كلام الحيوانات غير معقول والمعجزة غير معقولة!
هوية بريس – كمال المرزوقي
هناك حالات يكون موقف بعض المسلمين فيها من جهة الحجّة أضعف من موقف الملحدين.
ها هي حالة مثلا:
من ينكر كلام الحيوانات لأنّه مخالف للعقل!
كما قلت: الدّرس الأوّل في علم الكلام، في أصول الفقه، في الفقه نفسه، في علم المنطق، في الفلسفة، في نظريّة المعرفة… الدّرس الأوّل فقط الّذي تأخذه في أيّ متن علميّ من متون هذه العلوم فيه التّفريق بين الحكم العقلي والحكم العادي.
لكن القضيّة هنا أنّه كلام عوامّ (مثقّفين!) يخاطبون به عوامّا مطبقين، فيقول من شاء ما شاء.
دعنا ننظر:
حين تقول هذا مخالف للعقل، فهو مخالف للعقل دائما.
لكنّ طوق النّجاة هنا للمسلم أن يقول، هذه الأخبار جاءت في أحاديث، وأن لا أكذّب الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لكنّني أقول هذه الأحاديث غير صحيحة.
طبعا هناك في الدّنيا شيء اسمه علوم الحديث، وليس علم الحديث فقط، بل هي ستّة علوم بالتّمام والكمال.. هذه لا شأن له بها..
وإنّما الحكم على الحديث بالقبول والرّدّ يكون بحسب مزاج المتكلّم فقط لا غير، ومزاجه يسمّيه العقل وحكم العقل، آه والله.
حسنا
دعك من الأحاديث، ولننظر في كتاب الله الّذي أنت مسلّم بصحّة كلّ ما فيه.
1- الهدهد والنّملة الّلذان كلّما نبيّ الله سليمان، هل هذا أمر معقول عندك؟
إن قال غير معقول، لزمه تكذيب القرآن أيضا، أو على الأقلّ هذه الحادثة، وهكذا نناقشه نقاش النلحد، وهو أسهل في هذه القضيّة لأنّه أقلّ تناقضا.
وإن قال نعم هو معقول، قلنا كيف صار هذا معقولا وذاك غير معقول؟
والتّناقض أبين أدلّة البطلان، واستحالة الجمع بين النّقيضين = حكم عقليّ حقيقيّ.
فإن قال: لكن سليمان وحده من سمع ذلك والهدهد والنملة تكلما بلسانهما لا بلسان العرب أو بلسان اليونان أو الفينيق أو الآراميّين وهذه معجزة الخ الخ
قلنا: وهو المطلوب، فلا فرق، تكلّموا بلغتهم أو لغة البنغاليين، ليس هذا فرقا مؤثّرا، إذ ينبغي أن يكون كلّه غير معقول على مبناكم، فأنتم تنفون كلام الحيوان للآدميّ وتجعلونه غير معقول رأسا، وكلّه خارق للعادة عندنا وعند العلماء جميعا منذ سقراط إلى يومنا، وخارق للعقل عندكم أنتم (ونحن نصدّقكم).. والخارق خارق
وكلّ كلام من حيوان لبشريّ هو خارق بأيّ وسيلة كان، فكيف تصنعون؟!
2- قال الله تعالى: “يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون”.
وقال جلّ وعلا: “يوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون”.
هذا كذلك ينبغي أن يكون غير معقول على مذهبكم، بل أشدّ لا معقوليّة، فإنّ للحيوان من آلة الكلام ما ليس للأعضاء والجماد
فقد يقول قائلهم هنا لكنّ هذا يوم القيامة وليس في الدّنيا: قلنا غير المعقول أبدا غير معقول
لا فرق فيه بين الدّنيا والآخرة، إنّما الفرق أنّ أحكام الدّنيا العاديّة غير أحكام الآخرة، فهناك فيزياء أخرى، خرقها يسمّى خارقا للعادة لا للعقل.
فكيف تصنعون ههنا أيضا؟
3- إنسان يعيش ألف سنة، وشباب ينامون ثلاثمائة سنة.
هل هذا معقول على مبانيكم؟
حسنا هو في كتاب الله كذلك، فكيف تصنعون؟
يمكنني أن أستمر على هذا إلى الصّباح طبعا.. لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، ويكفي في معرفة الحمار نهيقه..
وكلّ هذا عندنا جوابه سهل قريب، مسلّم من هذه التّناقضات المضحكة، وهو في كتاب الله: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الّذي أنطق كلّ شيء وهو خلقكم أوّل مرّة وإليه ترجعون.
فالّذي خلق الخلق، وخلق العادة، يخرقها لبعض عباده، إمّا كرامة وإمّا إهانة، وليس يخرق أحكام العقل الّتي هي حاكمة على الإنسان من داخله لتكون حجّة عليه.
هذا جواب المسلم.
أمّا جواب الملحد فهو أسهل وأيسر من ذلك.. غير أنّه أبعد وأطول، لكن ليس هذا مجاله ولا وقته.
فأمامكم الآن مسلكان لمن تبصّر، إمّا أن تفعلوا في القرآن ما تفعلون في الأحاديث، فتخرجوا من الدّين رأسا.
أو تفهموا أنّ ما تحسبونه عقلا، وأنتم به فخورون، ما زال بعد طفلا رضيعا، لا يمكّنكم بعد من دخول سوق العلوم رفسا بالأقدام وزعيقا ولقلقة بالصّوت..
فللعلم بنيانه ومنهجه المرتّب، الّذي وضع ليحمي من مثل هذه التّناقضات، وله مدرجه الّذي يترقّى فيه الإنسان رتبة فرتبة..
وعند علماء المسلمين، وهو الّذي قلنا لكم أنّه يدرس في الدّرس الأوّل لمختصرات لا مطوّلات، العقيدة والكلام والفلسفة والمنطق أنّ المعجزة معقولة خارقة للعادة.
وأحكام العقل ثلاثة، هي الوجوب والجواز والاستحالة.
وما يستحيل عادة أغلبه جائز عقلا أصلا، إذ المستحيلات العقليّة تسعة فقط، وأمّا خوارق العادة فغير محصورة.
وأنّ ما جاء في هاتيك الأخبار كلّه ممكن، لكنّ الإمكان شرط فقط للحدوث وليس دليلا عليه، فيتوقّفون عن الإثبات والنّفي إلى أن يثبت لهم بدليل كافٍ مستقلّ (لا ذاتيّ) صحّة الخبر أو كذبه.
فنقبل أحاديث البعير وجذع النّخلة وتسبيح الحصا لأنّه صحّ الخبر بها ونردّ حديث الضّبّ لأنّه موضوع نجزم بعدم ثبوته، ونردّ حديث الغزالة لأنّه ضعيف نرجّح عدم ثبوته.
وهذا بمجرّده ميزان دقيق كما ترى ليس النّفي فيه والإثبات مزاجا ولا هوى.
ثمّ من فهم كيف نحكم بصحّة الأخبار من عدمها الّتي هي محيط آخر من العلم قام له من ألان لهم الله الحديث كما ألان لداود الحديث، وهو شأن وشأو لا تبلغه نواقزكم الّتي أثقلتها عجيزة ثقتكم في عقولكم، وهي كما ترون حالها حال الطّفل الفخور بأنّه صار يحبو، شهد بما شهد به ذلك العامّيّ قديما فقال: أشهد بأنّ هذا العلم إلهام!
فإن قال قائل لم نفهم هذا الكلام الأخير قلنا: وذاك أيضا هو المطلوب، أن تتعلّم لتفهمه، أو تسكت وتعلم أنّك لا تعلم!
ومتى وقعت في مشكلة أو ظهر لك بعقلك الرّضيع تناقض = تسأل أهل الذّكر كما أمر منزّل الذّكر فيشفيك وتترك الكبر وتتواضع للعلم، لا أن تجعل لنا نفسك نبيّا تصرخ بإصلاح المدوّنة التّراثيّة ممّا فيها من اللّامعقول.
على أنّنا لسنا ننفي حاجتنا للإصلاح، لكنّ الإصلاح يكون بالعلم لا بالجهل .. وقطعا لا يكون بالحكم بالنّظريّ على الضّروريّ كما تفعلون، فتبطلون حكم العقل وأنتم تصرخون واعقلاه!
بهذه البساطة والله.
هذا باختصار من رأس القلم جواب مستعجل عن غثاء رأيته آنفا، على جماعة يعدّون أنفسهم أرباب التّفكير العقلانيّ وأنّهم أنجاهم الله من تسليم عقولهم للفقهاء..
فهذا جواب من متفيقه مثلي يسأل الله أن يحشره في جملة أولئك الفقهاء، وقد أتى بنيانكم من القواعد، فأرونا بم تخرجون منه.. فكيف لو لاقيتكم موجة فقيه!
ولعلّي أنشط لمزيد بيان إن شاء الله إن دعت الحاجة.