كيف عالجت الشريعة الإسلامية ظاهرة العنوسة؟
هوية بريس – د.يوسف الحزيمري
تعد ظاهرة العنوسة من الظواهر المقلقة التي تهدد النوع الإنساني على هذه البسيطة، لأنه إذا كان من مقاصد الزواج تكثير النسل، فإن هذا التكثير مقصود أيضا لعمارة الأرض وتحقيق أمانة الإستخلاف فيها، ومقصد آخر أعظم هو تحقيق الغاية من الوجود الذي هو توحيد الخالق وعبادته.
ومن ثم كانت من حكمة الباري تعالى أن جعل من آياته التي امتن بها على عباده هذا التزاوج بين الجنسين، قال تعالى:{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم:21]
وقد جعل الله تعالى هذه العلاقة بين الجنسين تنتظم في إطار علاقة شرعية تسمى الزواج الشرعي، وسماه ميثاقا غليظا، وأحاطه بمجموعة من التشريعات التي تحفظ كيانه من جانب الوجود والعدم، أي ما يقيم أركانه ويثبت قواعده، وما يدرأ عنه الاختلال الواقع أو المتوقع فيه بتعبير الإمام أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله.
وإن “الزواج تنظيم شرعي متين، شرعه الحق تبارك وتعالى لتحقيق مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية، وهو حفظ النسل، وما يتبع ذلك من حفظ للدين، وحفظ للعرض، ولذلك حض الإسلام على الزواج والتناسل والتكاثر لحفظ النوع الإنساني، ولتكوين أسرة مؤمنة، ولتجنيب المجتمعات ويلات ارتباط الرجل بالمرأة برباط غير شرعي”[1].
وإن اختلال هذا التنظيم يؤدي إلى مفاسد دنيوية في العاجل، ومفاسد أخروية في الآجل، ومن مظاهر هذا الاختلال ما يسمى بالعنوسة، وهي فوات سن الزواج على الرجل والمرأة سواء، ومرجعه إلى أسباب دينية واجتماعية واقتصادية.
فما هو مفهوم العنوسة؟ وما هي أسبابها؟ وكيف عالجت الشريعة الإسلامية هذه الظاهرة؟
في اللغة يقال: “عنست الجارية، عنوسا وعناسا: طال مكثها في أهلها بعد إدراكها، حتى خرجت من عداد الأبكار، ولم تتزوج قط، وهي: عانس، ج: عوانس، والرجل: عانس أيضا”[2]، “وأكثر ما يستعمل في النساء”[3]، ويتضح “أن المعنى اللغوي للعنوسة يدور حول فوات فرصة الرجل أو المرأة في الزواج حتى يذهب وقته المعتاد”[4].
ووردت مفردة في كتاب الله تعالى تؤدي هذا المعنى في قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} [النور: 32]
قال ابن كثير رحمه الله: “الأيامى: جمع أيم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له. وسواء كان قد تزوج ثم فارق، أو لم يتزوج واحد منهما، حكاه الجوهري عن أهل اللغة، يقال: رجل أيم وامرأة أيم أيضا”[5]
واصطلاحا هو: “بقاء الرجل والمرأة بدون زواج بعد مضي السن المناسبة له عادة، لسبب من الأسباب، مع حاجته إليه ورغبته فيه، أو امتناعه عنه”[6].
وترجع أسباب هذه الظاهرة إلى جملة من الأسباب المتشابكة، تؤدي بعضها إلى بعض، وتزيد من تضخمها في المجتمع، منها أسباب دينية تتمثل في الابتعاد عن الهدي الرباني، وما شرعه من أحكام غاية في العدالة والحكمة وملاءمة للفطرة التي خلق الإنسان عليها، وأيضا اختلال مفهوم الزواج ومقاصده الشرعية، بسبب الأفكار الغربية الغريبة التي تنظر إلى مؤسسة الزواج نظرة استعباد وتبعية، وما تبثه الحركات النسوية المستلبة من أفكار مسمومة حول العلاقة بين الجنسين، وحول الزواج عموما.
أضف إلى ذلك الظروف الاقتصادية الصعبة، وارتفاع نسبة البطالة في أوساط الشباب، وإن كانت هذه الظروف مرتبطة بالجانب الديني أيضا أيما ارتباط، لأن الفقر لم يكن يوما سببا في العزوف عن الزواج، خصوصا أن معظمنا ولد في أسر فقيرة وأغناهم الله من فضله بعد الزواج.
ومما يرتبط بالأسباب الاقتصادية غلاء المهور، والمبالغة في المظاهر والشكليات المرتبطة بحفلات الخطبة وعقد القران والزفاف، وما يرافقه من مظاهر السرف والتبذير، وما يكلفه ذلك من مبالغ باهضة تدفع المقبل على الزواج إلى الإحجام عنه، وهنا أشير إلى كتاب “تنبيه الأكياس إلى الاقتصاد في المآتم والأعراس أو تنبيه السادات للتخلي عن أرذل العادات” لمؤلفه “محمد التهامي أفيلال” والذي كان الداعي إلى تأليفه هو “ما انتشر في المجتمع من بدع وضلالات استحكمت في جميع الطبقات بمقتضى حكم العادات ورضخ لذلك الجاهل وسكت العالم فعمت المفاسد” وذلك خصوصا في الأعراس، ومن ثم قال مؤلفه “ما عذرك يا مسكين في هذا التقليد الذي صيرك شقيا؟”
ومن الأسباب أيضا المساهمة في تفاقم ظاهرة العنوسة، القلق على المستقبل من الجانبين سواء الرجل أو المرأة، انطلاقا من قراءة تجارب الآخرين في الزواج، أو النظر إلى الوضعية الاقتصادية للطرفين، أو ما يحملونه من أفكار خاطئة تؤدي إلى حالة نفسية معقدة لدى الشباب يمكن أن نسميها “بفوبيا الزواج”.
وأيضا من الأسباب المبالغة في المواصفات التي يطلبها المقبلين على الزواج في شريك الحياة، سواء ما يتعلق بالشكل والمظهر، أو ما يتعلق بالروح والجوهر، وطلب الكمال في ذلك، مع أن الكمال البشري هو كمال نسبي.
ونحن إذا تتبعنا أسباب هذه الظاهرة لم نقف عند نقطة نهاية لأنها متداخلة ومتشابكة بين ما هو ديني واجتماعي ونفسي واقتصادي كما سبقت الإشارة إليه.
والحل في معالجة هذه الظاهرة المتفاقمة التي تدق ناقوس الخطر في المجتمع، وتهدد كيان الأسرة المسلمة، هو العودة إلى روح التشريع الإسلامي ومقاصده، وما وضعه من أحكام تترواح بين الوجوب والحرمة والإباحة والندب والكراهة في كل ما يتعلق بمؤسسة الزواج، وقد وضع الإسلام جملة من التدابير الشرعية للحد من انتشار العنوسة بين الرجال والنساء في المجتمع الإسلامي ومن أهمها:
-الحث على الزواج، والحض على تكثيره في المجتمع الإسلامي.
-التحذير من المغالاة في المهور، والحض على تيسير المهور وتقليلها بكل وسيلة ممكنة.
-للدولة دور بارز في الإسهام في تقليل المهور كسياسة عامة.
-تعدد الزوجات في الإسلام له أثر بالغ في محاربة ظاهرة العنوسة في المجتمع الإسلامي، وهو أضحى مطلبا نسائيا قبل أن يكون مطلبا رجاليا، لأن التشريع في ذلك عادل، وإنما الظلم والفساد يتأتى من عدم التزام الأوامر الإلهية المطالبة بالعدل.
-محاربة الفساد والتبرج وتوجيه الشباب والشابات للزواج.
-محاربة الأفكار الخاطئة والمنحرفة التي تؤخر الزواج وتعيقه.
-منع عضل الأولياء لمولياتهن عن الزواج.
-محاربة البطالة في أوساط الشباب وتحسين ظروف الحياة.
ومن ثم كان لزاما على المؤسسات الدينية أن تقوم بواجب الوقت في التعريف بمقاصد الزواج في الإسلام والترغيب فيه، وتأهيل المقبلين عليه ماديا ومعنويا عبر دورات تأهيلية من أجل الزواج، والرد على شبهات الحركات النسوية التي تغزو عقول شاباتنا وشبابنا، والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.
الهوامش:
- مهلا يا دعاة العنوسة، دراسة فقهية اجتماعية، محمد خالد عبد العزيز منصور، دار المناهج، الطبعة الثانية 1420هـ/2000م، ص: 9
- القاموس المحيط (ص560)
- المعجم الوسيط (2/ 631)
- مهلا يا دعاة العنوسة، دراسة فقهية اجتماعية، محمد خالد عبد العزيز منصور، ص: 21
- تفسير ابن كثير – ت السلامة (6/ 51)
- مهلا يا دعاة العنوسة، دراسة فقهية اجتماعية، محمد خالد عبد العزيز منصور، ص: 22