كن صالحا فإن الفساد لا يزول

كن صالحا فإن الفساد لا يزول
هوية بريس – د. أحمد اللويزة
لما أراد الله خلق آدم أخبر الملائكة بذلك فقال لهم: (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) سورة البقرة. فكان الرد من الخالق سبحانه: (إني أعلم ما لا تعلمون)، دون أن ينكر عليهم حصول الفساد الذي ذكروه، وهذا يدل على أن الفساد قدر واقع لا يرتفع، وحاصل ما له من دافع، لأن سنة الحياة التي خلقها الله اقتضت أن يكون فيها خير وشر وفساد وصلاح وحق وباطل، وقد تقرر ذلك حتى قبل أن يخلق هؤلاء البشر.
وإنما جاء الأنبياء لنشر الصلاح ومحاربة الفساد، سواء تعلق الأمر بفساد الدين أو الدنيا، وقد كان التركيز على إصلاح ما أفسد الناس من الدين باعتبار صلاح الدين صلاحا للدنيا.
وعلى سبيل المثال نجد نبي الله شعيبا يحذر قومه من فساد دنياهم المتمثل في التطفيف في الميزان وأكل أموال الناس بالباطل، وذلك عن طريق دعوتهم إلى إصلاح دينهم من خلال تحقيق توحيد الله والتزام الصلاة، ولذلك كان اعتراض قومه على الصلاة: (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) سورة هود، وقد كان هم شعيب عليه السلام هو الإصلاح كما جاء على لسانه في القرآن حين قال لقومه: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت).
إن الفساد لن يخلو منه زمن، ولن ينجو منه بلد، وقد كان الفساد في أفضل الأزمنة، ووجد في أطهر بقعة، وفي زمن أفضل الرسل، فزواله مستحيل وبقاؤه حكمة ربانية، ولولا وجوده ما تبين الصالح من الطالح، والتقي من الفاجر، وما تحقق مراد الله من الخلق، فهو الذي خلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملا. قال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة…) وقال سبحانه: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) الكهف.
فإذا تقرر هذا، علم أن أول واجب على المرء أن يسعى في صلاح نفسه وتزكيتها، والأخذ بزمام أمورها حتى لا تبقى في الفساد ترتع وله تخضع، فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها، فإنها أمارة بالسوء أصالة، والإنسان خلق ظلوما جهولا؛ خصلتان مغروزتان في نفسه لا ينفك عنهما إلا بالعلم بالوحي والتربية عليه.
وليس المطلوب منا أن نقضي على الفساد من الوجود، بل سيبقى ويبقى الفاسدون، بل هم آخر من يبقى في هذه الدنيا وعليهم تقوم الساعة كما ورد في الحديث: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس) رواه مسلم. ومما ينبغي أن يعلم أن قاعدة الشرع الحنيف هي جلب المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها، وبالتالي فإن الحرص كل الحرص هو أن يكون الإنسان صالحا مصلحا وسط ركام الفساد بكل أنواعه، وأن يجاهد حتى لا يتلطخ ثوب أخلاقه بلوثة من الفساد، وهذا أمر الله لعباده كما أشرت إليه في آيات سابقة، وكان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).
وهذا يقتضي أن يبادر الإنسان إلى مجاهدة نفسه وحملها على الصلاح في شموليته، عوض أن يكتفي بالتباكي على وجود الفساد والشكوى من سطوة المفسدين، لأن من أهم سبل محاربة الفساد مزاحمته بالصلاح والإصلاح، وقد لوحظ أن كثيرا ممن يرفع راية محاربة الفساد هو غارق فيه إلى أخمص القدمين، وأنه يحاربه إذ لم يأخذ حقه منه، وقد أثبت الواقع ذلك بألف شاهد ودليل من خلال أناس علم عند العامة والخاصة صراخهم ضد الفساد والمفسدين، فلما أصبحت لهم الفرصة كانوا أشد فتكا وأسوأ فسادا، إذ لم يعملوا على صلاح نفوسهم، واكتفوا بلعن الفساد والمفسدين.
فليس كل من رفع شعار محاربة الفساد صادقا في ذلك، بل إن فرعون أشر الخلق ادعى ذلك وزعم الفساد في أهل الصلاح حين قال لقومه: (ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)، هكذا بكل صفاقة، وهو المشهد الذي لم يزل يتكرر إلى اليوم.
والخلاصة أن الإنسان المسلم العاقل من يحرص على أن يكون صالحا بعيدا عن الفساد حتى وإن طغى الفساد وعم، لأنه قد لا ينجو من ذلك حتى وإن عم الصلاح وفشى، لأن نفوسا كثيرة لا تستطيع أن تعيش إلا في ظروف فاسدة، وقد كانت منها نفوس تعيش مع أفضل الخلق وإمام الحق ورائد الإصلاح في تاريخ البشر، فكيف بمثل هذا الزمان الذي اجتمعت فيه كل وجوه الفساد وضاعت الأمانة وساد اللؤم.
وقد نصت السنة على هذا في قوله عليه السلام: (جاء الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء. قيل: من الغرباء؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) رواه الإمام أحمد. وفي رواية قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، وفي لفظ آخر قال: هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي.
وهذا يدل على أمور كثيرة، منها أن آخر الزمان سيكثر فيه الفساد والإفساد، وأن الصالحين والمصلحين سيكونون قلة، وأن الإصلاح إنما يكون بشرع الله في واقع المسلمين الفاسد، وأن الإصلاح بنظريات مخالفة لشرع الله الحاكم في واقع المسلمين ضياع وخبل واستنبات في غير المحل.
فكن صالحا أولا فإن الفساد لن يزول.



