لساننا العربي
هوية بريس – صفية الودغيري
شذرات من كتابي: #سمير_النفس_وأنيس_المحبين
لقد تفرَّد اللِّسان العَربي بخِلال كثيرة، فسَبَر أَغْوارَ النَّفس والخَبايا، وما انْطَوت عليه أَسْرارُها على اتِّساع نَزعاتِها وحاجاتِها، فصَوَّر إِحْساسَها بلُغَةٍ غَزيرة الأَلْوان، تَلِج بَواطِن الأَشْياء وتَتعمَّق في دفائِنِها، وتَكْشِف عن أَدَقِّ مَعانيها بإِرادَةٍ دَؤوبَة، لتَحْصيل المَعْرِفَة التي تُمَهِّد السَّبيل للترقِّي بالفَضائِل، امْتِثالاً للمَشيئة الإلهِيَّة التي تهيبُ بالإِنْسانِيَّة لتعَلُّم البَيان، وتَقْويم اللِّسان لاسْتِنباط خَصائِص الإِعْجاز القرآني، والتَّدَبُّر في مَعانيه العَظيمة، ولتَسْتَضيء النَّفْس بأَنْوارِ كَمالِه وجَلالِه، وجاذِبيَّة بَلاغَتِه، وبراعَة تَفْصيلِه، وقُوَّة إيضاحِه ..
وقد أَثْنى القرآن الكريم على هذا اللِّسان العَربي، وعلى إِتْقان البَيان في آياتٍ كثيرة، كما في قوله تعالى : ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿16﴾ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴿17﴾ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴿18﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴿19﴾﴾
وقوله تعالى: ﴿إنَّا أنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ﴾ .
وقوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾ .
وقوله تعالى : ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿193﴾ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿194﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴿195﴾ ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿27﴾ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿28﴾﴾ .
وقوله تعالى : ﴿ وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ﴾
ففي هذه الآيات دَلالةٌ جَلِيَّة على ما يتحَلَّى به الِّلسان العَربي مِنْ حَلاوة، يَتذَوَّقُها الحِس فيَهْتَزُّ لها الوِجْدان، ويَتذوَّقُها العَقْل فيَتفكَّر ويَتدبَّر، وتَتذوَّقُها الرُّوح فتَتَحرَّر مِنْ قُيود الشَّك والحَيْرة، وطَلاسِم الإِبْهام ..
ـ اللِّسان العَربي الأَصيل وواجِب التَّكليف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يَمْلِك اللِّسان العَربي أنْ يُعيدَ أَمْجادَه ويُدْرِك غاياته الجَليلة، إلا بامْتِلاك الحُرِّية المُلْتَزِمَة في التَّعْبير، الذي يَنْفُذ إلى قَلْبِ الحَقيقة، ويَمْتَزِج بجَوْهرِها الصَّافي، وأنْ يكونَ أَبِيًّا فَخورًا بأَصْلِه الأَصيل ومَعْدنِه النَّفيس، فلا يَسْتعين بقبَسٍ مُسْتعار لتَألُّقِه وإِبْداعِه، ولا يَسْتَجْدي فَتيلاً موقَدًا من بَريقِ حَضارةٍ أجنَبِيَّة، أو ثَقافةٍ غربيَّة أو دَخيلَة ..
فالقَلْب إذا كان أَجْوفًا خَلاءً من مُحْتَواه اللَّطيف، شَغَلَتْه الأَهْواء عن الجِدِّ في السَّيْر ومُواصَلة التَّحْصيل، فاسْتَعْصى على اللِّسان البَيان، واتَّسَع لدَيْه الرَّقْع والخَلَل والغُموض والإبْهام، وأَفْسَدته رِياحُ الغَرْب والاسْتِلاب ..
فالعُقول إذا صَدَّت عن ثَقافَتِها، يَنْدُر أنْ تُقْبِل على ما يوقِظ فيها النَّخْوَة، أو الانْجِذاب إلى أَفْكارِها ونَوادرِها، ولَطائِفِها وطَرائفِها، ويَواقيتِ مَعانيها ..
والنفس إذا لم تَكُن ذات كرامة وإِباء، واعْتِزاز وافْتِخار بهُويَّتِها وجُذورِها، أَنْجبَت أَقْلامًا تَنْشَأ على الاعْوِجاج، وأَنْتجَت مَواهِب لا تَسْتقِيم على عودِها البان، ولا تَتجلَّى فيها المَلكات العِظام ..
والطُّموح إذا لم يُحَرِّك فَتيل المعاني، طَأْطَأت الأَقْلام رُؤوَسها في خُنوع وامْتِهان، وأَهابَت بسُلْطانِها عن خَوْضِ مَعارِك الإِبْداع، وتَخلَّفت عن ميادين الأدَب والاجْتِماع، وناءَت عن قيادَةِ كَتائِب الفِكْرِ والبَيان…
ـ اللِّسان العربي الأصيل له رِسالةٌ نبيلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يَنْبَغي أن يَتحرَّك اللِّسان العَربي بفِكْرةٍ رائِدَة، لها قُوَّة لا تَضْعُف أمام بَطْشِ الباطِل، ويَسْتَبْصِر بمَعْرفة لا تَنْطَفِئ ولا تَسْتَكين، ويَحْمِل إيمانًا لا تَكْسِرُه شَوْكة التَّعَصُّب والخِذْلان، وله رِفْعَةٌ ووَقارٌ يَسْمو به عن السُّقوط والابْتِذال، ويَنْدَفِع بعَقْلٍ رَشيد، وشُعورٍ يُداعِب الأَماني والأَشْواق، ويَجْذِب إلى بَريقِه العُيونَ والأَنْظار، وتُصْغي الآذانُ إلى حُسْنِ مَنْطقِه في انْدِهاشٍ وانْبِهار..
كما يَنْبَغي تَوْحيد الأَقْلام العَربِيَّة والنُّهوض برِسالَتِها، فهذا من شَأْنِه أنْ يُساهِم في الارْتِقاء بالأدَب والثَّقافة، والاضْطِلاع بواجبِه في إيقاظِ الضَّمير الإِنْساني، وَبَعْثِ صَحْوة التَّجْديد في الدِّين، ومَجالاتِ الحياة على اخْتِلاف فُروعِها، بما يَنْسجِم مع الواقِع واحْتِياجات العَصْر، ويُساهِم في تَخْريجِ أَجْيالِ المُسْتقبل، وتَقْويم سُلوكِ النَّشْء، وتَثْقيف أبناء أمَّة ” إقرأ ” بثَقافةٍ عَربيَّة وإِسْلامِيَّة، تَتحدَّى كلَّ مَنْ يَتطفَّل على أُصولِها أو يَتسلَّق على فُروعِها، أو يُحاوِل أن يَجْتثَّ هُوِيَّتها من الجِذْر والمَنْبت ..
وطَريقُ الارْتِقاء باللِّسان العَربي، لا تُعَبِّدُه كَثْرةُ الخُطى ولا مَدُّ الأَرْجُل، بل تُعَبِّده القُلوب المؤمِنَة برسالتها، والهِمَم العامِلَة التي تَبُثُّ النَّشاط في المَفاصِل المُفَكَّكة، وتُحَرِّك في الشِّرْيان نَبْضَ الهَدف، وتَسْمو بالتَّفْكير والفَهْم، وتُعَبِّده الإِرادَة القَويَّة التي تَعْرِف ما تُريده، فلا يُثْنيها العَجْز ولا الكسَل، حتى تَسير برَكْبِ الإِنْسانِيَّة المُتَجدِّدَة نحْوَ الرُّقِي، بعَزْم لا الْتِواءَ فيه ولا انْحِراف، وتَسْتمِر دَوْرة الإِبْداع في التَّأْثير في الحاضِر والمُسْتقبل..