للحمى رب يحميها
هوية بريس – د.رشيد بن كيران
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ : «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ؛ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ؛ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». حديث متفق عليه.
قال النبي ﷺ هذه الكلمة الجامعة في خطبة حجة الوداع، على أساس أنها إعلان تشريعي حاسم يضع حدا لعبث الجاهلية بالزمن، ويعيد للأمة ميزانها في فهم الوقت وحرمته. فالمقصود باستدارة الزمان ليس حركة فلكية، وإنما عودة الزمن باعتباره وعاء للتكليف ومحلا للأحكام إلى مواضعه الصحيحة التي قدرها الله وشرعها لعباده.
لقد كانت الجاهلية، تتلاعب بالأشهر الحرم عبر النسيء، تؤخر حرمة شهر أو تنقلها بحسب مصالح القتال والتجارة، حتى انقلب الزمن من نظام إلهي منضبط إلى أداة بشرية وضعية مائعة تدار بالأهواء. فجاء البيان النبوي ليقطع هذا التلاعب، ويقرر أن السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم ثابتة بأسمائها وترتيبها، لا يملك أحد تغييرها أو التحايل عليها، ولذلك عينها النبي ﷺ تعيينا يرفع كل التباس.
وقوله ﷺ: «قَدِ اسْتَدَارَ» يدل على الرجوع إلى الأصل بعد انحراف، واكتمال الدورة بعد اضطراب، أي أن الزمن التشريعي عاد إلى هيئته الصحيحة التي وضعها الله منذ خلق السماوات والأرض. وفي هذا بيان أن الشارع جعل هذا الترتيب الزمني بعينه إطارا للتكليف اختيارا، لا لأن كل مقدور مراد شرعا، بل لأن الأحكام أُنيطت به دون غيره.
وهكذا يتكامل الحديث مع قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾، فيتحول التقرير القرآني إلى إلزام عملي، موجه لا للقلوب وحدها، بل للعوائد والأنظمة والمرجعيات.
ولم يكن اقتران حرمة الزمن بحرمة الدماء والأموال والأعراض في خطبة حجة الوداع اقترانا عارضا؛ بل إشارة إلى أن فساد ميزان الزمن يفضي إلى فساد ميزان القيم، وأن استباحة الأشهر الحرم مقدمة لاستباحة النفوس. فالزمن في الإسلام أمانة، ومواقيت الله محطات ابتلاء، لا فراغات زمنية بلا معنى.
إن استدارة الزمان ليست حدثا تاريخيا منقضيا، بل قاعدة مستمرة: كلما حاول البشر إخضاع الزمن والتشريع لأهوائهم، أعادهم الوحي إلى الميزان، وذكرهم أنها من جملة حمى الله، وللحمى رب يحميها.
