كناشة الفوائد والشوارد
هوية بريس – صفية الودغيري
لقد اعتدت -لا قطع الله وصل عاداتنا الحسنة- أن أعلق وأعقب وأضيف -ضمن كناشة الفوائد والشوارد- على النصوص التي أختارها وأنتخبها من أصناف متنوّعة من الكتب والمصادر التراثية، في مواضيع شتى وفنون مختلفة، لأنّني أرى أن رسالتي العلمية تلزمني أن أقدمها إلى القارئ ـ في زماننا هذا ـ زمن النّكوص والتّقاعس، وخذلان الكلمة الهادفة، وخيانة الفكرة الرّائدة، وعدم الاعتراف إلى من يحقّ الاعتراف لمصبات ومنابع أقلامهم الصافية، مهابة وتعظيما لقدرها، وقدر حملتها، وقدر ما بذلوه وقدموه من تضحيات ومبرّات، وبشهدوا لهم شهادة حقّ وإنصاف، وشهادة اعتراف بجميلهم ..
ولأنّنا ضعنا في زمن انتشار ما هو مبتذل، وغلبة السّاقط والتّافه، وزمن الصّدود عن القراءة، وهجرالمكتبات والكتب، وإدمان كلّ جديد له إغراء وسحر آسر، وإن كان لا يقدّم إلى العقل جديدا نافعا مفيدا، ولا يرقى بالفكر ولا يسمو بالثقافة ..
ولكنه زمن قد استبدّ فيه سلطان المجد الزّائف، فصار يسلب من إنسان هذا العصر والزمان دينه، ويصم شرفه، ويحطب قيمه ومبادئه، بل ويفرغ وعاءه وجرابه، ويخلع روحه وجسده من كل عزيز وثمين ونفيس، ليظل تحت تأثير الاستلاب وعربدة سكره وإدمانه، وتهافته على الأجهزة التي حوّلته من إنسان حرّ طليق، ومن إنسان مفكّر ومنتج إلى جهاز ثابت ومتحرّك، يستقبل ويسجل، ولا يتقن غير التسجيل واستقبال الغثّ والسّمين، والنّافع والضّار، وحفظه على صورته وهيأته ومحتواه، فلا يحلّل، ولا ينقد، ولا يناقش، ولا يعترض ولا يخالف، ولا يصحّح ولا يغيّر ولا يستدرك، ولا يولّد فكرة، ولا ينتج هدفا أو رسالة، ولا بدافع عن قضيّة ..
واليوم أجد نفسي لا أملك الكلمة لأعلّق بها على هذا التقديم – الذي اخترته لكم – حتى لا أفسد علي وعلى القرّاء متعة الالتذاذ بالحرف والكلمة، ولا أحرمكم من النظر والتامل والاعتبار بدروس هذه الرسالة التي ستحرك بداخلكم الكثير والكثير من الأفكار، وتتتجاذبكم المعاني بين الإقدام والإحجام، وبين التعبير والصمت، والتحصن برباطة الجأش التي تناظر هذا الرباط المقدس ـ الذي يوثق القارئ بالكاتب ـ فلا سلطان إلا سلطان الكلمة وقوة المعنى، ونفاسة الكتاب وعظمة الكاتب، ومن يقدم ويكتب كلمة اعتراف وشهادة حق يخلدها لنا التاريخ – نحن القراء – ولمن سيأتون بعدنا ..
ولقد آثرت أن أختلي معكم في محراب هذا الجمال، أحادث التاريخ ويحادثني، راجية أن أستمدّ قبسا من أنوار حروف وكلمات هذا التقديم وأنوار جلال معانيه، لترحل بي نفسي مطمئنة إلى هجرتها وإيابها، لأعود وتعود إلي نفسي راضية مرضية ..
والنص الذي اخترته لكم ـ أيها القراء الكرام ـ هو تقديم بقلم الأستاذ محمد بنونة : لكتاب تاريخي عظيم القدر واسع النفع، ومؤلف قيّم هو “تاريخ تطوان لمحمد داود”:
(اللهمّ يا لطيف نسألك اللُّطفَ فيما تجُرُّ إليه اليَراعَة من الفَلَتات، ونعتصم بك ممّا توحيه العقول من الخَطَرات، وسَداد الحكم في النَّظَرات .
ما أقدمت على أمرٍ باندفاعٍ تلقائي، وحماسٍ لدنّي، واغتباطٍ لا شعوري مثلما أقدمت على وضع مقدمة لهذا التأليف القيِّم ـ يقصد تاريخ تطوان لمحمد داود ـالذي أنظر إليه الآن أمامي، وإنّني لأحسُّ من أعماقي ـ وقد تداخَلني الزَّهو ـ بأنّني أحد الأفراد المعدودين الذين يجب أن يقدِّموا للقرّاء الكرام هذا التّاريخ، فقد عرفته فكرةُ وأمنيَّة، ثم شاهدت ولادته، وعايشت نمُوَّه، وسايرت تضخُّمه، ورأيت اخْتِتامه ـ إن صَحَّ أنَّه اخْتَتَم وانتهى ـ وخبرت فيما بين ذلك بعض ما تحمَّل في إخراجه من الأتعاب، وسبرت فيه الأغوار والشِّعاب، فشعرت بجَدارَة التَّقديم، بل أحسست بأنَّني ـ أنا ـ في شِدَّة نهَمٍ، وحرارة ظمأ، إلى قول جملةٍ فيها تقديرٌ وإِجْلال، وفي حاجة ملِحَّة إلى كتابة كلمة فيها اعتبارٌ واعترافٌ . وكان الله بالصّابرين عليمًا، وللمُجِدّين معينًا، وهو البصير بأعمال العباد .
وما أحجمت عن أمرٍ ـ أنا فاعِلُه ـ كإحجامي عن كتابة مقدِّمة لهذا المؤلَّف القيِّم، …. لقد تعاظَمني الأمر، وهالَني الخَطْب، وكِدْتُ أَسْترجِع الوعد، وأعتذر بالقُصور، فليس من اليسير أن تضع ـ أمامك ـ آلافًا وآلافًا من الصَّحائف، وتقول فيها كلمتك في مَدى قصير من الزَّمن، سواء كانت هذه الكلمة لها أو عليها، وليس من السُّهولة ـ أيضا ـ أن تقف أمام المرآة وتصف نفسك للجمهور، وأنت صادق القول، رضِيُّ الضَّمير، مطمئنُّ القلب …
إنّني أريدها كلمة وضّاءة أمينة، خالصةً ناصعة، تقول الحقَّ كالمرآة الصّافية، لا تَنْقَعِر فتكبر، ولا تَحْدَودَب فتصغر، ولا أقنع بأن أكون مثل الدّليل الخِرِّيت من المتاحف، ولا المحشِيِّ البصير من الشّارح، وإنّ هذه الإرادة جعلت الفُروض تتلوَّن في ذهني بين النَّفض والنُّصوع، فلم تترك في الاستهلال براعة كما أَوْحى الاندفاع، وإنّما لبدت أفقه بالهيبة كما شاء النُّكوص، فغُمَّ علي، وعقَد منّي اللِّسان، وكادت الشّجاعة تنهزم أمام تدبُّر العواقب، وأوشك الإقدام أن ينضب إزاء مراقبة النّاس، وهجس في نفسي ما يخامر كلّ حائرٍ من شك، وما يصيب كلّ مراقبٍ من وَهَن، وجاءت كلمة أخي العلامة سيدي عبد الله بن كنون بالحق(…) جاءت هذه الكلمة وعصفت بالرّجاء، وفعلت أفاعيلها بالإقدام، إنّ الإنسان مهما ادّعى في قدرته الاستقلال في الرّأي، وزعم أنّ في استطاعته التَّجرُّد من غرائزه الذّاتيَّة، والتَّحرُّر من العواطف والمشاعر والمعتقدات، فإنّه واهِمٌ مستسلمٌ لأكذبِ الظَّن.
إنَّنا ـ يا قُرّائي الكِرام ـ جماعةٌ من الأَحْباب، من الإخوان، من الأرواح، قد تعارَفْنا فائْتلَفْنا حتّى كأنَّ نفوسنا خُلِقَت من معدن الإخاء، وفُطِرَت على سجِيَّة الوفاء، وهُذِّبَت بحُسْن التّقدير، فأصبح لنا ـ فيما بيننا ـ شأنٌ وأيُّ شأنٍ، فالمختار السّوسي، وعبد الله كنّون، ومحمد داود، والتّهامي الوزّاني، وكاتب هذه السّطور، بيننا من المحبَّة والإخلاص، والوِداد والوَلاء، والتَّفاهُم والانْسِجام، والتَّقارُب والاتّحاد، ما يعرفه النّاس وما لا يعرفون، فأصبحت كلُّ كلمةٍ يكتبُها أيُّ واحِدٍ منّا عن أخيه فكأنّما يكتبُها عن نفسه، ولم يتعوَّد أحدٌ من ذوي النّفوس الأبيَّة، والضّمائر الحيَّة، والكرامة المعتزَّة، أن يمدح نفسه أو يذُمَّها أمام النّاس، ولو كان يعرف منها ما يعرف” أنّ الدُّنيا هكذا.
وتلك هي سُنَّة الله في خلقه، (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا )، ولكن ماذا أصنع والواجب فوق كلّ اعتبار، والرَّغبة -في حيِّزِها- تطغى وتجعلني أتضوَّر نهَمًا.
إذا عرفنا هذا واعترفنا به، وأَقْرَرْناه، فلنا أن نتحمَّل لوازِمَه، وعلينا تقع نتائجه، ولْيقُل النّاس ما يمكن أن يقولوا، فمن راقبهم مات غمًّا..).