كيف نجعل من رمضان دورة تدريبية رائدة في حسن تدبير العلاقات؟
هوية بريس – د.محمد ويلالي
– تمهيد:
كثر هذه الأيام ما يسمى ب”الدورات التدريبية” في مختلف المجالات والميادين: الاجتماعية، والصحية، والتنشيطية، والتقنية، والتدبيرية، والتربوية، وفي ميدان سبل السعادة، وقصص النجاح، وتحفيز العقل نحو الذكاء والعطاء.. مما يُنفَق عليه ـ أحيانا ـ آلاف من الدراهم للفرد الواحد، ولربما سافر أحدهم إلى بلد آخر من أجل أحد هذه التدريبات التي يُستدعى لها كبار الخبراء والمختصين.
ونص المختصون على أن المدرب هو العنصر الأساس في عملية التدريب لإحداث التغييرات المطلوبة في الأفراد والجماعات، وأن وظيفته صارت أكثر تعقيداً وأهمية، بسبب صعوبة تقبل الأفراد والجماعات لتغيير تفكيرها وأنماط سلوكها، مع جعل المتدرب في قلب العملية التدريبية، باعتباره المقصود بهذه العملية.
وعرفوا المدرببأنه “مهندس الصيانة والتحديث والتجديد للعقل البشري”.
وقد يغيب عن بعضنا أن رمضان هو أحد أعظم المدربين الذين شهدتهم البشرية جمعاء، لا يقتصر تدريبه على ميدان واحد، بل يشمل ميادين عديدة، منها التعبدي، والتربوي، والاجتماعي، والصحي، والاقتصادي، وغيرها.
– وهو مدرب عجيب، لأنه:
ـ لا يحتاج منك لتعد العدة للسفر إليه، بل هو يأتيك، فيحل ضيفا عليك.
ـ ولا يطالبك بمقابل، بل يعرض عليك خدمته في دورة مجانية.
ـ ولا يفرض عليك نفسه باعتبار تخصص معين، أو ميدان معين، أو استهداف جنس معين، أو تخصيص مكان معين.. بل يَفسَح خدماته للمسلمين جميعا، ذكورهم وإناثهم، غنيهم وفقيرهم، وفي كل المجالات التي تصلح دينهم ودنياهم، مع استحضار ظروفهم الواقعية، ومراعاة الفروق الفردية، وتكافؤ الفرص، مع تحديد كفاية دامجة، مركبة من أهداف تفصيلية، واضحة وقابلة للقياس، تتضافر في تحقيق سعادة المتدربين الحقيقية، وغَمارة حياتهم بالنجاحات الواقعية، التي تعتبر بمثابة أوسمة وشهادات عليها توقيع سيد المرسلين ﷺ عن رب العالمين، عنوانها: (مغفرة الذنوب): “بعُدَ مَن أدرَك رمضانَ فلم يُغْفَرْ لَهُ”[1].
ومن جميل كلام ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: “مثل الشهور الاثني عشر، كمثل أولاد يعقوب. وكما أنَّ يوسف أحب أولاد يعقوب إليه، كذلك رمضان أحب الشهور إلى الله. وكما غفر لهم بدعوة واحد منهم وهو يوسف، كذلك يَغفر الله ذنوب أحدَ عشر شهرا ببركة رمضان”.
-البشارة بقدوم رمضان:
تتجلى أهمية هذا المدرب الرباني، في استبشار النبي ﷺ بقدومه، وتهنئة صحابته بإدراكه. يقول النبي ﷺ: “أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ”[2]. وذلك أن رمضان شحنة إيمانية قوية، تمدك بالجرعات الكافية للاستمرار على طريق السعادة والنجاح إلى رمضان المقبل، كما بين الصلاة والصلاة، وصلاة الجمعة والجمعة الأخرى، والعمرة والعمرة.
وهذا الشعور هو الذي حمل السلف على حب رمضان، فكنوا له ما يستحقه من التوقير والتقدير، فأعدوا له عدته، واحترزوا من كل عمل يخدِش نقاءه، ويعكر صفاءه.
فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عند قدوم رمضان: “مرحبا بمطهرنا من الذنوب”.
وكان يحيى بن أبي كثير ـ رحمه الله ـ يقول: “اللهم سلمنا إلى رمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلا”.
وقال مُعَلَّى بن الفضل ـ رحمه الله ـ: “كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم”.
كانوا يخافون أشد الخوف، أن يعاجلهم الموت قبل رمضان، فتضيعَ منهم فرصة ربما كانت سببا لتثبيت قدمهم يوم تزل الأقدام، وبخاصة إذا علمنا أن 153 ألف شخص يموتون في العالم كل يوم، أي: قرابة شخصين كل ثانية، أزيد من 100 ألف منهم يموتون على غير ملة الإسلام. وإن أطال الله بقاءك حتى تبلغ سبعين عاما، فقد مات منذ ولادتك أربعة ملايير من الناس، بعد أن اصطفاك المولى ـ عز وجل ـ، فمكنك من شهود خمسة وخمسين رمضانا ـ تقريبا ـ.
كَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِمَّنْ صَامَ فِي سَلَفٍ أَفْنَاهُـمُ الْمَوْتُ وَاسْتَبْقَاكَ بَعْدَهُمُ | مِنْ بَيْنِ أَهْـلٍ وَجِيرَانٍ وَإِخْـوَانِ؟ حَيًّا فَمَا أَقْرَبَ القَاصِي مِنَ الدَّانِي |
والله ـ تعالى ـ يقول للصائمين وقد دخلوا الجنة من باب الريان: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[3]. قال مُجاهِدٌ ـ رحمه الله ـ: “نزلت في الصائِمين”.
– أما العوامل الخارجية المساعدة على تحقيق هدف مغفرة الذنوب، والتي تسمى في علم الدورات التدريبية ب”معينات الاشتغال”، فتحددها دورة رمضان في أربعة:
1ـ فتح أبواب الجنة: قال ﷺ في رمضان: “تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ”. وفي لفظ: “تُفَتَّحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ”[4].
2ـ إغلاق أبواب جهنم: قال ﷺ: “تُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ”. وفي لفظ: “تُغَلَّقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ”[5].
3ـ تصفيد الشياطين، دفعا لوسوستها وتشويشها على الصائمين. قال ﷺ: “تُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ”[6].
4ـ تخصيص غلاف غفراني ـ في كل ليلة من رمضان ـ لعدد من المسلمين الفائزين. قال ﷺ: “وَلِله عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ”[7].
– وأما العوامل الداخلية في طريق تحقيق هدف المغفرة، فتحددها دورة رمضان في أربعة ـ أيضا ـ:
1ـ الصيام الحقيقي لرمضان. قال ﷺ: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”[8].
2ـ القيام الحقيقي لرمضان، بأن تؤدي صلاة التراويح بما تستحقه من الإخلاص والخشوع. قال ﷺ: “مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”[9].
3ـ وضمن قيام رمضان، وجب التركيز على ليلة القدر، التي قال فيها النبي ﷺ:”مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”[10].
4ـ استغلال رمضان في أنواع الطاعات، ومختلف أعمال البر تأسياً بالنبي ﷺ. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: “وكان ﷺ يَخُصُّ رمضانَ من العبادة بما لا يَخُصُّ غيرَه به من الشهور”.
– أما العلاقات التي يريد رمضان أن يدربنا على حسن تدبيرها فثلاثة أنواع: العلاقة مع الله ـ تعالى ـ، والعلاقة مع النفس، والعلاقة مع الغير.
1ـ حسن تدبير العلاقة مع الله ـ تعالى ـ:
إن رمضان يدربنا على توثيق الصلة بالله، ويذكرنا برباط التوحيد بالعبادة.
فالمسلم في رمضان لا يحرك لسانه إلا بذكر الله، ولا ينطق إلا بما يرضي الله، ولا يترك الطعام والشراب إلا قصدا لتقوى الله، فتتوثق الصلة بين العبد وربه، فيرتقي إلى درجة التخصيص التي بَشر بها الله ـ سبحانه ـ في الحديث القدسي: “يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَه وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي. الصِّيَامُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا”[11].
وتتوثق الصلة بالله في رمضان بأمرين اثنين:
أ ـ الإكثار من الاستغفار، فهو الراقع لكل نقص قد يحصل في الصيام أو القيام. قال أبو هريرة رضي الله عنه: “الغيبة تَخرِق الصيام، والاستغفار يَرقَعه. فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقَّع فليفعل”.
وعن ابن المنكدر قال: “الصيام جُنَّةٌ من النار ما لم يخرقها، والكلام السيئ يخرق هذه الجُنَّة، والاستغفار يرقع ما تخرَّقَ منها”.
ب ـ سؤال الله العفوَ والتجاوز عن كل تقصير. قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: “المستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات، وفي شهر رمضان أكثر، وفي العشر الأخير منه، ثم في أوتاره أكثر. والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء: (اللهم إنك عَفُوٌّ تحب العفو، فاعف عني)”.
2ـ حسن تدبير العلاقة مع النفس:
ـ تدريب النفس على الصيام خارج رمضان. قال نبينا ﷺ: “مَن خُتِمَ لَهُ بِصِيامِ يَومٍ، دَخَلَ الْجَنَّةَ”[12].
ـ ومثل التدريب على الصيام، التدريب على القيام.وفي الحديث: “شَرَفُ المُؤْمِنِ، قِيَامُهُ بِاللَيْلِ”[13].
يُحْيُونَ لَيْلَهُمُ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَعُيُونُهُمْ تَجْرِي بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ | بِتِــلاَوَةٍ وَتَضَـــرُّعٍ وَسُــؤَالِ مِثْلَ انْهِمَــالِ الْوَابِــلِ الْهَطَّالِ |
ـ ضبط إيقاع حاجات النفس الأخلاقية، لأن الصوم ـ وإن كان مقصودا بذاته ـ، فهو ـ أيضا ـ مقصود بآثاره. قال رسول الله ﷺ: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِله حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ”[14].
وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: “كانوا إذا صاموا، قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا، ولا نغتاب الناس”.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: “فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام”.
إذا لم يكن في السَّمْعِ مني تَصاونٌ | |||||
وفي بَصَري غَضٌّ وفي مَنطِقي صَمْتُ | |||||
فَحَظِي ـ إذاً ـ من صَوْمِيَ الْجُوعُ والظَّمَا | |||||
وإنْ قُلتُ: إنِّي صمتُ يوماًفَمَا صمْتُ | |||||
ومع ذلك، فقد صار رمضان عند بعضنا مناسبة لتكثيف الاستعداد المادي، والمعنوي، واللوجستي، والأمني، وصرنا نتحدث عن هاجس استيراد المواد الغذائية التي يزداد الطلب عليها في رمضان، حتى إن المغاربة ترتفع وتيرة الاستهلاك عندهم في رمضان بنسبة 16%، شاملة 93% من الأسر. وفي بلد عربي آخر يُنفَق قرابة ثلاثة ملايير درهم زيادة في رمضان،في الوقت الذي قدرت الإحصائيات أن 45% من المواد الغذائية ـ في بلد عربي آخر ـ التي تُستَهلك يوميا، تفيض عن الحاجة، ويُلقى بها في القمامة، حتى صار عمال النظافة ـ في بعض البلاد الأخرى ـ يشتكون من زيادة 4000 طن من النفايات في رمضان، استوجبت استنفار المسؤولين لإحداث فرق التدخل السريع لتنظيف الشوارع والأزقة، وكأن البطنة غاية رمضان.
وقد قال سلمة بن سعيد: “إنْ كان الرجلُ لَيُعيَّر بالبِطنة، كما يُعير بالذنب يَعمَلُهُ”.
حتى الخلافات الزوجية ترتفع نسبتها في رمضان، بسبب الإسراف في الطبخ، وإرهاق الزوجة.وحتى الحوادث ترتفع في رمضان بنسبة 8%.
لَا تَجعَلَنْ رَمَضَانَ شهرَ فُكَاهَة وَاعلَم بأنك لَن تَنالَ قَبولَـــه | يُلهيكَ فيه منَ القبيح فُنُونُـهُ حَتى تكونَ تَصُومُه وَتَصونُهُ |
أما آثار الصيام على الصحة النفسية، فقد طبقت الآفاق، حتى صار الصيام يوصف في بلاد الغرب لعلاج العديد من الأمراض. ويكفي أن نعلم أنهم ألفوا في ذلك كتبا كثيرة، منها كتاب: “حمية الصوم”، الذي تصدر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعا في بريطانيا والولايات المتحدة، وأعيد طبعه أزيد من 12 مرة. وحسبنا ـ نحن ـ قول النبي ﷺ: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ”[15]، أي وقاية من كل أذى. وقوله ﷺ: “عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لاَ مِثْلَ لَهُ”[16].
3ـ حسن تدبير العلاقة مع الغير:
ورمضان من أنفع العلاج للقضايا الاجتماعية، التي تدخل الصائم في علاقة واحتكاك مع غيره. ونركز على ثلاثة مؤشرات للنجاح في هذه القضايا:
أ ـ رمضان سبيل للإحساس بجوع الجائعين، وحاجة المحتاجين، وعوز المعوزين.وفي بلدنا يوجد أكثر من 15% ممن يعيشون ظروف فقر، فتكثر الأيادي الندية بالجود والعطاء، وينتشر إفطار الصائم، وتكثر الإفطارات الجماعية في المساجد، وأمام بعض المستشفيات، وفي بعض الساحات والأحياء.. امتثالا لقول النبي ﷺ: “مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا”[17].
حتى إذا انتهى رمضان، حلت زكاة الفطر، التي اعتبرها النبي ﷺ: “طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ”[18].
وذكر الزُّهْرِي حال السَّلَف ـ رضيَ الله عنهم ـ فقال: “إذا دخل رمضان، فإنما هو قراءة القرآن، وإطعام الطَّعام”.
ومؤشر النجاح في هذه القضية: مواساة الفقراء والإحسان إليهم إلى رمضان المقبل ـ إن شاء الله ـ.
ب ـ تعويد على ضبط إيقاع النفس، فلا تشتط وراء نوازع الغضب والقلق.حتى إذا استفزك أحدهم تذكرت أنك صائم، وأن الرد عليه تفويت لأجر الصوم العظيم، فيتملكك الصبر والحلم، فلا يدعانك حتى تتجاوز عن المسيء، وتصبر على المعتدي، فيقلَّ الصخب، ويزولَ رفع الأصوات، ويضمحلَّ الجهل، وينمحقَ اللغو والرفث. قال ﷺ: “وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ، وَلاَ يَصْخَبْ. فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ”[19]. إما أن يقولها بلسانه جهرا ردعا للمخاصم، وإما في نفسه.
مؤشر النجاح في هذه القضية: ضبط النفس عند الاستفزاز إلى رمضان المقبل ـ إن شاء الله ـ.
ج ـ صائم رمضان لا يشهد ضد أخيه ظلما وزورا. يقول ﷺ: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِله حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ”[20].
ومؤشر النجاح في هذه القضية: تجنب شهادة الزور إلى رمضان المقبل ـ إن شاء الله ـ.
– رمضان وتدبير المهارات الحياتية:
وهي اثنتا عشرة عند الإجمال، وثمان عشرة عند التفصيل:
1ـ مهارة الامتثال والانضباط بالأوامر العليا موثوقةِ المصلحة، وهي ـ هنا ـ الأوامر الربانية، والتوجيهات النبوية. فالله ـ عز وجل ـ اختبر المسلمين ففرض عليهم صيام رمضان، وجعله علامة على إيمانهم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)[21].
ورسولنا الكريم ﷺ يضع على الأمر الرباني لمسات نبوية، تؤثث لمشهد القبول المفضي إلى التقوى. منها:
ـالأمر المؤكِّد أهميةَ السحور: “السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ، فَلاَ تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللهَـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتَسَحِّرِينَ”[22].
ـ ومنها تعظيم سنة رسول الله ﷺ، في بدء الإفطار “عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ، فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ، حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ”[23].
2ـ مهارة التواصل، التي تركز على ثلاثة أمور:
ـ إتقان لغة رمضان، ولغته هي الكلام عند الحاجة، والصمت عند الحاجة، وتحريك اللسان بتلاوة القرآن، والإكثار من الأدعية.
ـ حسن الاستماع، والمسلم يُصغي لرمضان، ويحسن الاستماع له بصوم الجوارح عن المنكرات، كما قال جابر: رضي الله عنه: “إذا صمت، فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمأثم”.
أُحِبُّ الْفَتَى يَنْفِي الْفَوَاحِشَ سَمْعُهُ سَلِيمُ دَوَاعِيَ الصَّدْرِ لا طَالبًا أذًى | كَأَنَّ بِهِ عَنْ كُلِّ فَاحِشَـةٍ وَقْــرًا وَلا مَانِعًا خَيْرًا وَلا قَائِلا هُجْـرًا |
ـ التواصل بفعالية مع الآخرين، ورمضان إحسان، وقول خير، وهجر للرد على المعتدين بالسب والمشاتمة. ولذلك وسم النبي ﷺ الصوم بأنه “جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ”[24].
3ـ مهارة اتخاذ المواقف، وهو محوج إلى السيطرة على النفس، والتمكن من ردود الأفعال المناسبة، كما أوصانا نبينا ﷺ في التعامل مع من يروم إفساد صيامنا بسب، أو قذف، أو اعتداء، فقال ﷺ: “فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ”[25].
4ـ مهارة مخالفة المعاند، ومضاهاة المنادد.يقول ﷺ: “فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ”[26].
5ـ مهارة التذكر، وهي من المهارات العقلية التي يستهدفها رمضان، لأن الصائم تقل في جسمه الأخلاط والسموم الغذائية، فيفسح المجال للعقل، فيزداد شحذا وذكاء، فيقوى على التذكر والاستيعاب. ولذلك كان بعض السلف يَقوون على قراءة القرآن في رمضان أكثر من مرة في اليوم الواحد. ومن وعى هذه الحقيقة، علم أن الامتحانات في رمضان نعمة تعين على النجاح، وليست نقمة تستوجب فتوى تجيز الإفطار.
6ـ مهارة تقوية الإرادة، لأن رمضان شهر الصبر، يجعل من صاحبه متجاوزا رغبات النفس، وحاجات البدن؛ فلا جوع يرهقه، ولا عطش يضعفه. ولقد وضع الأستاذ الألماني “جيهاردت” كتابًا في تقوية الإرادة، جعل أساسه الصوم، وذهب فيه إلى أنه “هو الوسيلة الفعالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد، فيعيش الإنسان مالكًا زمامَ نفسه، لا أسير ميوله المادية”.
7ـ مهارة التفكير الإيجابي، حينما يقارن الصائم نفسه بإنتاجيته التعبدية قبل رمضان، لما كان رصيده من الصيام صفرا، ومن القيام صفرا، ومن ختم القرآن صفرا، ثم يجد نفسه في رمضان ـ وبطريقة سلسة دقيقة ـ قد صام ثلاثين يوما، وقام ثلاثين ليلة، وختم القرآن، وبذل الصدقات، ووصل الأرحام، وفطر الصوام.. فيرى نفسه أمام إنجازات عظيمة، ما كان ليحصدها وافرة لولا رمضان. وكم ستتضاعف الإنتاجية، وتزداد الإيجابية، حينما يصير الصيام والقيام والصدقة دينَ المسلم في باقي الأيام والشهور؟ إذً لسمت نفسه في مدارج السالكين، وارتقت في معارج المخبتين.
8ـ مهارة تقوية الروح، لأن التمادي في شهوات النفس يورث البطنة، والبطنة تذهب بالفطنة، وتطمس نور اليقظة. والصوم باعث قوي على إيقاظ الروح، وتنقيتها من أوضار المادة، وشوائب اللذة.
ومن وصايا لقمان لابنه قوله: “يا بني، إذا مُلئت المعدة، نامت الفكرة، وخَرَست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة”.
9ـ مهارة الائتلاف وتنميةِ الشعور بالانتماء، فالمسلمون في كل مكان صيامهم واحد، وعيدهم واحد، وشعورهم بالفقير عند زكاة الفطر واحد. يجتمعون على الإفطار، ويجتمعون على الإمساك، ويجتمعون على مدارسة القرآن، ويجتمعون على مجالس العلم.. وكأن رمضان تطبيق عملي لقول الله ـ تعالى ـ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)[27]، وقوله ﷺ: “عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ”[28].
10ـ مهارة التحدي ومغالبةِ قوى الشهوات، كمغالبة آفة التدخين، التي لا عذر للمدخن في أن يخرج رمضان وهو لا يزال قائما عليها. ومغالبة ضياع الوقت عكوفا على المواقع الاجتماعية، التي قلصت التواصل المباشر بين الآباء والأبناء، وبين الإخوة والأصدقاء، وبين الجيران والأقرباء، فيحل محل ذلك اشتغال اللسان بالدعاء وقراءة القرآن، والكف عن اللغو والرفث والصخب.
11ـ المهارات الحس حركية، التي تقتضي الحركة والتنقل. وليس أبهى صورةً في تحقيق ذلك مما عرفه رمضان من الغزوات والمعارك الفاصلة عبر التاريخ، والتي منها: غزوة بدر، وفتح مكة، ومعركةُ حطين التي تم فيها استرداد بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي، ومعركةُ عين جالوت ضد التتار، وفتحُ القسطنطينية، وفتح الأندلس، ومعركة الزلاقة، وفتح عمورية.. وغير ذلك كثير.
12ـ ورمضان ينمي عند الأطفال المتدربين على الصيام مهارات عديدة، فالجوع المؤقت عبر الصيام المتقطع يزيد هرمون النمو عند الطفل، وينمي فيه مهارة التحدي وتجاوز الصعوبات، ويقوي عنده مهارة تعظيم الشعائر الدينية، ويشحذ عنده مهارة ما يسمى بالتقمص العاطفي، المبني على الشعور بحاجة الغير، فيطرد الأثرة والأنانية، وينمي عنده ما يسمي بمهارة النمذجة، حين نشبهه بالكبار، ويستمد منهم التعود على التصدق والتنافس في أعمال الخير.
وهكذا يكون رمضان مدربا لا يضاهى، ودليلا على الصلاح والخير لا يجارى.
رَمَضَانُ بِالحَسَنَاتِ كَفُّكَ تَزْخَرُ يَا مَوْكِبًا أَعْــلامُــهُ قُدُسِيَّــةٌ أقبلتَ رُحمى فالسماءُ مشاعِلٌ هتفتْ لِمَقدمِك النفوسُ وأسرعتْ رمضانُ بالقرآنِ لَيْلُك عَاطِرٌ | وَالكَوْنُ فِي لأْلاءِ حُسْنِكَ مُبْحِرُ تَتَزَيَّــنُ الدُّنْيَــا لَــهُ وَتُعَطَّــرُ والأرضُ فجرٌ من جبينِكَ مُسفِرُ مِن حَوْبِها بدموعِها تَستغفِرُ ويَطيبُ يَومُك بالدعاءِ ويُزهِرُ
|
والحمد لله رب العالمين.
[1] ــــــ صحيح الترغيب.
[2] ــــــ صحيح سنن النسائي.
[3] ــــــ [الحاقة: 24].
[4] ــــــ صحيح سنن النسائي.
[5] ــــــ صحيح سنن النسائي.
[6] ــــــ صحيح سنن النسائي.
[7] ــــــ صحيح سنن ابن ماجة.
[8] ــــــ متفق عليه.
[9] ــــــ متفق عليه.
[10] ــــــ متفق عليه.
[11] ــــــ متفق عليه.
[12] ــــــ صحيح الجامع.
[13] ــــــ صحيح الجامع.
[14] ــــــ صحيح البخاري.
[15] ــــــ متفق عليه.
[16] ــــــ صحيح سنن النسائي.
[17] ــــــ صحيح سنن الترمذي.
[18] ــــــ صحيح سنن أبي داود.
[19] ــــــ متفق عليه.
[20] ــــــ صحيح البخاري.
[21] ــــــ [البقرة: 183].
[22] ــــــ صحيح الترغيب.
[23] ــــــ صحيح سنن أبي داود.
[24] ــــــ صحيح الترغيب.
[25] ــــــ متفق عليه.
[26] ــــــ صحيح مسلم.
[27] ــــــ [آل عمران: 103].
[28] ــــــ صحيح سنن النسائي.