لماذا تم اعتقال رئيس بلدية إسطنبول؟!

22 مارس 2025 17:35

هوية بريس – جمال سلطان

الحياة السياسية في تركيا معقدة، ويصعب أن تفهم حدثا فيها بدون معرفة كافية بخلفياته وبعض تشعباته، في العالم العربي اعتدنا على شيء من الكسل في التحليل للأحداث، ولدينا قوالب جاهزة لتصنيف أي حدث أو قضية في تركيا، أحيانا مع الجهل المثير للشفقة فعليا بتفاصيلها وخلفياتها، وهناك كتائب ونشطاء عرب كارهون لأردوغان أيديولوجيا وهؤلاء جاهزون بالإدانة سواء فعل أم لم يفعل، وبغض النظر عن الحقيقة والمعلومات، وما حدث في قضية اعتقال أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول هو نموذج لهذا “الهبد” على مواقع التواصل وعلى شاشات تليفزيونية أحيانا.

أكرم شخصية طموحة جدا، ومغامرة، وبراجماتية إلى أقصى مدى، ويعمل على مغازلة العالم الخارجي بما يجعله وجها مقبولا، ومن ذلك مهاجمته لحركة حماس ووصفها بالجماعة الإرهابية وإدانة هجماتها في 7 أكتوبر ووصفها بالعمل الإرهابي الجبان، وهي لغة تطرب المنظومة الغربية، وهذا قد ينجح في العمل السياسي ويدعمه في أحد جوانبه، لكنه يكون مدمرا للشخص إذا كان يتصف بالرعونة، أو أفرط في الثقة بالنفس والغطرسة والشعوب بالحماية، لأنه يوقعه في أخطاء كثيرة، بعضها يكون قاتلا، كما يجلب له خصومات مريرة حتى من بين حلفائه، ودائما الضربة عندما تأتي من الحليف تكون الأكثر تأثيرا بل تدميرا، لأنه يكون مطلعا على أسرار وتفاصيل لا يعرفها الآخرون، وهذا بالضبط ما جرى مع رئيس بلدية إسطنبول، فالذي لا يعرفه كثيرون ممن ينظرون إلى القضية من الخارج أن الاتهامات الخطيرة الموجهة لأكرم والدعاوى التي رفعت إلى المدعي العام ضده، أغلبها كان من قيادات وكوادر في حزبه، وليس من الحزب الحاكم، وذلك لأسباب متعددة.

من بين تلك الأسباب الصراعات الداخلية العنيفة في حزب الشعب الجمهوري المعارض بين ثلاثة أجنحة، جناح أكرم، ومعه رئيس الحزب الحالي، وجناح كمال كليشدار أوغلو رئيس الحزب السابق، وجناح منصور ياواش رئيس بلدية العاصمة أنقره، كليشيدار أوغلو الذي كان يعتبر أكرم ابنه، يحمل مرارة كبيرة تجاهه لأن الطعنة التي أطاحت به من رئاسة الحزب العام الماضي كانت من أكرم نفسه، وكليشيدار وجناحه يتربصون الفرصة لرد الطعنة لأكرم، السبب الثاني هو أن أكرم استخدم الميزانية الضخمة لبلدية إسطنبول في شراء ذمم، وتوزيع مغانم على محاسيبه وحلفائه وداعميه، من رجال أعمال وصحفيين وكوادر حزبية وتشكيل لجان الكترونية قوية وواسعة، وهو ما أثار حفيظة آخرين في الحزب كانوا يرون أنهم يستحقون جزءا من الكعكعة، فلما تجاهلهم قرروا خوض المعركة ضده، أحدهم قدم للادعاء العام ملفا من 40 صفحة بوثائق وأدلة، عن فساد أكرم في البلدية، ولكي تعلم حجم الفساد تصور أن الرقم يدور حول 560 مليار ليرة تركية، أي حوالي 14 مليار دولار، وهذه ميزانية دول وليس مجرد بلديات.

أكرم كان يتصرف باستهتار شديد، وغطرسة، متصورا أن حضوره السياسي يمثل حائط صد يمنع الدولة بجميع سلطاتها من الاقتراب منه، وكان يتصرف بعجرفة يتعفف عنها حتى رؤساء الدول، فكان يشتم القضاة، وهناك حكم عليه بالسجن عامين بسبب ذلك ومعروض حاليا على محكمة الاستئناف، كما كان يهدد المدعي العام علنا ويقول أنه سيعاقبه قريبا، كما كان يهدد ويتوعد خصومه داخل حزبه أو من الحزب الحاكم، بل وصل لتهديد بائع في أحد الأسواق اعترض عليه وتوعده بالعقاب في فيديو شهير، لكنه في الفترة الأخيرة شعر بالقلق عندما بدأت تحقيقات الفساد المستمرة منذ عدة أشهر تقترب من الدائرة القريبة جدا منه، بل اللصيقة، وكان يدرك أنها ستصل إليه بالتأكيد، لذلك بذل جهدا كبيرا لدفع رئيس الحزب لطرح اسمه كمرشح الحزب لأي انتخابات رئاسية مقبلة، بحيث يكون ذلك حائط حماية سياسية قوي، يمنع اعتقاله حتى لا يتم تصويره على اعتبار أنه إبعاد المرشح الرئاسي الأهم، لكن قرار المدعي العام كان أسبق، عندما أمر بتوقيفه وبدء التحقيق معه.

تهمتان يواجههما أكرم، الأولى تهمة الفساد، وهي متشعبه، وتم اعتقال عشرات من رجال الأعمال فيها، حيث كان يتم ترسية مشروعات بالمليارات عليهم مقابل عمولات ورشاوى وبدون مناقصات ولا شفافية، كما كان يستخدم بعضهم جسرا للتربح، عن طريق منحهم مشروعا ضخما، ثم بعد ذلك يتم تنازل مالك شركة المشروع عن أسهم الشركة لإحدى شركات أكرم نفسه مقابل منحه مشروعا آخر بالأمر المباشر، وأحدهم باع نقل ملكية ثلاث فيلات فاخرة ثمنها 50 مليون دولار إلى أكرم مقابل 40 ألف دولار فقط لا غير، كما تم ضبط فواتير مالية ضخمة عن حفلات ومهرجانات وهمية كانت على الورق فقط ولم تحدث وكثير منها أيام حظر التجمعات في أزمة وباء كورونا، وأمور أخرى عديدة، وهناك تهمة التعاون مع منظمة إرهابية، حيث تمثل علاقته بالمنظمات الكردية ثقبا أسودا خطيرا، وأكرم كان يعتمد على الأكراد في حسم انتخابات إسطنبول، لأنهم يشكلون في إسطنبول وحدها قاعدة انتخابية تتجاوز المليون صوت انتخابي، وهي كافية لترجيح أي مرشح، غير أن المشكلة هنا هو نفوذ حزب بي كا كا ، الكردي المسلح على قطاعات واسعة من أكراد إسطنبول، وقام أكرم بتوظيف المئات من كوادره في البلدية (أكرم قام بتوظيف قرابة 30 ألف شخص من أنصاره في بلدية إسطنبول) لضمان دعمهم له.

الدعاية الغربية عن أكرم بوصفه السياسي الأكثر قدرة على منافسة اردوغان هي بروباجاندا غير صحيحة بالمرة، وهي شبيهة بالضجة التي أثاروها سابقا عن السيدة “ميرال أكشنار” رئيسة حزب الجيد، ووصفوها بالمرأة الحديدية التي ستطيح بأردوغان، وكل ذلك ثبت أمام الصندوق بأنه هراء، منافس اردوغان الحقيقي والقوي في أي انتخابات رئاسية هو منصور ياواش، رئيس بلدية أنقره، وجميع استطلاعات الرأي التي جرت كانت تضع منصور في المقدمة وليس أكرم، فمنصور شخصية سياسية معارضة جادة وله نجاحات حقيقية في بلدية أنقرة، كما أن له قبولا في القواعد القومية لأنه ينحدر من الحزب القومي أساسا، ولذلك جناح أكرم في حزب الشعب الجمهوري يحاربونه بشدة، ويحاولون إقصاءه، وهناك معارك طاحنة داخل الحزب في تلك النقطة، وثمة تحليلات عديدة تؤكد أن حزب الشعب الجمهوري إذا قرر ترشيح أكرم فإن منصور سيستقيل من الحزب ويترشح مستقلا في انتخابات الرئاسة، ياواش استنكر “طريقة” اعتقال أكرم وقال أنه كان يمكن أن تكون بشكل لائق أكثر، لكنه من موقع المسؤولية قال حرفيا : “لا أحد فوق القانون، كل واحد يمكن أن يحاكم؛ يذهب إلى المحكمة ويحاكم ويعاقب إن كان قد ارتكب جريمة”.

أكرم يواجه هذه المرة عدة أزمات تمس شرفه الشخصي ونزاهته، وليس موقفه السياسي، من بينها ما كشفت عنه جامعة إسطنبول من تزويره شهادته الجامعية “شراءها بالمال”، وذلك بعد تحقيقات موسعة استمرت شهورا، وأول من كشف عن هذه الفضيحة كانوا صحفيين من حزبه، وتم إلغاء شهادات عشرات آخرين، كلهم من أبناء الأثرياء، تم شراء شهاداتهم بالتلاعب في الأوراق واستغلال النفوذ على حساب فرص أبناء الفقراء والمجتهدين، وهناك ما يشبه الإجماع في تركيا على ثبوت تلك التهمة فيما يخص أكرم على الأقل.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
10°
17°
الأربعاء
18°
الخميس
18°
الجمعة
21°
السبت

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M