لا تعتذر عما فعلت!
هوية بريس – حميد بن خيبش
يقول الدكتور زكي نجيب محمود: هنالك جوانب ثلاثة للأمة النابضة عروقها بدم الحياة:
أولا: أن تشعر بذاتها،
ثانيا: أن تعبر عن ذاتها،
ثالثا: أن تشعر بغيرها.
ولعل فعل المقاومة هو أحد أنبل الأفعال الإنسانية الذي تعبر به أمة عن ذاتها وتُشعِر غيرها بذلك، وتعتز بسجل التضحيات التي بذلها أبناؤها في سبيل الحرية، والعزة، واسترداد الحق المسلوب.
ولا يشذ العالم الإسلامي عن تلك القاعدة، خاصة في العصر الحديث، حيث كان لفعل المقاومة بكل صوره وإبداعاته، دور في انحسار المد الاستعماري، ووقف هجمته الشرسة التي طالت لقرنين من الزمان موارده الطبيعية، وإمكاناته الاقتصادية، بل وحتى مجالات الفكر والثقافة، لتزييف الوعي، وشل القوى الذاتية والمعنوية.
لا اعتراض إذن على أن الإنسان ينبل ويسمو، حين يبذل أغلى ما يملكه في سبيل الدفاع عن معتقد، أو مبدأ، أو رقعة جغرافية ورثها عن أسلافه. فحتى أمريكا، وهي الراعي الرسمي للإرهاب، ترى في فعل المقاومة وسيلة للحفاظ على مكانتها، رغم افتقاده للشرط الإنساني ممثلا في الدفاع عن الحق والحرية والعدالة. فهي تقاوم حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتقاوم الإرادة الإنسانية في التحرر بفرض نموذجها الاقتصادي والثقافي.
لذا حين تتحرك المقاومة في أي بقعة من العالم ضد أبناء قابيل، وصناع المآسي والدمار، فوحدها النفوس الحية تهتف وتناصر، لإيمانها الشديد بأن ما أخِذ بالقوة لا يمكن أن يُسترجع إلا بالقوة، وبأن فلسطين التي حملتها أشعار درويش وأغاني فيروز إلى كل بيت عربي، لم تفارق مجاز الكلمات خلال عقود من المفاوضات والاتفاقيات، ولن تستعيد شبرا من مقدساتها بالعود أو بالوعود، وإنما بقوة الحق وخيار الدم.
حين تقاوم فأنت تعيد قضية معقدة ومشتبكة إلى بساطتها الأولى: حق مشروع في مقابل عدو محتل. ولايملك العالم إلا الرضوخ مهما تجذرت مصالحه، و تواطأ عملاؤه بالسكوت والتراخي. تلك البساطة تتطلب لغة حية، وفكرا له منطلقاته الإيمانية الواضحة.
وحين تقاوم فأنت تعيد ترتيب الوقائع بشكل قد لا يرضي حتى الضحية نفسها. ومن تتبع ردود أفعال السلطة الفلسطينية في رام الله بعد طوفان الأقصى، يدرك ما تفضي إليه المهادنة وتقاطع المصالح مع المحتل من هوان وخذلان.
وحين تقاوم فأنت تجدد الوعي المثير للقلاقل. وعي لا يتناسب مع خطاب يضع المحتل في خانة القدر والقضاء الذي لا يُرد، ولا سبيل للخلاص منه إلا بتثبيت الأوضاع القائمة، ومساومته ليعطيك مما لا يملك، ويحبس بنيتك الإدراكية في خانة “الفتات”.
وحين تقاوم فأنت تعصم الجيل القادم من لعنة النسيان والإسكات، والتشريد الذهني الذي يُفقده الصلة بثوابت أمته وقضاياها العادلة. يتابع الصغير والكبير كيف تتصدى لقوى عاتية بما تملك من إيمان وقوة ورباط خيل. وكيف يُسفح دمك، ويهدم بيتك على رؤوس النساء والأطفال، ويصير قميصك غطاءك وخيمتك، وتُحرم في لجوئك من أدنى أسباب العيش، وتتبخر الشعارات التي كانت حتى وقت قريب تزين الخطاب السياسي والإعلامي، وتعد الناس بجنة فوق الأرض.
وحين تقاوم فأنت تُسائل نُصب الجندي المجهول، وآلاف الأغنيات الوطنية عن الفرق بين من استشهدوا بالأمس في حروب التحرير والكرامة، وبين من يصر العالم اليوم على نعتهم بالتهور والحماقة، وتعطيل مسلسل تفاوضي، يسلسل القضايا العادلة في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا!
يُحدثنا كيث وايتلام في كتابه (اختلاق إسرائيل القديمة) عن تعبير سائد في مجال مناهج البحث العلمي هو “التحول في النموذج”. ويقصد به تلك النقلة النوعية التي تحدث عندما تتغير الفرضيات الأساسية السائدة لفترة طويلة، فنضطر لتغيير نظرتنا إلى العالم. تماما مثلما انتقلنا من الاعتقاد بأن الأرض مركز الكون، إلى القول بأنها كوكب يدور حول الشمس. وما جرى منذ بدء طوفان الأقصى هو تحول هائل في نموذج كاد أن يطمس القضية وتاريخها في صفقة لا يجيدها غير “السماسرة”.