لا إصلاح بدون جبر الضرر والقطع مع الانتهاكات.. وزارة التربية الوطنية نموذجا
هوية بريس – الحبيب عكي
لا أدري، لماذا بقدر ما كانت كل القطاعات الوطنية تراهن في نجاح برامجها على قطاع التربية والتعليم، وعلى مدى عقود وعقود قد تزيد اليوم عن نصف قرن، بقدر ما كان هذا الأخير طوال كل هذه المدة وإلى اليوم قد خيب ويخيب الآمال، رغم كل المجهودات التي عرفها والإصلاحات التي شهدها والتنسيق والتعاون اللذان قادهما وكان بطلا لهما، مظاهر الخيبة وأسبابها ربما كثيرة ولكن أهمها قد يكون ما اعتاده هذا القطاع السني البهي من سياسة الأذان الصماء، ودفن النعامة لرأسها في الرمل، معتزة برأيها مزهوة بذاتها وإن رآه غيرها سفاهة و عورة مفضوحة، وأكثر من ذلك مقتنعة بعطائها ومفتخرة به وإن رآه غيرها أقبح ما ينتج الكوارث والضحايا بالجملة في صفوف الساقطين والناجحين على السواء؟؟.
واليوم،في خضم البحث عن النموذج التنموي الجديد استجابة لنداء جلالة الملك، هناك اعتراف رسمي بعد الاعتراف الدولي بفشل المنظومة التعليمية وخطورة ما آلت إليه أوضاعها وخراجها على البلاد والعباد، قال بذلك الممارسون والدارسون والأولياء والنقابيون في حينه وطالما تجوهل أمرهم واتهموا في نصحهم، وقالت بذلك التقارير الدولية والمنظمات التربوية فشيطنت بقوة وحملت على غير محملها، واستمرت المنظومة في عناد فارغ في عكس كل ما ينصح لها به أو ينتظر منها؟؟، واليوم يقول بهذا الفشل المجلس الوطني الأعلى للتربية والتعليم، ويفضح ذلك المجلس الأعلى للحسابات في البرلمان بالأرقام والإحصائيات، لكن بعد ماذا.. بعد ماذا.. بعدما استفحل المرض واستشرى الفساد.. وبدت استحالة العلاج والشفاء والإصلاح أقرب منها إلى استمرار التدهور والانفجار؟؟
ورغم كل شيء،فقد نصدق اليوم أن السياسة التعليمية في بلادنا كما يروج لها ستعمل عقلها وستغير من جلدها وتكون صادقة مع نفسها وتزيل عن وجهها كل الأصباغ ونظارات الوهم،لتواجه مرارة الواقع و ترى حلاوته أيضا،لأنه في الأول وفي الأخير لا خيار لها ولنا إلا ذلك،لكن بعد ماذا..بعد ماذا..؟؟،بعدما أصبح في كل بيت ضحايا هدر مدرسي بالكبار والصغار وبالذكور والإناث،وفرق ضنك من الموجزين المعطلين،لا زالت كل يوم تفشل معهم حتى التنمية البشرية في دفعهم لشيء من الاستثمار ولو في تربية الدجاح والأرانب؟؟، بعد ماذا..بعد ماذا..؟؟،بعدما أصبح العديد منهم ضحايا لشبكات التطرف والإرهاب وعصابات من “المشرملين” والمتاجرين في عصابات المخدرات و الدعارة وبارونات الهجرة السرية للمغامرة والموت في الآعالي؟؟،بعد ماذا..بعد ماذا..؟؟،بعدما تمرد الأبناء عن الآباء في سلوكهم وبعدما لم يعد الآباء يعرفون الأبناء،وكل يوم تشب بين الأسر وشباب الأحياء،حرب داحس والغبراء،طالما ذهب ضحيتها الأصول والفروع وعلى أقل شيء قد يكون مجرد دريهمات لتوفير مسكنات لغول الإدمان؟؟
لا بأس، نتحدث اليوم عن النموذج التنموي الجديد،ولاشك أنه سيطال هذه الوزارة كغيرها من الوزارات،ولكن هل لنا أن نطمح في نموذج تنموي حقيقي يجبر الضرر الجماعي للمغاربة في التعليم جيلا بعد جيل،ويقطع مع انتهاكات الماضي والحاضر لكل الأجيال المعطوبة على حد قولهم؟؟،على أي لا نموذج تنموي جديد وبالأخص في قطاع التعليم ما لم:
- ما لم يعوض كل ضحايا الهدر المدرسي،الذين لم يجنوا من المدرسة المغربية في أحسن الأحوال غير محو الأمية والتربية غير النظامية بدل الدراسة الحقيقية وتحقيق النجاح؟؟.
- ما لم يعوض كل ضحايا الاكتظاظ والأقسام المشتركة،والأساتذة المعطوبين الذين درسوا فيها طوال عقود في أجواء حرب وعنف مستعر في كل الأوقات،ودرسوا فيها بالخمسين تلميذا وبالستين؟؟.
- ما لم يعوض كل ضحايا السياسة اللغوية المضطربة والمتخلفة،والمسالك الوطنية المكتظة،والدولية المسدودة الأفق فلا صاحبها يجد لها امتداد في الجامعة ولا طريقا وإمكانا لاستكمال دراسته في الخارج؟؟.
- ما لم يعوض كل ضحايا الحرمان من الأنشطة الموازية وفضاءاتها،فاكفهرت في وجوههم المؤسسات التعليمية،ولم يعرفوا فيها شيئا مما يسمى الحياة المدرسية،غير فساد المزاج وبذاءة الكلام وعنف وقسوة أجيال بكاملها؟؟
- ما لم يعوض كل ضحايا غياب منهج تفكير سليم خلاق،فاستأنسوا وهم أطر اليوم والغد بالبساطة والتفاهة وأحلام اليقظة ومنوا النفس بالكسب والوصول ولو بالغش الذي يعتبرونه حقا من حقوقهم يغنيهم عن أي مثابرة واجتهاد؟؟
- ما لم يعوض كل ضحايا الضحالة والبطالة والبطالة المقنعة،وبالأخص من أصبحوا على قلتهم وكثرتهم وقود عصابات التطرف والإرهاب وشبكات “التشرميل” والمخدرات وعصابات الدعارة والهجرة القسرية..؟؟.
- ما لم ينصف ضحايا النظامين والزنازن من الأساتذة والعاملين في العالم القروي وضحايا التعاقد الاضطراري وضحايا التقاعد “البنكيراني”،وضحايا المنع القهري والعملي من متابعة الدراسة الجامعية؟؟.
- ما لم ينصف ضحايا الأمراض المزمنة نتيجة التوتر والضغط التعليمي،وضحايا التفكك الأسري نتيجة عقم الحركة الانتقالية على مدار السنوات،وضحايا الإدمان الدهري والقهري على القروض العقارية والاستهلاكية للأبناك..؟؟.
- ما لم ينصف ضحايا غياب النقل المدرسي وغياب أو قلة الداخليات للإقامة والإيواء والأحياء والمنح الجامعية الهزيلة والمنعدمة مما اضطر ضحاياها إلى الانقطاع عن الدراسة وخاصة الإناث في العالم القروي؟؟.
- ما لم ينصف ضحايا غياب الخدمات الترفيهية الشتوية والصيفية للعاملين في القطاع وأبنائهم،وضحايا رداءة الخدمات الاجتماعية على عكس بعض القطاعات الأخرى التي تزخر بأنديتها وحفلاتها وحافلاتها ومقتصدياتها ورحلاتها ومخيماتها…؟؟
هذه بعض الضمانات التي يمكن أن تقنعنا بأن هناك نموذج تنموي جديد وإصلاح تعليمي صحيح،لكن مع الأسف ما أبعدنا اليوم عن هذا الحلم،ليس لأنه مستحيل أو أنه لا نملك أمكانياته،بل ربما فقط لا نملك إرادته وإن إرادته لأسهل من سهلة؟؟،وها هي الوزارة الحليمة تعود إلى عادتها القديمة في عز صخب المناداة بالتغيير،فتفرض العودة إلى فرنسة المقررات العلمية دون مقاربة تشاركية،بل وضدا على رأي المجلس الأعلى للتعليم وقانون الإطار والتدابير الأولية للإصلاح..؟؟،وها هي “تبغرر” و”تغربب” بعض مقرراتها الدراسية،وتصبغ تجاعيد وجهها وتطلي حيطان أقسامها بدل توفير العتاد التجريبي والوسائل التعليمية قبل ذلك في الأقسام،واليوم تفتقت عبقريتها عن “ساعة إضافية”،تضيفها إلى فئران التجارب متى شاءت وتسرقها منهم متى شاءت،حتى “تلخبطت” في المعاصم والحيطان كل الساعات،و توقفت في البحور والمحيطات كل البوصلات،وكأن كل الإشكالات في مجرد التوقيت،وأخيرا تمكنت الوزارة العبقرية من ضبطه بصفة نهائية،فأصبح التوقيت الصيفي بقدرة الوزارة شتويا وصيفيا على الدوام؟؟
وها هي تخوض في كل الأزقة والشوارع،معركة الوهم والجبر والكسر والسحل مع الأساتذة ضحايا التعاقد بكل جهالة القمع والتهديد والوعيد وكأنهم مجرد عبيد مستخدمين في مزارعها،وليسوا أطرا كفئة لهم حقوق ومطالب مشروعة ينبغي لهم بشأنها الاستماع والإنصاف…أم أننا بعد عقود وعقود أخرى من الهذر التربوي والسياسي سنضطر مرة أخرى وبكل أسى ومرارة إلى جولات جديدة حول الإنصاف والمصالحة،في الشأن التعليمي على الأقل؟؟،”ماشي في الخنق كاين الحق…ماشي في الخنق كاين الحق”؟؟.