كورونا.. والإنسان في القرآن
هوية بريس – سعيد شرود
لاشك أن الإنسان بلغ من التطور ما لم يكن يخطر على بال أحد منذ أقل من خمسين أو ستين عاما، بدءا من شق الذرة وتفكيكها وصولا إلى رصد المجرات البعيدة عنا ملايين السنوات الضوئية وطرح نظريات من قبيل “نظرية الأكوان الموازية”، حتى إن هذا التطور بلغ بهذا الإنسان درجة يرى فيها نفسه “إلها” أو ما يسمى ب”تأليه الإنسان”.
لكن للتاريخ -بسننه الكونية- رأي آخر في الكشف عن حقيقة الإنسان عبر مختلف المحطات التي مرت بها البشرية، من ذلك ما نشهده اليوم – من الهلع والخوف والجزع واليأس والضعف والأنانية والعجلة والظلم والاعتداء…- مع انتشار فيروس كورونا “covid 19” في كل أركان المعمورة، فإن هذا الفيروس الصغير الذي لا يلحظ بالعين المجردة أماط اللثام وأزاح الستار لينكشف أمامنا المعدن الحقيقي للإنسان.
في حين نجد أن القرآن الكريم قدم لنا الخريطة الحقيقية لهذا الإنسان في صور جلية واضحة منذ أن خلقه الله تعالى إلى أن تقوم الساعة، وذلك في آيات عديدة على مستوى كثير من السور.
إذن، كيف تحدث القرآن الكريم عن الإنسان؟ وكيف أزال فيروس كورونا القناع عن حقيقته؟
في بعض النماذج والأمثلة سأحاول الإجابة عن هذين السؤالين:
أولا: الخوف والجزع والأنانية:
بعد عمل دام 48 ساعة متواصلة، خرجت الممرضة البريطانية (داون بلبرو) منهكة القوى، مدركة حاجتها، لأن تبقى قوية من أجل استمرارها في تقديم المعونة الطبية لمرضى فيروس كورونا. أحرقت الدموع عينيها الزائغتين، ومُنيتْ بخيبة كبيرة بعد أن طوّفتْ بالأسواق المركزية بحثاً عن خضروات وفواكه طازجة! وسجلت للعالَم كله هاته اللحظة الحارقة
وحظي هذا الخبر بمئات التعليقات، من قبل مجموعة متنوعة من المسؤولين والإعلاميين وغيرهم وأعداد كبيرة من الناس العاديين. أكثر هذه التعليقات تتخذ قالباً أخلاقياً وعظياً يدعو الناس إلى الكف عن “الشراء الجائر” أو ما يُعرف بـ “هلع الشراء” Panic Buying في ظاهرة شاهدناها في دول كثيرة حول العالم، إلا أنها ظهرت بشكل أكبر وبقالب فج في بعض المجتمعات (ومن أبرزها الدول الأوروبية وأستراليا وأمريكا)، حيث شاهدنا كيف تنخرط أعداد ضخمة من الناس في “معارك شرائية” للظفر بأكبر قدر ممكن من غنائم الأطعمة والمنظفات والمعقمات وبقية الاحتياجات الضرورية، حتى لو كان ذلك على حساب حصص الآخرين، ووصل الذعر إلى حَواف خطِرة، حيث توسع الأمريكان في اقتناء الأسلحة والذخيرة وأفرغوا الرفوف منها في بعض المحلات.[1]
بعدما ذكر صاحب المقال هذا الحدث الذي يصف الحال التي وصل إليها الإنسان في بلدان مختلفة أتبعها بحدث مهم حدث بأمريكا، قال:” وهنا نستجلب حالة الشاب الأمريكي (Matt Colvin) وأخيه اللذين اشتريا قرابة 18 ألف معقّم يدوي بغية بيعها بأضعاف أضعاف أثمانها. لقد كان صادقاً ذلك الأناني حينما رفض الاعتذار، وذلك بعد أن لَمح المذيعُ الشعارَ المكتوبَ على بدلته القصيرة “رجل العائلة” Family Man، سائلاً إياه إن كان على استعداد للاعتذار للعوائل الأخرى التي حرمها من نصيبها من المعقّمات. لم يعتذر ولم يبدِ أسفاً لأنه لم يكن في جوهره سوى رجل عائلة أناه هو، لا عوائل الآخر[8]. إن لسان حال هذا الإنسان الفرداني التعاقدي لا يفتر عن القول: لقد تعبت كثيراً ونزفت طويلاً، من أجل ضمان كوني قادراً على البقاء، ولن أفرط فيه لأن أناساً “أخلاقيين” أو “عاطفيين” يصفون صنيعي بـ الأنانية أو اللامسؤولية. هم مجرد وعاظ للضعف ومحامين للضعفاء، ولستُ مُكترثاً لهم”[2]
أمام هذين الحدثين يمكن لنا أن نرى بجلاء الخوف والجزع والأنانية التي بلغها الإنسان في خضم انتشار فيروس كورونا، فأصبح الإنسان لا يرى إلا نفسه وكأنه يعيش لوحده في هذا العالم، لا وجود للغير؛ بل أصبح ينظر إلى الغير على أنه جحيم كما عبرت عن ذلك إحدى الباحثات[3].
وحين نتصفح القرآن الكريم نجد مطابقة تامة لما يقع في أرض الناس اليوم، فمثلا في سورة المعارج يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا19إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا20وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا21﴾
فالإنسان مسه شر كورونا فأصابه الجزع لأنه خلق هلوعا، قال الطبري في تفسير هذه الآية:”والهَلَع : شدّة الجَزَع مع شدّة الحرص والضجر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل”[4].
وقال السمرقندي:”إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً، يعني: حريصاً ضجوراً بخيلاً ممسكاً فخوراً، وقال القتبي: هَلُوعاً، يعني: شديد الجزع”[5].
ثانيا: اليأس والقنوط:
قال الله تعالى: ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا)[6]
وقال سبحانه في آية أخرى: ( لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ)[7]
فاليأس والقنوط هما قطع الرجاء كما ورد ذلك في المعاجم[8]، فهما صفتان جبل عليهما الإنسان:”(وإن مسه الشر) أي البلاء والشدة والفقر (فيؤوس) أي فهو يؤوس شديد اليأس من الخير. (قنوط) من الرحمة”[9]
فمن تصفح وجوه الناس واستخبر ملامحهم وجدها غير منفكة عن اليأس والقنوط، حتى بلغ الأمر بكثير منهم إلى الانتحار ووضع حد لحياتهم ظنا منهم أن الحياة لن تعود إلى طبيعتها، كما تشهد بذلك وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ففي بريطانيا مثلا:” لجأت فتاة إلى الانتحار، بعد الملل والعزلة التي عاشتهما بسبب الحجر المنزلي، بسبب تجنب الإصابة بفيروس كورونا، (ايملي اوين) بالغة من العمر 19 عاما كانت تعاني من الوحدة، ولم تستطع أن تعيش في فترة الحجر بمفردها، مما دفعها للانتحار.”[10]
وأحببت أو أورد كلاما قيما للطاهر بن عاشور متحدثا عن اليأس والقنوط، قال رحمه الله تعالى:”وأما أن الإنسان يؤوس قنوط إن مسه الشر فذلك من خُلق قلة صبر الإنسان على ما يتعبه ويَشق عليه فيضجر إن لحقه شرّ ولا يوازي بين ما كان فيه من خير فيقول: لئن مسني الشرّ زمناً لقد حلّ بي الخير أزماناً، فمن الحق أن أتحمل ما أصابني كما نعمت بما كان لي من خير، ثم لا ينتظر إلى حين انفراج الشرّ عنه وينسى الإقبال على سؤال الله أن يكشف عنه الضر بل ييأس ويقنط غضباً وكبراً ولا ينتظر معاودة الخير ظاهراً عليه أثرُ اليأس بانكسار وحزن. واليأس فعل قلبي هو: اعتقاد عدم حصوله الميؤوس منه.
والقُنوط: انفعال يدني من أثَر اليأس وهو انكسار وتضاؤل. ولم يذكر هنا أنّه ذو دعاء لله كما ذكر في قوله الآتي:{وإذا مسه الشرُّ فذو دعاء عريض}. لأنّ المقصود أهل الشرك وهم إنّما ينصرفون إلى أصنامهم. وقد جاءت تربية الشريعة للأمّة على ذم القنوط، قال تعالى حكاية عن إبراهيم{قال ومن يَقنَط من رحمة ربّه إلاّ الضَّالون}، وفي الحديث«انتظار الفرج بعد الشدّة عبادة».
فالآية وصفت خُلقين ذميمين: أحدهما خلق البطر بالنعمة والغفلة عن شكر الله عليها. وثانيهما اليأس من رجوع النعمة عند فقدها.”[11]
ثالثا: الضعف:
إن ما سببه هذا الفيروس من انهيار على مستوى الأنظمة العالمية لتجل واضح لضعف الإنسان أمام الأزمات وأمام نفسه؛ وخفتت كل الصيحات المنادية بالعلمانية والعولمة،”فقد جاءت جائحة الكورونا لتكشف – بما لا يمكن إنكاره أو تجاهله – أن عولمة البؤس الناجم عن سيرورات الليبيرالية الجديدة، المفروضة قهرا على كل الدول والبلدان، لا يمكنها أن تؤدّي إلّا إلى عولمة المآسي والأوبئة التي تهدّد الجميع: القويّ والضعيف، الأثرياء والفقراء، الجلّاد والضحيّة، من يحتكرون الثروات وضحايا الاستغلال الفاحش من مفقّرين ومهجَّرين ولاجئين تدفع بهم حروب العولمة إلى البحث عن ملاذ لإنقاذ حياتهم.”[12]
قال الله سبحانه وتعالى:( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[13]، فالإنسان بطبعه ضعيف أمام الأزمات والشهوات وضعيف أمام هواه؛ إن الإنسان ضعيف بطبعه وبسجيته، قال ابن سعدي أثناء تفسيره لهذه الآية:” وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته.”[14]
أود أن أختم هذه الكلمات بفقرة أراها مناسبة:” الإنسان يمتلك كثيرا، ويستعمل كثيرا، لكنّه لا يساوي إلاّ القليل”. هذا هو مفهوم الاغتراب أو الوثنية، كما ينصّ صاحب المقولة، يصنع الإنسان أشياءه، وبدل أنْ يتحكّم فيها تتحكّم فيه… المثير في هذه الأحداث العالمية المتسارعة، أنّ حجم الهول الذي تحدِثه في النّفوس لا يملؤه الكلام، أو العبر، أو المواعظ؛ لأنّ مع الخوف تسقط كلّ الأشياء، فلا يعود لها وجود إلا في عالم ما قبل الوباء”.[15]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] https://www.mominoun.com/articles مقال للباحث السعودي عبد الله البريدي على موقع مومنون بلا حدود.
[2] نفسه
[3] الباحثة السورية يسرى وجيه السعيد في مقال لها بعنوان ” في زمن كورونا: الآخر هو الجحيم”.
[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري
[5] بحر العلوم للسمرقندي
[6] سورة الإسراء الآية 83
[7] سورة فصلت الآية 49
[8] مقاييس اللغة لابن فارس، مادة\ يأس.
[9] مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي
[10] https://akhbarelyom.com/news/newdetails
[11] التحرير والتنوير من التفسير لابن عاشور
[12] https://www.mominoun.com/articles/ من مقال بعنوان:” جائحة الكورونا وتهاوي سرديّات الليبيراليّة الجديدة والهوويّة للباحث التونسي محمد الشريف فرحاني.
[13] سورة النساء الآية 28
[14] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي
[15] https://www.mominoun.com/articles، من مقال للباحث المغربي يوسف هريمة بعنوان ” الوباء العالمي كورونا؛ من سياق المؤامرة إلى كيف نواجه الموت”.