الجدل لم يتوقف منذ أن نشرت مجلة “أتلانتك” الحوار والموضوع الأهم ربما في سنوات رئاسة باراك أوباما الثمانية، والتي قاربت على الانتهاء، والذي كان بعنوان “عقيدة أوباما” وهو الموضوع الذي تولى صياغته الصحافي اليهودي جيفري جولدبرج.
وقد درج أوباما في ربيع كل عام، وتحديدا في شهر مارس، على منح “جولدبرج” مقابلة تأتي عادة مع اقتراب انعقاد المؤتمر السنوي للوبي الموالي لإسرائيل “ايباك”. وغالبا ما تتسم لقاءات أوباما معه بالصراحة.
ولأن هذا الحوار هو الأخير في سلسلة حوارات أوباما السنوية مع جولدبرج، فقد منحه أوباما أكثر من مقابلة، إذ سمح له أن يزور البيت الأبيض مرارا، وأن يرافقه في الطائرة الرئاسية إلى كوالالمبور. كذلك منح البيت الأبيض جولدبرج لقاءات مع كبار مسؤولي أوباما، بمن فيهم وزير خارجيته جون كيري، ومستشارة الأمن القومي سوزان رايس، ورئيس “وكالة الاستخبارات المركزية” (سي آي اي) جون برينان. جولدبرج ترجم كل هذه الحوارات في مقال مطول أسماه “عقيدة أوباما” والذي يشرح فيه باستفاضة تفاصيل التغيرات التي جلبها أوباما للبيت الأبيض ودوره عالميًا لا سيما التوجه الآسيوي، والمنطق الكامن خلف قرارات عدة أبرزها العدول عن ضرب نظام الأسد في سوريا عام 2013، والانفتاح على دول “معادية” للولايات المتحدة مثل إيران وكوبا وميانمار وغيرها من بلدان لاتينية، والالتزام بالهدوء في مواجهة المغامرات الروسية.
أبرز معالم هذا الحوار أنه رسم شكل السياسة الخارجية الأمريكية في المرحلة المقبلة، والتي تقوم على فكرة التراجع عن الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط، وإقامة توازن قوى بها يضمن ديمومة التوتر تحت مسمى السلام البارد والردع المتبادل وتوزيع مناطق النفوذ، وذلك من أجل التفرغ للعدو المحتمل والذي أصبح مع الوقت عدوا حقيقيا ؛ ونعني بها الصين التي أصبحت كابوسا وهاجسا دفع الأمريكان لأول مرة منذ سبعين سنة للتخلي عن الدور التاريخي لها في منطقة الشرق الأوسط، بل والتبرم من الشراكة التاريخية مع حلفائها التقليديين في المنطقة مثل السعودية وتركيا وإسرائيل ومصر.
فهل مخاوف الأمريكان من النفوذ الصيني مخاوف حقيقية أم أنها حلقة من حلقات استراتيجية اصطناع الأعداء التي اعتمدها الأمريكان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي أبقت النسيج الأمريكي الفسيفسائي منسجما طوال فترات الصراع مع الآخرين؟!
تطورات الأحداث خلال العقدين الماضيين تكشف عن أن المخاوف الأمريكية من الصين مخاوف حقيقية وجادة، وأن الطموحات الصينية قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء المرسمة لإبقاء النظام العالمي في صورة الحالية التي يسيطر عليه اقتصاديا وعسكريا وسياسيا الأمريكان. فالعلاقة بين أمريكا والصين يمكن تلخيصها في ثلاث كلمات يتمحور حولها تاريخ علاقات الولايات المتحدة بجمهورية الصين الشعبية: المواجهة، الشراكة، المنافسة.
المواجهة أثناء الحرب الباردة استمرت منذ سنة 1949 حتى سنة 1972، حيث سعت الولايات المتحدة خلالها لتشكيل حلف شرقي آسيا، وفرض حزام خانق على الاتحاد السوفيتى من الجنوب. هذا الحلف ضم كلاً من: اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان، الفلبين، نيوزيلاند، أستراليا، ماليزيا، تايلاند. خلال هذه الفترة كانت الصين تتبع سياسات مضادة لسياسات أمريكا في المنطقة وإن كانت لا ترقى للوصول لمرحلة التوتر الحادث وقتها بين السوفييت والأمريكان.
أما مرحلة الشراكة والتي حاول فيها الأمريكان رأب الصدع مع الصينيين بسياسة البنج بونج التي ابتدعها الرئيس الأمريكي ” نيكسون” حيث التقى مستشاره للأمن القومي هنرى كيسنجر سرا بأول رئيس وزراء لجمهورية الصين الشعبية تشو ان لاى؛ بعد وساطة باكستانية.
وتناقش الطرفان في إمكانية فتح علاقة بين البلدين بعد أكثر من عقدين من العداوة البيّنة. أسفرت المحادثات السرية التي استمرت نحو عام عن إعلان الرئيس نيكسون نيته زيارة الصين والتقاء الرئيس الصيني ماو تسى تونج . خريطة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وضعت بشكلها النهائي عام 1979 بزيارة الرئيس الصينى دينج شياو بينج للولايات المتحدة التي كان يحكمها في ذلك الوقت الرئيس الأسبق جيمى كارتر، كأول رئيس صيني يزور الولايات المتحدة منذ قيام الثورة الشيوعية 1949.
أما مرحلة المنافسة والتي بدأت مع انتهاء الحرب الباردة سنة 1991 وتربع الأمريكان على قمة النظام العالمي الجديد، وفيها بدأ الصينيون في وضع استراتيجية بعيدة المدى لتعويض الفارق الكبير بين القدرات الاقتصادية والعسكرية الصينية والأمريكية، وذلك بالبدء اقتصاديا لتحقيق هذا التفوق، وعلى مدار عقدين من تطبيق سياسة “الاقتصاد أولا” أصبح الاقتصاد الصيني الثاني عالميا بعد أمريكا مع توقعات مؤكدة من الكثير من المتخصصين في الاقتصاد الدولي، بتربع الصينيين على عرش الاقتصاد والاطاحة بالأمريكان قبل حلول سنة 2025 م، وبحسب بحث مكثف أجرته وكالة اقتصادية تابعة للبنك الدولي فإن الاقتصاد الصيني كان أقل من نصف حجم الاقتصاد الأميركي في العام 2005،حيث كان حجمه يعادل 43% فقط من حجم الاقتصاد الأميركي، أما في العام 2011 فإن حجم الاقتصاد الصيني بلغ 87% من نظيره الأميركي مع النمو الكبير الذي تسجله بكين !! ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تحقق الصين نمواً اقتصادياً إجمالياً خلال الفترة من 2011 إلى 2014 بواقع 24%، بينما يتوقع أن يسجل الاقتصاد الأميركي نمواً خلال الفترة ذاتها بنسبة 7.6%، وهو ما يعني في النهاية أن الاقتصاد الصيني سينهي العقد الحالي متفوقاً في حجمه على الاقتصاد الأميركي . وبلغت قوة الاقتصاد الصيني مستوى مهول لدرجة أن مجرد التباطؤ في الطلب الصيني على الواردات والنفط في هذا العام قد أصاب الاقتصاد العالمي بأسره بحالة كبيرة من الركود لم يشهد العالم مثلها منذ عشرات السنين، وأن خسائر الاقتصاد الصيني في أغسطس الماضي قد بلغت 4.5 تريليون دولار، يعني أكثر من الاقتصاد الألماني بأكمله ؟؟ فسعلة واحدة من الاقتصاد الصيني أصابت العالم كله بالزكام كما يقول المحللون الماليون .
ومع صعود القوة الاقتصادية يأتي نفوذ جيوسياسي متزايد للصينيين .ففي مختلف أنحاء العالم يُحتَفى بقادة الصين. وتنظر العديد من البلدان الأوروبية إلى الصين باعتبارها المفتاح إلى النمو المحلي الأقوى. ويتطلع الزعماء الأفارقة إلى الصين بوصفها شريك النمو الجديد الذي لا غنى عنه لبلدانهم، وخاصة في مجالات تنمية البنية الأساسية والأعمال التجارية، وعلى نحو مماثل، يتطلع قادة أميركا اللاتينية الآن إلى الصين بأكبر ما يتطلعون إلى الولايات المتحدة. ويبدو أن الصين واليابان تتخذان خطوات ملموسة نحو علاقات أفضل، بعد فترة من التوترات الشديدة. وحتى روسيا “مالت” مؤخرا تجاه الصين، فعملت على إقامة صلات أقوى على العديد من الجبهات، بما في ذلك الطاقة والنقل، طاوين بذلك صفحة الخلافات الحزبية القديمة، وفي الوقت الذي تسجل الصين فيه صعودا ملموسا على الصعيدين الاقتصادي والجيوسياسي، فعلت الولايات المتحدة كل ما هو ممكن لإهدار المزايا الاقتصادية والتكنولوجية والجيوسياسية التي تتمتع بها. فقد وقع النظام السياسي الأميركي أسيرا لجشع النخب الثرية، التي يتلخص هدف أفرادها الضيق في خفض الضرائب الشخصية والضرائب المفروضة على الشركات، لتعظيم ثرواتهم الشخصية الهائلة والحد من الزعامة الأميركية البناءة في تنمية الاقتصاد العالمي. والأسوأ من هذا أن السياسة الخارجية الوحيدة التي تلاحقها الولايات المتحدة بشكل منتظم تتمثل في حروب متواصلة وغير مجدية في الشرق الأوسط، في حين تستمر الصين في فرد عضلاتها الجيوسياسية متجنبة الانغماس في إخفاقات وكوارث عسكرية في الخارج، مؤكدة على المبادرات الاقتصادية التي تضمن المكسب للجميع.
بعض الباحثين الاقتصاديين يجادل بأن أمريكا مازالت الأقوى اقتصاديا وأن لديها من الوسائل والأدوات المشروعة وغير المشروعة ما تمنع بها احتلال الصين قمة الاقتصاد العالمي، إلا أن أقصى ما ستفعله أمريكا هو تأخير الأمر قليلا أو تعطيله فترة من الوقت ولكن منعه من الكلية غير وارد . وفي حين تشهد مكانة الصين الجيوسياسية صعودا سريعا جنبا إلى جنب مع قوتها الاقتصادية، تستمر الولايات المتحدة في تبديد زعامتها العالمية بسبب الجشع الطليق الذي يميز نخبها السياسية والاقتصادية وفخ الحرب الأبدية الذي وقعت فيه باختيارها في الشرق الأوسط في حقبة بوش الصغير.
أما على الصعيد العسكري فلا أحد يجادل في تفوق القوة الأمريكية وبمراحل على القوة الصينية، ولكن تطورات الخمس سنوات الأخيرة تشي بأن الصين على طريق استنساخ سيناريو التفوق الاقتصادي. فالولايات المتحدة في فترة أوباما تعاني من تحركات صينية عسكرية غير مسبوقة في البحار الإقليمية بدون ردود عسكرية حاسمة من واشنطن، فعلى مدار سنوات أوباما تحركت الصين ولأول مرة في تاريخها لرسم حدود ما تعتقد أنها مياهها الإقليمية في بحر جنوب الصين والبحر الأصفر، وردمت جزرًا بشكل سريع ودججتها بمحطات الرادار والتجسس وغيرها من بنى تحتية ستتيح لها بث قوتها العسكرية في المحيط الهادي، والذي سيشكل ركيزة نصف الاقتصاد العالمي في العقود المقبلة، ومعبر أكثر من 5 تريليون دولار من السلع المتجهة ناحية الأسواق الأمريكية سنويًا . وبحر الصين الجنوبي يُعتبر أكبر بحار العالم بجانب البحر المتوسط. له أهمية ملاحية كبيرة تكمن في أن أكثر من ثلث حركة الشحن العالمية تمر بمياهه، كما يعتقد أن به احتياطات كبيرة من الغاز والنفط . وفي المقابل اكتفت أمريكا بمناورات سياسية هدفت لتكرار سيناريو الاصطفاف مع دول الجوار والذي سبق وأن طبقته مع السوفيت في أبان الحرب الباردة، وهو ما يشير مرة أخرى إلى أن أوباما لم يرى في فترة رئاسته قدرة واشنطن منفردة على الوقوف للصين.
في سنة 2013 أعد البنتاجون تقريرا سريا عن تنامي حجم الإنفاق العسكري الصيني الذي يتراوح بين135 إلي215 مليار دولار أمريكي, وهو رقم أقل بكثير مما تعلنه بكين لحجم إنفاقها الدفاعي.
وأشار التقرير إلي حجم التطورات العسكرية الصينية خاصة مساعيها لتطوير طائرات الشبح ستيلث المتقدمة وبناء أسطول من حاملات الطائرات لتوسيع نفوذها العسكري في أعالي البحار. ورجحت واشنطن أن الدافع الوحيد وراء عدم كشف بكين عن إمكاناتها العسكرية يرجع إلي إحداث عنصر مفاجأة بحجم وقدرة الماكينة العسكرية الصينية لدي اندلاع أي أزمة, وذلك عبر التجسس علي توجهات صناع قرار السياسة وبناء صورة لشبكة الدفاع الأمريكية وإمكاناتها اللوجستية والعسكرية. ومع تنامي التوتر في بحر الصين الجنوبي قالت الولايات المتحدة إنها تخطط للعودة الى المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، وقال نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي بين رودس يوم الاثنين 2 نوفمبر الماضي: “إن بلاده مصممة على اجراء استعراضات اخرى لحرية الملاحة في هذه المياه، وأن الولايات المتحدة ستسير دوريات بحرية في المنطقة “مرتين كل 3 أشهر على الأقل” وكانت بكين قد عبرت عن غضبها ازاء قيام المدمرة الأمريكية “لاسن” بدخول منطقة تدعي الصين السيادة عليها، وكانت المدمرة الأمريكية قد انتهكت المجال البحري الصيني الذي يبلغ عرضه 12 ميلا بحريا حول جزيرتي سوبي ومسشيف الواقعتين في أرخبيل سبراتلي محل النزاع التاريخي بين الصين والفليبين . وعلى صعيد متصل، أكد قائد القوات الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ الأدميرال هاري هاريس أن القوات الأمريكية ستستمر في التحرك في “كل مكان” يسمح لها به القانون الدولي .في نبرة تحدي لتزايد التمدد الصيني في البحر الجنوبي.
خوف أمريكا من الصين خوف حقيقي وليس مصطنعا، وله ما يبرره على كل الأصعدة، في حين أن التحالفات التقليدية القديمة صارت حمولة زائدة على دولة تعاني من تراجعا في قدرتها على الهيمنة ومواصلة الامساك بكل خيوط اللعبة الدولية، والصين بكل ما لديها من إمكانات مادية وبشرية وجيوسياسية هي المنافس الوحيد الذي يجب على الأمريكان أن يخشوه إن أرادوا الاحتفاظ بنظامهم الدولي الذي صنعوه ورعوه بأيديهم لعقود. فبعد أن مضى العدو الشيوعي وانهار، وبعد أن انشغل المسلمون ببعضهم البعض وصاروا شيعا وفرقا متناحرة وطوائف متقاتلة، لم يبق للأمريكان من عدو يواجهونه إلا المارد الأصفر الذي يوشك على ابتلاع العالم بما فيه الأمريكان.