كيف أعاد التوفيق تشكيل الدين على مقاس الدولة؟

كيف أعاد التوفيق تشكيل الدين على مقاس الدولة؟
هوية بريس – عابد عبد المنعم
لم يعد خافيا أن التحولات الكبرى التي شهدها الحقل الديني المغربي منذ سنة 2003 لم تكن مجرد إجراءات إدارية أو تدابير تقنية، بل كانت تعبيرا عن مشروع أيديولوجي متكامل لإعادة تعريف سلطة القول الديني وضبط موقع العلماء داخل بنية الدولة الحديثة. هذا ما شدد عليه د. محمد الطوزي، أستاذ علم الاجتماع والعلوم السياسية، في مداخلته الأخيرة حين وصف وزير الأوقاف أحمد التوفيق بأنه أيديولوج قبل أن يكون وزيرا، أي أنه ليس منفذا لتعليمات تقنية فقط، بل حاملا لتصور شامل لطريقة تنظيم الدولة للعلاقة بين الدين والسياسة.
قبل 2003 كان الحقل الديني يتحرك بمنطق طبيعي وتراكمي، تحكمه الخبرة الخاصة للعلماء، والفتاوى المحلية، والخطب التي تختلف من مسجد إلى آخر، ووجود هامش لا بأس به من الاستقلال عن الجهاز الإداري. لكن بعد أحداث الدار البيضاء اتجهت الدولة نحو بناء بيروقراطية دينية واضحة المعالم، تستند إلى مرجعية مذهبية محددة هي المالكية والعقيدة الأشعرية والتصوف الجنيدي، وتعمل على ضبط الفتوى في إطار مركزي داخل المجلس العلمي الأعلى، وعلى إخضاع الوعظ والإرشاد لمساطر إدارية دقيقة، وعلى توحيد مضمون الخطاب عبر الخطبة الموحدة، وعلى مراقبة التكوين والتأطير والانتقاء بما يخدم رؤية الدولة.
في هذا السياق تبرز خطة تسديد التبليغ باعتبارها الصيغة الأكثر دلالة على هذا التحول؛ فهي ليست برنامجا تربويا أو تكوينيا فحسب، بل آلية عملية لإعادة صياغة الكلام الديني داخل الفضاء العام. تحدد الخطة من يحق له الوعظ، وكيف يعظ، وبأي مضمون، وتضع إجراءات متابعة وتقييم دقيقة. بذلك تتحول إلى جهاز لفلترة الخطاب، يضمن أن يظل القول الديني منسجما مع المرجعية الرسمية للدولة، ومحميا من أي تأثير خارجي أو توظيف سياسي أو حزبي قد يخلق مرجعية موازية أو سلطة دينية منافسة.
أما الخطبة الموحدة فقد أصبحت التعبير الأكمل عن مركزية القول الديني داخل المنظومة الجديدة. لم يعد المنبر مساحة للاجتهاد الفردي أو لخصوصية الإمام، بل أصبح قناة لبث خطاب واحد تتولى المؤسسة الرسمية صياغته. ووفق قراءة الطوزي فإن هذا التحول لم يكن إجراء ظرفيا بل كان جزء من تصور يرمي إلى جعل المنبر أداة من أدوات السيادة الرمزية التي تحتكرها الدولة وتستعملها لضبط المجال القيمي، وتوجيه المزاج الديني العام، ومنع أي تعدد قد تتولد عنه شرعيات بديلة.
وتزداد أهمية هذه التحولات عندما توضع داخل الإشكال العميق المتعلق برفع حالة التنافي بين سياسة الدولة والقانون الوضعي من جهة، وما هو منصوص عليه في التراث الفقهي المالكي من جهة أخرى. فالدستور الحديث يمنح السيادة للأمة، والتشريع للبرلمان، وتنظيم المجتمع للقانون الوضعي، بينما يربط الفقه المالكي مسألة التشريع بالعلماء المعتمدين على النص. ولحل هذا التوتر أعادت الدولة تعريف موقع العلماء بوصفهم مستشارين في أمور محددة فقط لا مشرعين، وجرى تحويل الفتوى إلى نصوص معيارية ذات وزن أخلاقي لكنها غير ملزمة سياسيا إلا عبر قنوات محددة، كما تم ترسيخ تصور يجعل الدستور المصدر الأعلى للشرعية بينما تبقى الشريعة مرجعية أخلاقية عامة.
هذه الهندسة المعقدة تجعل الطوزي يعتبر أحمد التوفيق مهندس الأيديولوجيا الدينية للدولة المغربية. فهو الذي أشرف على الانتقال من الحقل التقليدي المتشعب إلى منظومة مؤطرة وبيروقراطية، وهو الذي أعاد ترتيب العلاقة بين الفقه والسياسة، وبين المرجعية الدينية والشرعية الدستورية، داخل مشروع يسعى إلى إنتاج نموذج مغربي خاص للسيادة على الدين، يجمع بين مقتضيات الأمن الروحي ومتطلبات الدولة الحديثة وحساسيات الشرعية التاريخية.
لكن هذا البناء البيروقراطي الذي يقدَّم بوصفه هندسة حديثة للأمن الروحي، لا يمرّ دون أثمان اجتماعية ومعرفية واضحة. فبدلا من أن يزرع الاطمئنان ويعزز الثقة، بدأ يخلق احتقانا متزايدا داخل الأوساط العلمية والدعوية، حتى بين الكثير من العلماء الذين يشتغلون داخل المؤسسات الرسمية نفسها. هؤلاء لا يُظهرون اعتراضهم علنا، خوفا من بطش الوزارة وحماية لمشاريع دعوية، لكنهم غير راضين عن سياسة تُطوّع الدين للسياسة وتحصر وظيفته في خدمة سردية رسمية واحدة، بينما تُفرغ مجال الإفتاء والوعظ من حيويته التاريخية وتمنع أي اجتهاد مستقل أو رأي مخالف مهما كان علميا أو رصينا.
إن هذا الوضع جعل فئات واسعة من الشباب تفقد ثقتها في المؤسسات الدينية الرسمية، لأنها لا تراها تعبّر عن وجدانهم ولا تدافع عن رموز دينهم في لحظات التدافع القيمي، خصوصا حين يُزدرى الدين في الإعلام، أو تُسخر نصوص الوحي في بعض المنابر، أو تُستهدف الهوية الإسلامية بشكل مباشر. ورغم أن هؤلاء ينتظرون من الوزارة موقفا صريحا، فإنهم يفاجأون بصمت يزيد الفجوة اتساعا، ويجعل الشعور بالعزلة الروحية أكبر.
وما يزيد من حدة هذا التوتر أن الوزارة ليست عاجزة عن القيام بواجبها في حماية ثوابت الأمة، بل هي مانعة لأي صوت يحاول إنكار المنكر إنكارا شرعيا مقررا في القرآن والسنة، في الوقت الذي تتغاضى فيه عن ممارسات علنية في بعض المهرجانات والفضاءات العمومية تُروّج للرذيلة وتلوث الفطرة، دون أن يصدر عنها أي موقف ينسجم مع مسؤوليتها الشرعية والدستورية في صيانة قيم المغاربة.
هكذا تصبح الهندسة الدينية الجديدة للوزير مشروعا يهدف إلى الضبط أكثر مما يهدف إلى الإصلاح، وإلى التحكم أكثر مما يهدف إلى التزكية، الأمر الذي يهدد بفصل شريحة واسعة من المجتمع عن مؤسساته، ويحوّل الدين من قوة جامعة إلى مجال حساس يزداد حوله الاحتقان. ومن هنا يظهر أن الحاجة ليست إلى مزيد من المركزية والانضباط الإداري، بل إلى إعادة الثقة، وإتاحة القول العلمي الرشيد، واحترام وعي الأمة وهويتها التي لم تكن يوما بحاجة إلى وصاية، بل إلى رعاية صادقة تحفظ للدين مكانته وللمجتمع توازنه.



