لا خير في معرفة لا تُثمر خشية من الله ومشياً بين الناس بالحسنى…
هوية بريس – محمد بوقنطار
عندما تعرضت للكلام عن ما وقع من وللأستاذ والصحفي المقتدر مصطفى الحسناوي، وطأت بين يدي عرض المضمون، بمقدمة أبيّن فيها أنني لطالما أعرضت عن مناقشة العين المخالفة بالاسم والرسم، وكان المسوّغ ولا يزال إيثار مناقشة الحالة والاتجاه، فذلك أجدى وأنفع، وفيه ما فيه من التجرد والإنصاف كما الصدق والإخلاص، بل له مسوّغه المقبول من حيث التمني الممكن والترجي غير البعيد في عودة المخالف إلى رشده أو ما نعتقد أنه حق رشيد، ثم إن المعيّن في واقع الحال ما هو إلا حلقة في سلسلة طويلة الذيل تبتدئ مع أول مخالفة سجلها القرآن الكريم تحكي إباء واعتراض إبليس على الأمر الإلهي، وكيف أنها صدرت عن كبر وحسد وفزع إلى الاعتداد بمادة الخلق، مع أن الأنوار الساجدة خير من النار الحاقدة، وتنتهي إلى يوم الناس هذا فلا تزال معركة الحق الدامغ مع الباطل الزهوق بين كر وفر وتبادل أدوار بين تعالٍ وتهافت ومكث وذهاب جفاء، ومن هذا الباطل ركون المرء إلى عقله في تتبع ووضع الغيب على مائدة التشريح وكأنه المحسوس المنظور، وهذا صار ظاهرة لها محصولها من الهلكى والمفتونين والمترفين، وذلك منهم على جبر أو تبصر أو عبور سبيل، ومنه أيضا الانغماس في بحر المعلومة حد التخمة والتمسلخ بإيمانها المعرفي النظري، وفقه بارد قد تجمدت وكفت في درجة حرارة الجارحة عن حركة الطاعة، وغاب اللازم من العمل ومن واجب تبيئة هذه الجمهرة من المعلومات الدينية في بيئتها السلوكية ورصيدها التديّني، والزكاة عن نصابها المعرفي في سوق الفعل والمعاملة والمشي بين الناس صغيرهم وكبيرهم بالسيرة العطرة المناسبة لقيمة الطلب ومقرر التفاوت في جانبه الإيجابي كما السلبي مصداقا لقوله تعالى: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” فلا حسناتهم كحسنات العوام، ولا موبقاتهم المهلكة كذنوب أيها الناس.
ولذلك كنت أحيانا كثيرة في لحظات تأمل عميقة، لا تحصل معي أو لي إلا في الخلوات، على اعتبار أن للجلوات أحكامها وقواعدها وضوابط تفاعل النفس مع قضاياها الدنيوية المحضة، أحيانا كثيرة كنت ولا أزال أنظر لحال بعض طلبة العلم وقد تناهى إلى استراق السمع، أو تلصص البصر بالفضول في غير شماتة، أو تسلّل وقع مني لواذا إلى محاريب منشورات الرأي أو غسيلها السلوكي من تعاظم وانتفاخ أو التلبس بمقبوحات معاملة الناس، أحيانا كثيرة كنت للأسف أرى تقلبا وتحوّلا وانحرافا وإقعادا يكاد الفؤاد يتفطر منه مرارة واستغرابا، سيما وقد مست الحيدة دينهم معرفة واعتقادا، وتدينهم سلوكا ومعاملة، فأرهن تلك اللحظات في عملية اجترار أتذوق عبرها ومن خلالها رقيقة من رقائق بن الجوزي وهو يقول :” إن الشيطان ليفتح للعبد تسعة وتسعين بابا للخير يريد به بابا من الشر”.
وإنّما كان من العدل ولا يزال التنصيص على أن باب الشر المستدرج إليه استشرافا لا يلجه كل من فُتِح له باب من أبواب الخير التسعة والتسعين، والمعصوم من عصمه الله ووفقه، والمخذول من خذله الله فخلّى بينه وبين نفسه.
لطالما في غمرة هذا الألم مع أنينه، وغيوم الاستغراب مع غبشها تساءلت المرة تلو الأخرى عن جدوى العلم والطلب وإطالة النظر في الكتب وحفظ المطولات من المتون العلمية، إذا لم تكن الوجهة هي ابتغاء وجه الله ورَوْمُ النجاة للطالب والناس من حوله، وليس يدري المرء أي جدوى من العلم الذي لا يحمل على الخشية وتقوى الله في السر والعلن، والتواضع بين يدي الخالق، وخفض جناح الذل من الرحمة للمخلوق، والمسارعة في الخيرات وحسن تبعل المساكين، والرفق بالعصاة والجاهلين، والمشي في حاجة المحتاجين، وتبليغ أمانة الدين بإخلاص وصدق للعباد في غير استبداد ولا استعباد، ذلك أن العلماء ورثة الأنبياء وليس في جرد الإراثة درهم ولا دينار، ولا غلظة ولا فظاظة، ولا تنطع ولا تصنّع، ولا تقعقع ولا تفرقع، وإنما جاءت التركة مضبوط جهد تصريفها بنياط الحكمة وأعنّة الموعظة الحسنة وكوابح الجدال بالتي هي أحسن…
وإلا فليس هذا علم وإنما معرفة وطلب معلومة يراد بها غير وجه الله، ولا يُتوجه بها إلى محرابه، نعم معرفة وثقافة دينية يراد بها إقامة عمران في قلوب الأعيان، أو إشارة وازنة من سبابة بنان، أو استرزاق جاه أو خبز ولحم طير وفاكهة ورمان، وحب ظهور يتوهم به راغبه جبر عوز النفس ورتق خرق النقصان، أو تحصيل شواهد وألقاب تحكي انتفاخا وانتفاشا صولات الجرذان…
ولا شك أن من تسنى له فقه وبلاء خبر مكشوف اعوجاج النيات، وسبق اطلاع على أعطاب البدايات هان عليه وقع الانسلاخ ولم يخش عليه من فتنة تهافت النهايات، فتلك مقاطع مرهونة بمطالع، وليس المراد بهذا الخوض تغذية فضول النفس الأمارة بطعم الشماتة في أحد كان من كان، وإنما المقصود أصالة تنبيه النفس ابتداء والغير عطفا حتى لا تزيغ قدم بعد ثبوتها، فإنها والله عتمة فاقعة السواد لا عاصم من طوفانها إلا من رحم الله، خاصة أنها حالة لا يكون فيها الضلال والضال المتحوّل أو المتصوّل بعدائه السلوكي وإفلاسه الأخلاقي ساكنا إلى مرضه، بل هو أداة بيد شياطين الإنس والجن، تراه يخوض الحروب الفكرية والمدافعات الكلامية والمتابعات السلوكية من أجل إركاب الناس معه في قاربه المخروق، ولا ريب أنه وحتى وهو يعيش حالة سكونه إلى مرضه في مسلاخ من وَهْمِ العافية، فإنه لا يؤمن على العامة الافتتان في دينها، بل في الغالب ما تحصل بينونة كبرى بين العامة وبين شيء اسمه الدين، ما دامت نخبه وقدواته تسجل سقطاتها السلوكية وتسفلاتها في كل واد سحيق، وزعاماته تتقلب بين أمواج الارتداد والانجذابات الهالكة التي لا مسوِّغ لها أحيانا ولا عزاء ولا فزع للناس في مقاومة انجرافاتها البعيدة الغور وهي تتابع تفاصيل هذا الشرود بكل حيطة وواجب حذر إلا في قول الله جل في علاه :” أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)”.
ولا جرم أن من تدبر هذا الاتخاذ الآسر الذي نصت عليه الآية الكريمة، ثم وقف على المعنى العميق بين ذلك الترابط الذي مبناه وقواعد التقابل فيه لا تخطئ النتائج والجزاء الوفاق، والذي مفاده أن الإضلال على علم، هو مآل مسبوق بمقدمة واحدة ووحيدة هي فَقْدُ بوصلة الاتجاه الصادق السليم المُقِيم للألوهية الحقة والمنظم لعلاقة العبد بربه وحده لا شريك له، واستبدال خيرية هذه عروة الوثقى بالذي هو أدنى وأهلك وأخسر، ونعني به جعل واتخاذ الهوى إلها مألوها من دون الله، وكذا إهمال سبيل الرسول وإقعاد استقامة صراطه القويم، ومن ثم التماهي مع سكرة السبل وسطوتها المردية، وقد علمنا بالسند الصحيح من ميراث السنة المطهرة كيف علّق الصادق المصدوق كمال الإيمان وصحته على شرطه مقيدا بهذا التعليق هوى العبد بتوحيد الاتباع إذ قال عليه الصلاة والسلام :” ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)).
إن على الربانيين من العلماء والدعاة والخطباء والمفكرين تنشئة وتربية المخاطبين على أن ثمة فرق بين المعرفة ومنسوبها الثقافي الديني، وبين العلم المراد الذي لا ينفك عن ثمراته من الخشية والتلبس بالأخلاق الرفيعة، والتواضع والحِلم، والمشي في مناكب الأرض بالسيرة المتعدية النفع، والإزراء على النفس، ومشاهدة كمال المنّة، ومطالعة عيب النفس ونقص العمل، وربط الفلاح والنجاح بتوفيق الله، وتجريد النفس والذات عن الحول والقوة، والبراءة التامة من الظلم، والتجافي بالذكر المأثور، والقيام والناس نيام، والصيام في القر والحر، وعدم السير في ركب الظالمين بمسوّغات نصيّة تطوى أعناقها فتروى من تلك الثقافة الدينية والزخم المعرفي المحفوظ لتجعل الظلم عدلا وتُحوِّل الشرك فضلا…
ذلك أن من شأن هذا التواصي والتنشئة وتثبيت هذا برسوخ في أفئدة المكلفين ابتداء ومبكرا تجنيبهم تداعيات وصدمات ما يمكن أن يراه بل يتذوق مرارته الناس في دنيا المعاملات، خاصة عندما يكون أبطال هذه الممارسات الجاحدة النكدة من الذين حازوا مفاوز في الطلب واكتسحوا مسافات ضوئية بترفهم الفكري في مقام الشهرة والظهور، ولسنا في هذا الصدد نربط ونرهن شهادة حسن السيرة والسلوك لهؤلاء كما لنا بالنقاء المطلق الكامل، فليس ذلك المقام بالمقام البشري، وقد قرر سيد الخلق أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وإنّما العبرة بالسداد والمقاربة، وإنما الاعتبار للغالب إعمالا للقاعدة الذهبية في الجرح والتعديل : وأنه من غلبت حسناته سيئاته لا تذكر مساوئه، وأن من غلبت سيئاته حسناته لا تذكر محاسنه، ثم متى ما اتسع خرق الإقعاد على راتق المعذرة رجعنا إلى قول الله جل في علاه تبرئة للمنهج والدين من مصائب أهله : “وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا”.
ولعلنا أحيانا كثيرة نلاقي ونجد أو نعتقد أن دعوى الماء المعرفي قد بلغ زعما قدر القلتين، فلا يكاد يحمل خبثا، ثم يأتي الواقع وتحكي التجارب السلوكية والفلتات اللسانية والمدافعات والاصطفافات الفكرية الحبلى بها مستشرفات الأيام ومآلات السفسطات، وعرّت عنها الوقائع والأحداث بالصوت والصورة والرائحة أن ذلك الماء قد تكلّس في جوف الاختبار وحوجلة الفتنة فعلاه زبد الجفاء ورغوة الخبث، وتغيّر لونه واستحال إهابه من متوهم عين الطهر إلى حقيقة أثر النجاسة، نسأل الله لنا ولغيرنا الثبات وحسن العاقبة ومعسول الخواتيم آمين.