عاقل فضلا عن فقيه متمكن. ويكفينا دليلا أن هذه فاطمة الزهراء رضي الله عنها اشتكت من المشقة التي تجدها في عملها المنزلي.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه: “أن فاطمة عليها السلام أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغه أنه جاءه رقيق، فلم تصادفه، فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته عائشة، قال: (فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال: (على مكانكما). فجاء فقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدميه على بطني، فقال: (ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما، أو أويتما إلى فراشكما، فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم).” وترجم له بـ(باب: عمل المرأة في بيت زوجها)، ومعلوم أن فقه البخاري في تراجمه، وهي من التراجم الظاهرة، حمل ذلك على ما أقره العرف، لذلك قال ابن حجر رحمه الله بعدما ساق كلام العلماء في الحديث: “والذي يترجح حمل الأمر في ذلك على عوائد البلاد فإنها مختلفة في هذا الباب”. (فتح الباري 9/324).

ونقل ابن حجر عن الإمام الطبري قوله: “يؤخذ منه أن كل من كانت لها طاقة من النساء على خدمة بيتها في خبز أو طحن أو غير ذلك، أن ذلك لا يلزم الزوج إذا كان معروفا أن مثلها يلي ذلك بنفسه، ووجه الأخذ أن فاطمة لما سألت أباها صلى الله عليه وسلم الخادم لم يأمر زوجها بأن يكفيها ذلك، إما بإخدامها خادما، أو باستئجار من يقوم بذلك أو بتعاطي ذلك”. (9/506).

ولقد قلنا مرارا، وأكدنا على ذلك تكرارا أن الحياة الزوجية تبنى على المعاشرة بالمعروف، والمودة والرحمة والسكينة، ولا تبنى البتة على المحاسبة والمشاكسة والندية المطلقة، فهذه من غير شك مفسدة لها، ومفضية إلى خرابها واندثارها. ومما سبق أن تطرقت إليه، وتناولته عن تيار تثمين العمل المنزلي، الذي وسمته بـ(تيار الثماينية) في مقالة سابقة على صفحتي أنه “مما يدهشني في المغرب تعدد التيارات به، واللاعب واحد، إنه الفساد والاستبداد، واليوم أصبح عندنا تيار الثماينية، وهم دعاة تثمين العمل المنزلي، وهؤلاء خليط من العلمانيين والإسلاميين،…وها هو اليوم أصبح ضمن المقترحات التي يراد لها أن تصبح قانونا للأسرة، فتصبح المرأة بموجبه ذات صفتين: أجيرة بالنهار وزوجة بالليل، وهذا هو الخراب والبؤس. مما سيكون له عواقب وخيمة على النسيج الاجتماعي للأسرة، وعلى العلاقات الزوجية.

ولئن كانت بعض الإسلاميات أتين بهذا الإبداع والاختراع، لإخراج المرأة من الظلمات إلى النور، فإن في مقابلهن اليساريات اللائي حرفن الكد والسعاية، وعممنه، كدت وسعت المرأة أم لا، فتكون النتيجة واحدة، هو زعزعة استقرار الأسرة، وتفكيك وحدتها وروابطها، وتخريب المجتمع والقضاء على الزواج، وأكل ما الزوج بالباطل.

علما أن العمل المنزلي المراد تثمينه، لا يشكل -حقيقة- أحد المشاكل العويصة للمرأة ولا للأسرة، وإنما معاناة المرأة والرجل معا من الهشاشة، والبطالة، والدخل المحدود جدا، والفقر، والعوز الذي يقض مضجعهما، ومعاناة الأسرة مع الصحة والتعليم، وغير ذلك من المشاكل التي ترزأ تحتها الأسرة، ويعاني منها الرجل والمرأة وكافة أفراد المجموعة الأسرية. وكل ذلك سببه الفساد والاستبداد، ولكن مع الأسف أن هناك من يحرف البوصلة، بدل أن يتجه إلى المطالبة بإصلاح جذري وحقيقي وفعال، أخذ على نفسه، أو بتوجيه من غيره، أن يسعى في بلبلة الأسرة، وإيجاد بؤر التوتر والصراع.

والمهم عندي هل سينجح تيار الثماينية في حل مشاكل المرأة والحد من معاناتها أم أنه سيصب الخل على الزيت مثل ربابة بشار. ولا ريب أن اختيار التثمين هو إشعال فتيل الحرب داخل الأسر، وعلى الزواج السلام.

وختاما فإن تحريف الكلم عن مواضعه، كما هو مقرر عند العلماء، وذلك بتوسيع الكد والسعاية وجعل من مشمولاته العمل المنزلي، والمطالبة بتثمينه، فهذا لا ريب فيه، إنما هو تمويه وفساد، وتشغيب ودمار لا يليق بالعقلاء، ثم هو من ناحية أخرى أكل مال الزوج بالباطل، وتحميله ما لا يطاق، لذلك فهل ما يدَّعونه كد وسعاية أم اجتهاد في عماية؟

 

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
10°
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء
19°
الأربعاء

كاريكاتير

حديث الصورة