لا تظلموا الفقه
هوية بريس – محمد عوام
مما قرأته خلال الأسبوع المنصرم لبعض الفضلاء أن “معظم ما في كتب الفقه من أحكام لا علاقة لها بما في كتاب الله العزيز”. والحق أن مثل هذه التدوينة ليس محلها أن تنشر على صفحة التواصل الاجتماعي، للاعتبارات الآتية:
أولا: أن ما يسمى بالفضاء الأزرق أو التواصل الاجتماعي فضاء مفتوح، ليس خاصا بالمتخصصين، حتى يمكنهم استيعاب مثل هذه التدوينات، فيفهمون أبعادها، أو يكرون عليها بالنقد والمراجعة، فتكون هذه التدوينات ومثيلاتها مضرة بالرأي العام، فَيُساء الظن بأولئك الفحول من الفقهاء، وقد ينعتونهم بأقدح النعوت المخلة بالوقار والاحترام. وقد حصل من هذا الشيء الكثير.
ثانيا: أن هذه التدوينة لم تكن في تقديري موفقة، لأن صاحبها كان عليه أن يقدم بحثا مستفيضا، مبنيا على الأدلة والأمثلة التي تثبت أنه فعلا “معظم ما في كتب الفقه من أحكام لا علاقة له بما في كتاب الله العزيز”، أما وأن صاحبها وقد ألقى بالكلام هكذا جزافا من غير تدليل ولا استدلال ولا تمثيل، فيبقى كلامه لا محل له، ونقده مردودا عليه.
ويبدو أن صاحب التدوينة تصيبه أحيانا آفة الاستعجال، فتصدر عنه أحكام تفتقد التأني والحكمة والتروي، كما ينقصها أيضا الضبط العلمي، والعلم هو ضبط المنقول صحة، والبرهنة عليه بالمعقول استدلالا، وقد قال الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته … وقد يكون مع المستعجل الزلل
الفقه وأصوله أية علاقة؟
مما هو معلوم عند العلماء والباحثين، أعني معلوما من الفقه ضرورة، أن الفقه مبني على أصول وأدلة، بحيث يحرم على الفقيه أن يجتهد أو يستنبط أحكاما من غير رجوع إلى الأدلة والقواعد، وإلا على أي شيء يبنى هذا الفقه؟ وهذا ما أثبته غير واحد من العلماء، ومن أجله كتب الشافعي رحمه الله (الرسالة). وقد نقل الجويني عن الأستاذ أبي إسحق الإسفرايني (توفي418ﻫ) قوله: “لا تثبت الأحكام في آحاد المسائل الشرعية إلا بالأدلة، كما لا يثبت أصل الشريعة المتلقاة من تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالمعجزة الدالة على صدقه، وقد اتفق العلماء قاطبة على أن الأحكام في جواز الاجتهاد تستند إلى أدلة وأمارات” (التلخيص في أصول الفقه 3/350).
ونقل الجويني إجماع الأمة على إبطال كل قول بلا دليل، وعدَّ ذلك من اتباع الهوى. يقول: “أجمعت الأمة قاطبة على أن من قال قولاً بغير دليل أو أمارة منصوبة شرعًا، فالذي يتمسك به باطل، ثم أجمعوا على بطلان اتباع الهوى” (التلخيص في أصول الفقه 3/314).هذا من حيث المبدأ، فهل يعقل أن يكون الفقيه مسترسلا مع هواه من غير رجوع إلى الأدلة؟ وعلى افتراض أن الفقيه الفلاني حكم هواه في النازلة الفلانية، فهل معنى هذا أنه لم يستند فيها على شيء إطلاقا وإن ضعف مدركه فيها؟ فهذا لا مساغ له عند أولي الألباب من العارفين بالفقه.
ورب قائل كيف حال الفقه قبل أن يؤلف الشافعي (الرسالة)، إذ لم تكن يومها أصول يرجع إليها؟ قيل له: إن الفقه يومها كان يعتمد القواعد والأصول، ولم يكن فقها مسترسلا وجانحا عن التقعيد، وما وقع للفقه يومها، هو الذي جرى مثله على كافة العلوم التقعيدية النسقية، إذ دائما مرحلة التقعيد تأتي فيما بعد، وعلى رأس العلوم علوم اللغة، فلا يعقل أن يدعي أحد أن العرب إنما كانت تخفض وترفع، وتقدم وتؤخر من غير أن يكون لها ميزان ترجع فيه إلى سليقتها، وتتلقاه عمن سلف من أجدادها وآبائها. فلما احتيج إلى التقعيد، وحصلت في الوجود دواعيه، جاء في إبانه ليسد الثغرة، ويرأب الثلمة.
هذه القواعد إنما قعدت لتكون معتمد الفقيه في اجتهاده واستنباطه، وهي عاصمة له من حيث الجملة من الوقوع في الخطأ، شريطة أن يستفرغ وسعه في الاجتهاد، من غير تقصير، حتى قالوا أن يبلغ درجة الإحساس بالعجز عن المزيد. هذا طبعا في حق الفقيه المجتهد الذي يملك أدوات الاجتهاد، أما غيره فقمن به السكوت.
ومما لا يخفى أن أول دليل معتمد في الاجتهاد هو كتاب الله المجيد، إذ أنه كما قال الشاطبي رحمه الله: ” كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ، وَعُمْدَةُ الْمِلَّةِ، وَيَنْبُوعُ الْحِكْمَةِ، وَآيَةُ الرِّسَالَةِ، وَنُورُ الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَلَا نَجَاةَ بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمَسُّكَ بِشَيْءٍ يُخَالِفُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرٍ وَاسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ.” (الموافقات 4/144 بتحقيق آل سلمان). فلا يمكن أن نتصور أو نجد فقيها قد يتخطى أو يتجاوز الدليل الأول، أو أن يضع نفسه بمعزل عن كتاب الله تعالى، هذا لا يمكن أن يخطر على بال أحد البتة، ممن عرف الفقه حق المعرفة، فإما أن يجد المسألة منصوصا عليها بنفسها، أو يستنبطها من دلالة الكتاب، إن لم تكن السنة النبوية الشريفة قد تناولتها، المهم أن معتمد الفقيه ومرجعه الأول، ومصدره الأصيل كتاب الله تعالى. قال الشافعي: “ليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء، حل ولا حرم، إلا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة، أو الإجماع أو القياس.” (الرسالة:39). وقال أيضا: “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها.” (الرسالة 20).
فإذن اجتهاد الفقيه لا يصح إلا بالنظر في كتاب الله أولا، ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثانيا، وباقي الأدلة ثالثا. هذه انطلاقة الفقيه المجتهد. فكيف يصح أن يقال “معظم ما في كتب الفقه من أحكام لا علاقة لها بما في كتاب الله العزيز” هذا كلام لا يستقيم أصوليا ولا واقعيا. نعم قد يقع المجتهد في الخطأ ولكن لا يعني هذا أنه أغفل كتاب الله تعالى عند مباشرته للاجتهاد، إذ لا يخفى أنه مأجور في كلا الحالتين.
الفقه بين التقديس والتبخيس
آفة ما تصاب به العلوم كافة، خاصة العلوم ذات الصلة بالإنسان كالفقه وغيره، أن بعض الدارسين إما يقدسونها، وهذه آفة التصنيم، أعني تصنيم العلوم، فتسدل على أصحابها غشاوة تجعلهم يفقدون حاسة النقد البناء بموازين علمية وقواعد منهجية. وعند بعض آخر يقعون في تبخيسها، والحط من منزلة أصحابها، كأنهم لا شيء، ما هم سوى زوامل لما في بطون تلك الأسفار الصفر، فيلصقون بهم تهما غليظة، من مثل: فقهاء السلطة، العقل الفقهي الذكوري، فقه الكراهية، الفقه الماضوي، وهكذا لائحة طويلة من التهم.
لكن هل هذه هي حقيقة الفقه كما يزعم أهل التقديس والتبخيس؟ أم أن الفقه شيء آخر؟ وهل ما يجلبونه من تهم في حق الفقه وأهله لا يصدق مثله على غيره من العلوم أم أن الحقد والجهل واللامبالاة تذهب بصاحبها كل مذهب؟وهل أهل التقديس يمثلون بالفعل ما كان عليه فقهاؤنا العظام من الفهم والتجديد والتطوير والتحوير؟
لا أبدا، ففقهاؤنا العظام صنعوا منظومات ووضعوا نظريات فقهية قانونية كبرى عبر مر العصور وكر الدهور، ثم كانوا أشد التصاقا بالواقع، بحيث أنه لا يصح عندهم الاجتهاد في المسائل والنوازل من غير معرفتها كما هي في الواقع، ولو كان الفقيه من أرسخ الناس فهما لأحدهما دون الآخر، ما لم يكن له رسوخ في الدين، ورسوخ في معرفة الواقع، ثم كيفية تنزيل أحدهما على الآخر. والفقه من حيث هو فقه هو فهم مواكب للواقع، منغمس بعمق في الفهم، ولاسمه من ذلك حظ وافر، ونصيب ظافر. وهل هذا يعني أن الفقيه منزه عن الخطأ؟ لا أبدا، لم يتكلم بهذا أحد، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الثابت شرعا أن المجتهد المخطئ مأجور.
وهذا المهيع الذي بسطت الكلام عنه قد نص عليه محيي الدين النووي ونقل فيه إجماع العلماء عند شرحه حديث عمرو بن العاص: “أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران. وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر.” (صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) قال: “قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده. وفي الحديث محذوف تقديره: إذا أراد الحاكم فاجتهد. قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم، فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا، لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاصٍ في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك.” (شرح صحيح مسلم 7/4727).
وقد حمل أبو سليمان الخطابي (توفي 388ﻫ) رحمه الله الأجر في الاجتهاد الواقع خطأ على معنى وضع الإثم عن المجتهد فقط. قال: “قوله: “إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر، إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق، لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط. وهذا فيمن كان من المجتهدين جامعًا لآلة الاجتهاد، عارفًا بالأصول وبوجوه القياس. فأما من لم يكن محلاً للاجتهاد، فهو متكلف، ولا يعذر بالخطأ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر.” (معالم السنن 4/149).
لكن الحديث نص على أن المخطئ في الاجتهاد – وهو يعني المجتهد المتمكن من آليات النظر والاجتهاد، العارف بالأصول -كما نص على ذلك الخطابي نفسه- له أجر على اجتهاده وبذل وسعه في استنباط الحكم، فلأجل ذلك يبقى محمل الخطابي وتوجيهه للحديث فيه نظر، مما جعل ابن حجر يذهب إلى أن الخطابي “يرى أن قوله: (وله أجر واحد) مجاز عن وضع الإثم.” (فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/394، وانظر الفكر المنهجي العلمي عند الأصوليين).
ثم هل إذا أخطأ فقيه يعني أن الباقي سلم له بذلك؟ فهذا لم نعثر له على خبر في تراثنا الفقهي ولا هو واقع فيه، لم نسمع في يوم من الأيام، ولا وقفنا عليه ذات يوم، أنهم يجمعون على إقرار الخطأ.
ولهذا فهذه الدعوى عارية عن الصحة، لا تثبت أمام النقد العلمي، اللهم إلا إذا تصيد بعض الناس القضايا التي من صميم الواقع آنذاك، ولم يكن للفقهاء حيلة في التعامل معها في الواقع لا على سبيل إقرارها في ذاتها، إذ هي متعلقة بتطور المجتمع. وحتى إذا ما كانت هناك مؤاخذات فأين هي من نفيس فقههم وعظيم اجتهادهم، وهل يصح عند أولي النهى والأحلام أن يلتقطوا بعض المسائل الضعيفة فيكبرونها، ويجعلون من الحبة قبة كما يقال، فلا جرم أن مثل هذا الصنيع مستبشع، لا يليق بأهل العلم.
وهو الذي استنكره العلماء، ولم يرضوا عنه، حتى حسبوه من الفتنة، وعلى مثله وقع كلام ابن تيمية رحمه الله في معرض حديثه عن ابن الزنا: “وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا بَسْطٌ لَا تَسَعُهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الضَّعِيفَةِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكِيَهَا عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَدْحِ فِيهِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ لَهُ فِيهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ الطَّعْنِ فِي الْأَئِمَّةِ وَاتِّبَاعِ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ صَارَ وَزِيرُ التَّتَرِ يُلْقِي الْفِتْنَةَ بَيْنَ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إلَى الْخُرُوجِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَيُوقِعَهُمْ فِي مَذَاهِبِ الرَّافِضَةِ وَأَهْلِ الْإِلْحَادِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.” (مجموع الفتاوى 3/201).
يتبع