لعبة تنتهي بباك
هوية بريس – الحبيب عكي
يحكي لي صديقي العزيز، أنه كغيره من آلاف الشباب والشيوخ، قد خاض هذه السنة تجربة غريبة وعجيبة، تمثلت في ترشيحه لاجتياز امتحانات البكالوريا أحرار شعبة الآداب والعلوم الإنسانية، وبفضل الله تعالى نالها في السنة الأولى وفي الدورة الأولى يونيو 2023. وهو الاطار العلمي صاحب البكالوريا العلمية القديمة، وهو البالغ اليوم من العمر سن الإحالة على التقاعد، بعد مسيرة مهنية مرهقة في مجال التربية والتعليم، وفي جو عام يتسم بكثير من العزوف عن القراءة الذاتية والاطلاع وكذلك النفور من التكوين المستمر لنذرته أولا، ولما يكتنفه في رأيه وفي كثير من الأحيان من الضبابية والهزالة، حتى أنه قد يصدق اليوم من يرون أن مستوى الأستاذ لم يعد يساوي شيئا في بعض الأحيان وهو الركن الركين في العملية التعليمية التعلمية التي ننتظر منها تحقيق المعجزات، لكن، والحالة هذه فأنى لها ذلك؟.
لكن، يبدو أن الأستاذ يبقى أستاذا، وإذا ذكر بشيء مهما كان معقدا أو طاله النسيان تذكر، وأفاد وأجاد ونفع وأسعف وفكر، وفي ذلك ما عاش عليه صاحبنا وطالما ربى عليه الأجيال تلو الأجيال من مهارات التفكير والسؤال ومكتسبات التحليل والمقال. وأكيد أن ذلك ما كان في تجربته الرائعة ومغامرته الشيقة التي أحببت بعد استئذانه أن أتقاسمها معكم لكل فائدة ترجى، وكلانا على يقين أن الآلاف منكم يريدون خوض نفس التجربة ولكنهم متخوفون من مسارها المضني وتكلفتها المادية والمعنوية، وبالتالي تصدهم عنها إكراهات حقيقية ووهمية، لعل في بعض تفاصيل هذه التجربة المتواضعة والشيقة لصاحبنا ما سيبددها، ترى ما أصل الحكاية في الموضوع؟، ما المنهج الإعدادي المثمر والفعال الذي اعتمده؟، ما الاكراهات التي قد صادفته وكيف تغلب عليها؟، وأي عبرة يمكن استجلاؤها من كذا لعبة أستاذ متقاعد انتهت بباك، وبمصادفة العديد من الطرائف المضحكة المبكية ربما خصصت لها مقالة أخرى بإذن الله؟.
أصل الحكاية أيها السادة كما يرويها صاحبها، ربما قد يكون بدأ منذ صدور دورية الوزير الأول آنذاك، المرحوم “المعطي بوعبيد”، والتي منع بموجبها سنة 1982 متابعة الدراسة الجامعية على الموظفين، حارما إياهم من حقهم الدستوري المشروع بشكل غير مشروع، قبل أن يتراجع عن هذه الدورية المشؤومة رئيس الحكومة “عبد الاله بنكيران” سنة 2015 وإن بشروط أيضا معرقلة. هؤلاء الموظفون الذين اضطرتهم ظروفهم لولوج أسلاك الوظيفة العمومية باكرا فحرموا من الدراسة الجامعية باعتبار “بيضة اليوم خير من دجاجة الغد”؟. دافع آخر حسب ما أخبرني به، هو أنه خلال حراسته المتكررة للمترشحين واطلاعه على أوراق بعضهم، كثيرا ما كان يرى أن الأجوبة أوضح مما كان يكتبه المرشحون، وكان يتمنى لو أنه كان مكان بعضهم ليجيب بشكل أفضل؟. وأخيرا، إحالته المرتقبة على التقاعد وهو الأمر الذي رأى فيه مناسبة للفظ الغبار على ما طاله من الحرمان، وفرصة سانحة لولوج الدراسة الجامعية ولو بعد حين، وبكل متعة وفائدة دون ضغط ولا إكراه ولا حتى انتظار عائد غير عائد المتعة والمعرفة، خاصة في شعبة طالما أحبها بل مارسها كهواية ورسالة لسنوات وسنوات ألا وهي الكتابة الإبداعية؟.
أما عن المنهج الإعدادي، فقد اعتمدت صديقي الناجح المنهج الذاتي والعصامي بالدرجة الأولى، فلم يلج مركزا لدروس الدعم، ولم يبحث فيه عن فريق للمترشحين الأحرار قصد إعداد جماعي، ولم يتطفل على الأصدقاء من أساتذة التخصص فيحرجهم بطلب المساعدة، ولم يكن مستمعا حرا في ثانوية خصوصية أو عمومية وكل هذا كان بالامكان، ورغم ذلك، فمنذ تمكنه من وضع ملف الترشيح إلى يوم الامتحان، وعلى مدى حوالي خمسة أشهر، تمكن بفضل الله من مراجعة المقرر الكثيف ثلاث مرات، المرة الأولى للاطلاع المصحوب ببعض التمارين التوضيحية، والمرة الثانية للتركيز والضبط مع إنجاز نماذج تطبيقية متعددة من الامتحانات السابقة، والمرة الثالثة في العشرة أيام التي فصلت بين الامتحان الجهوي والامتحان الوطني وكانت منة من الله ساعدته على مزيد من الضبط والتذكر؟. ولكن كما ذكر لي كان يستعين كثيرا طبعا بالمدرسة الشعبية التفاعلية العالمية المجانية “Youtube” وما يزخر به من أساتذة متطوعين معطائين منهجيين فضلاء، وسط بحر من التيه والتطفل، فلهم منا ومنه جزيل الشكر وكل التقدير والامتنان؟.
طبعا، ورغم العزيمة وقوة الإرادة، فقد واجهته إكراهات وبعض الصعوبات، لعل أهمها كما قال لي هي البيئة المحبطة والمتقاعسة والتي لا تهتم بأي شيء لا ترى فيه عائدا ماديا بالدرجة الأولى، كما قال له أحد الأساتذة الأصدقاء وهو يخبره بالموضوع فقال له وبكل مرارة: “وماذا ستفعل بالباك وقد هرمت وأصابك الخرف مثلي.. كل ترقياتك قد أتممتها وزيادة.. أتريد أن تذهب به إلى القبر”؟؟، بعدها لم يخبر أحدا بعده غير أهله؟. وإكراه آخر، ورغم أنه كان يعد على مهل ودون ضغط ولا حساب لنجاح أو سقوط أو قيل وقال، فقد أصابه بعض الفتور والتراخي خلال شهري 3 و 4، لما كان يرى من بعد موعد الامتحانات في شهر 5 و 6، وظهور بعض النسيان والتداخل لديه في المفاهيم خاصة ما تعلق بالمنهجيات الفلسفية والمصطلحات في الاجتماعات والتربية الإسلامية وبعض الأساليب في اللغات الأجنبية؟.
وأخيرا، إكراه كثافة المقرر وحشوه بما يلزم وما لا يلزم حسب رأيه، ففي اللغة العربية مثلا، لدينا الشعر العربي كموضوع وفيه: مدرسة إحياء النموذج.. سؤال الذات.. تكسير البنية.. تجديد الرؤيا.. الحقول الدلالية.. المعاجم اللغوية.. الإيقاع الداخلي.. الإيقاع الخارجي.. الصورة الشعرية.. البحور الشعرية.. الأساليب الخبرية والأساليب الإنشائية.. والأساليب الحجاجية.. القصة.. المسرحية.. النص التطبيقي.. النص النظري.. المنهج الاجتماعي والتاريخي الموضوعاتي والبنيوي والنفسي.. وفي كل شيء منهجية .. مقدمة.. شكل ومضمون؟. وفي الفلسفة أيضا، أربعة مجزوءات، وفي كل مجزوئة ثلاثة مفاهيم وفي كل مفهوم ثلاثة محاور، أضف إلى ذلك كثرة الفلاسفة وكثرة أقوالهم وما يقولون وفيما يقولون، والمنهجية الفلسفية حسب النص أو القولة أو السؤال.. مع ما قد يكون في كل منهما من تشابه أو اختلاف في المقدمة والتحليل.. والمناقشة.. والتركيب.. وما يطلب في كل فقرة من فقرات المقال الفلسفي شكلا ومضمونا والعلاقة بين كل هذا والربط والاتساق أيضا؟.
كل هذا، لم ينفع معه إلا توفيق الله تعالى، وشيء من العزيمة وقوة الإرادة والإصرار والمثابرة ومراجعة المراجع وضبط المضبوط، والتركيز التطبيقي على المعرفة الواضحة والمنهجية المضبوطة والجواب في صميم السؤال وفي حدوده وبشكله بعد مجهود فهمه بشكل صحيح؟. والحمد لله أن التوفيق والنجاح كان حليفه وبمعدل جيد بحوالي 20/14 ونقط مشرفة 14 في التربية الإسلامية و 15 في الفرنسية و17 في اللغة العربية و18.5 في الفلسفة التي كان يخشى منها، وفي كل المواد معدل وفوق المعدل إلا مادة واحدة هي الرياضيات التي راهن فيها فقط على تجنب نقطة الصفر فإذا به قد اقترب من المعدل بإعداد مجزئتين فقط هما الاحتمالات والمتتاليات، ليتبين له كما قال له أحدهم بعد علمه بنجاحه أن “الخرف العقلي” أسطوانة مشروخة للمتقاعسين، وأن الإنجاز أي إنجاز يمكن أن يحققه المرء إذا توكل على الله وأحسن التخطيط والاعداد له ولو كان من المسنين؟. كما يتبين للسياسيين العابثين – سامحهم الله – أن حق المواطن لا يسلب منه بجرة قلم وقرار ظالم، فالحقوق لا تنسى والأحلام لا تموت ولو بعد عقود؟.
كان على أصحاب القرار المنصفين كما انتهى بنا الحوار والاعتبار، أن يفتحوا كل أبواب طلب العلم وفضاءاتها أمام المواطن ويشجعوه على ذلك، لما فيه من فائدة مرجوة وتنمية محققه للوطن والمواطن، كان بالإمكان فتح جامعات شعبية (محمد الكحص).. جامعات ليلية (لحسن الداودي).. جامعات رقمية منزلية عن بعد..؟. كان “الداودي” قد رخص في 2015 لحوالي 35 ألف موظف بمتابعة دراستهم الجامعية، وفي هذه السنة يصرح “بنموسى” بأن 21.4 ألف / 80 ألف من المترشحين الأحرار قد اجتازوا امتحانات الباكالوريا 2023 بنجاح. أليست هذه ثروة بشرية نؤهلها؟، أليست هذه تنمية بقيمة مضافة لكفاءاتنا التي منحناها فرصة أخرى؟، فكيف لو قمنا بتعميم هذه الفرصة على الجميع وتفعيل حق مشاركتهم في كل الامتحانات الاشهادية ( ابتدائي.. اعدادي.. ثانوي.. جامعي.. دكتوراه..) يشارك فيها الجميع كل حسب مستواه، ويستفيد ماديا ومعنويا من كل نجاح يحققه وإنجاز يراكمه، ألا نكون قد أسسنا لصرح ثورة معرفية ثمينة تنموية حقيقية ووطنية كبرى، بدل هذا الذي يغرق أجيالنا الصاعدة، من أوحال وتفاهة العديد من المجموعات الفارغة والتطبيقات المائعة والصفحات الضائعة التي غزتنا وآسرنا ومدارسنا بالطول والعرض فشتت تركيزنا وأضحلت معارفنا وأفسدت ذوقنا وتفكيرنا..، ولو رأينا الأمور على حقيقتها لأدركنا أن تركيز ساعة في الدراسة وتوجيهها في المفيد والبناء خير من فرجة وعبث قرن وتشتيتها في الفراغ والضياع؟.