لماذا سيظل «قطار التطبيع» بعيدا عن محطة الرياض؟

09 أغسطس 2024 09:41

هوية بريس – بلال التليدي

ثمة في الواقع صعوبة كبيرة في استشراف الموقف السعودي من تطبيع العلاقة مع إسرائيل، وذلك، ليس بسبب وجود نقاط التباس في مفرداته، ولكن بسبب وجود مسافة كبيرة بين التعبيرات التي تصدر عن الولايات المتحدة الأمريكية بخصوصه، وبين الممارسة الدبلوماسية والسياسية السعودية.

الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل أقل من ثلاثة أسابيع كشف لبرنامج “360 مع سبيدي” ومن جانب أحادي معطيات عن الموقف السعودي، ولخص الأسباب التي تؤخر مسار التحاق المملكة بالتطبيع، في ضمانات بتزويد الولايات المتحدة الأمريكية لها بالأسلحة في حالة ما إذا تعرضت لهجوم من قبل دول عربية أخرى أو تلك الواقعة على مقربة مباشرة منها (إيران) ومنشأة نووية مدنية تساعد واشنطن في تشييدها وإداراتها حتى تتمكن الرياض من الابتعاد عن الوقود الأحفوري.

هذه الرواية التي لا تمثل في الحقيقة كل الموقف السعودي، تختصر ثمن التطبيع والاعتراف السعودي بإسرائيل في المساعدة على إحداث تفوق سعودي على مستوى التسلح في المنطقة، ثم المحطة النووية، في حين، تخفي جوانب مهمة تتعلق باستحقاقات تنتظرها من الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية، أي وقف الحرب على غزة، والتزام موثوق به بإقامة دولة فلسطينية.

ثمة في الواقع تناقض واضح حتى في الرواية الأمريكية نفسها، فبينما تغطي رواية جو بايدن على مسألة الاستحقاقات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، تكشف رواية وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن التي قدمها أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب في شهر مايو الماضي عن هذا المهمل في رواية بايدن، وتنقل وجهة نظر المسؤولين السعوديين أنفسهم، والعوائق التي تحول دون توجه بلادهم نحو التطبيع، أي عدم رغبة تل أبيب في السير في مسار حل الدولتين، ولذلك قدم بلينكن تحسره حين قال أمام اللجنة ذاتها أن «الحل كان في المتناول» لولا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

فحص الموقفين الأمريكيين، يضيف عنصرا جديدا إلى قضية التسلح والنووي، أي حصول مسار سياسي على مستوى القضية الفلسطينية، يوقف الحرب، ويضمن تأسيس دولة فلسطينية ضمن «حل الدولتين».

بهذا الاعتبار، ومسايرة للرواية الأمريكية، فإن التطبيع السعودي فرصة تم تضييعها، وأنه لا أمل في ظل حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي إحيائها في المدى القصير إلا أن يحدث تغيير جذري في بنية السياسة في تل أبيب، وهو ما لا تظهر مؤشراته بشكل كاف رغم الانقسام الإسرائيلي الذي مس كل المستويات تقريبا السياسية والعسكرية والأمنية والمجتمعية.

ومع أن واقع الحال يؤكد هذه الخلاصة، فإنه من الصعب الاطمئنان إلى الرواية الأمريكية وتحليل الموقف السعودي بوحي منها، وذلك لسبب بسيط أن الخيارات الاستراتيجية والسياسية والدبلوماسية التي اتجهت إليها السعودية، تقدم تفسيرات مختلفة، وتجعل من التفسيرات التي تقدمها واشنطن بمختلف مسؤوليها مجرد أوراق تستخدمها الرياض بذكاء لإدارة الموقف.

بعض المتعجلين قدموا تفاؤلا أكثر من التفاؤل الأمريكي بقرب ركوب الرياض لقطار التطبيع، وعللوا ذلك بمقارنة الموقف السعودي اتجاه اغتيال كل من أحمد ياسين وإسماعيل هنية، وكيف لم تعبر السعودية بشكل واضح عن إدانتها لاغتيال إسماعيل هنية، في الوقت الذي عبرت فيه بوضوح كاف عن إدانته لاغتيال الشيخ أحمد ياسين، ويعتبرون تحول الموقف بمثابة اقتراب إلى مربع التطبيع، وانتظار الاستجابة الأمريكية لشروط الرياض ذات الارتباط بأمنها وخياراتها الاقتصادية والتنموية.

يس ثمة في الواقع أي تغير في الموقف السعودي، فقد عبر وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان حسب ما نقل نظيره الإيراني بالإنابة، عن تنديد الرياض باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، واستهداف الكيان الصهيوني سيادة إيران، معربا عن ترحيبه بإقامة اجتماع لمنظمة التعاون الإسلامي لدراسة استشهاد إسماعيل هنية، ثم عبر نائب وزير الخارجية السعودي المهندس وليد الخريجي خلال اجتماع منظمة التعاون الإسلامي بجدة عن إدانة صريحة للاغتيال معتبرا إياه «انتهاكا واضحا لسيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسلامتها الإقليمية، وخرقا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتهديدا للسلم والأمن في المنطقة».

ثمة معطى آخر، يشكل محددا رئيسيا للموقف السعودي، هو الأمن، فالرياض، التقطت الدرس جيدا من فترة إدارة باراك أوباما، التي انتهت بإبرام الاتفاق النووي مع إيران (2015) وتعريض العلاقات الأمريكية السعودية للجمود والتوتر، كما التقطت بشكل جيد دروس من فترة إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي انسحبت من الاتفاق النووي (2018) وضاعفت الحصار على إيران عبر فرض عقوبات جديدة، إلا أنها سمحت بفتح نافذة من الاستهداف الحوثي (الإيراني) لتبقي الرياض في دائرة الابتزاز الأمريكي، فلم ينفع التحالف الذي أقامته الولايات المتحدة الأمريكية شيئا في الحفاظ على الأمن القومي السعودي، لاسيما بعد أن أضحت منشآت شركة النفط «أرامكو» عرضة لصواريخ الحوثيين.

السعودية حلت المشكلة بشكل جذري من خلال الجلوس على طاولة التفاوض المباشرة مع إيران برعاية صينية (2023) وأنهت سبع سنوات من التوتر، وضمنت بذلك تحقيق هدفين اثنين الأمن، ثم إنهاء ذرائع الابتزاز الأمريكي، خاصة لما تحول في عهد ترامب إلى تشهير كاريكاتوري مناف لكل الأعراف الدبلوماسية.

هذا المعطى مهم في تحليل محددات الموقف السعودي، فالرياض، وضعت أولوياتها بشكل مرتب، فالأمن يسبق التسلح، وإن كان التسلح مدخلا أساسيا إلى استتباب الأمن على المدى المتوسط والبعيد. ومن ثمة، فلا يتصور في القريب العاجل، أن تسير السعودية في أي خطوة يمكن أن تعيدها إلى ما عاشته من أزمات سواء على مستوى أمنها مع جيرانها، أو على مستوى إدارتها الموقف مع واشنطن. ولذلك، فهي تضع شروطا مختلفة، بعضها مرتبط بـ«المستحيل إسرائيليا» أي التقدم في مسار «حل الدولتين» مع وجود التزام موثوق به للمضي في هذا المسار، وبعضها الآخر، مرتبط برؤيتها لدورها القادم في المنطقة، أي «سعودية متفوقة عسكريا، بنموذج اقتصادي قوي غير مرتهن للنفط، وبدور إقليمي مؤثر».

السعودية تدرك أن هذه الأدوار، غير ممكنة أمريكيا على الأقل في المدى القصير، ولذلك، فهي تفاوض بالاستراتيجي، من أجل أن تحافظ على سياستها التي فرضتها التحولات التكتيكية (المدى القصير).

مؤكد أن إصلاح العلاقات السعودية الإيرانية لا يضمن إلا طمأنة سعودية مرحلية، لكن إدارة التوتر المحتمل على المدى المتوسط والبعيد، يتطلب أدوات أخرى، غير ما يمكن أن تقدمه أمريكا في المدى القصير، فمثل هذا الرهان، يتطلب استعمال قوة ناعمة على مدى عقد أو يزيد من الزمن، تساعد على تمدد الدور السعودي من جديد في كل من اليمن ولبنان وفلسطين، وتستعيد فيه الرياض دورها التنموي والتضامني والإعماري في هذه المناطق، وتعيد تقييم علاقتها مع كل من الأردن ومصر وسوريا والعراق، بالشكل الذي يجعلها في أفق عقد من الزمن، قادرة على أن تستعيد دورها كقوة إقليمية في المنطقة.

لذلك، أكاد أجزم أن قطار التطبيع لا يزال بعيدا عن محطة الرياض، وذلك لسبب بسيط، هو أنها لا يمكن أن تعيد إنتاج واقع مؤلم أمنيا ودبلوماسيا وسياسيا وإقليميا كانت ضحيته لحوالي عقد من الزمان، وعطل جزءا مهما من رهاناتها نحو استعادة دورها الإقليمي، وأضعف بعض فرصها لتغيير نموذجها الاقتصادي، وتحقيق رؤيتها التنموية.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M