[لله الأمر من قبل ومن بعد]

هوية بريس – د.ميمون نكاز
بعد مسيرة الرباط المؤازرة لأهلنا المستضعفين المحاصرين في غزة، ضَيَّفَنَا أحدُ الأفاضل بمدينة البيضاء، وقد كانت لي فيها حاجة علاجية-، في ضيافة ذلك الفاضل قرأ أحد القراء المجيدين مطلع سورة الروم،{الۤمۤ، غُلِبَتِ ٱلرُّومُ، فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُون فِی بِضۡعِ سِنِینَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَیَوۡمَئذ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ، بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ یَنصُرُ مَن یَشَاۤءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ، وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا یُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ، یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ} [الروم1-7]، ذكرني ببعض ما ذكرته من إشارات بالغة متعلقة بهذه الآيات أزيد من ثلاثين سنة في مجالس التفسير التي كنت ألقيها يومئذ، منها: دلالة البناء للمجهول في قوله تعالى {غُلِبَتِ الروم…} حيث لم يُذكَرِ الغالبُ- الذي يحرص على “المذكورية” بالطغيان والغلبة-، دلالة ذلك على تجهيل شأنه وقدره، إيماء من الوحي الشريف إلى “مستشرف المجهولية” الذي ينتظره في مدخر الأمر القدري والقضاء الإلهي، إذ الأمر كله بيد الله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد…}، من قبلُ حين غُلِبَتِ الرومُ، ومن بعدُ حين أُديلَتْ على “فارِسَ” وَغَلبَت…
ومنها إيساع الوحي الشريف لمفهوم “النصر الإلهي” في قوله تعالى: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم}، حيث يشمل مصداقه الانطباقي وقائع انتصار المستضعفين والمظلومين، وإن كانوا من غير المسلمين، كما كان الشأن مع غلبة الروم وانتصارهم على فارس بعد مغلوبيتهم… والأمر عندي ليس لكونهم “أهل كتاب” -خلافا لفارس- كما هو ظاهر من النقل عن طائفة من المفسرين، ولكن لكونهم مظلومين من قبل العدوان الفارسي…
ومنها ذكر صفتي “العزة” و”الرحمة” تنبيها إلى جريان نفاذِهما على كل “التدافعات” الإنسانية بين الظالمين والمظلومين، بين المستكبرين والمستضعفين، من غير نظر إلى “مشروطية الدين” ولا التفات إلى “قيدية الملة”…
ومن لطيف الإشارات -مما لا أزال أذكره- ما ورد عن عمر رضي الله عنه في قصته مع صاحبه الأنصاري حين كانا يتواردان على المدينة من العوالي لاستظهار أخبارها واستطلاع أنباء الوحي منها، حيث قال لصاحبه الذي استنهضه بالضرب الشديد على الباب؛ وقد عاد من المدينة قبل معهود أمره: (أجاء غَسَّان..)، يقول عمر رضي الله عنه: كنا قد تحدثنا أن غسان تُنَعِّلُ الخيلَ لغزونا، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته، فرجع إلينا عشاء، فضرب بابي ضربا شديدا وقال أَثَمَّ هو، ففزعت فخرجت إليه، فقال قد حدث اليوم أمر عظيم، قلت ما هو؟ أجاء غسان؟، وذلك في نازلة التحريم المعلومة…
يفيد ذلك أن المسلمين كانوا موصولين بأحداث الصراع ووقائع التدافع بين الحق والباطل، ينفعلون ويتفاعلون، وما كانوا مُنْظِرينَ أنفسهم في “مقاعد الفرجة” على ما يجري حتى تصيبهم “أقدار الذلة والهزيمة”، كما هي حالهم اليوم، يأتي من يأتي من الطغاة المتجبرين للجوس في الديار وهم قعود خوالف، ويجيء من يجيء لاستباحة الدماء والأعراض، وانتهاك حرمات الأمة بالرغبة السافرة المعلنة في وراثة الأرض وهم في سكرات الدنيا يُصرَعون، كل ذلك جار وواقع في حال هذه الأمة، ليس فيها من يُستنهَض بالضرب المضاعف الشديد على الأبواب، كما اسْتُنْهِضَ عمرُ حين ضُرِبَ عليه الباب بالشدة…
رحم الله عمرَ الفاروق، وهدى الله في هذه الأمة كل قاعد محزوق…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: من معاني “المحزوق” المحاط به، المضيق عليه، المحصور، مشدود الوثاق بالحبال…



