لماذا لم تعد روسيا قادرة على إخفاء الحوادث النووية كما اعتادت في الماضي؟
هوية بريس – متابعات
في غشت من عام 2000 ظهرت أخبار هامة حول اختفاء غواصة كورسك النووية الروسية في بحر بارنتس. وقد استغرق الكشف عن الخبر أياماً من قبل الكرملين؛ إذ كانت موسكو تحاول التعتيم على الحادثة والمراوغة والكذب بشأنها.
ووفق “عربي بوست” في نهاية المطاف، علم أن الغواصة تعطَّلت بعد إصابتها بطوربيدٍ متفجر. وادعى المسؤولون الروس أنهم كانوا يجرون عمليةً لإنقاذ أفراد الطاقم. ولكن بعد ذلك بكثير، اتضح أنَّ جميع البحارة الذين كانوا على متنها قد ماتوا على الفور.
يقول كريستيان كاريل، الصحفي الأمريكي في مقالة له بجريدة The Washington Post: وقت هذه الحادثة، كنت أحاول التأقلم على وظيفتي الجديدة في رئاسة مكتب مجلة Newsweek الأمريكية، وكان النشر عن هذا الخبر يُمثِّل تحدياً؛ إذ كنا بعيدين عن قاعدة الغواصة الواقعة في المحيط المتجمد الشمالي، فضلاً عن أنَّ الجيش الروسي بذل كل ما بوسعه لطمس أي معلومات قادمة من المنطقة.
يضيف: لكنَّنا استخدمنا شبكة الإنترنت، التي ساعدتنا في العثور على صحيفةٍ محلية تصدر من منطقةٍ ليست بعيدة عن قاعدة كورسك كانت تغطي الخبر، وتمكننا عبر مراسليها من التواصل مع بعض أقرباء أفراد الطاقم. وقد كانت هذه مساعدة هائلة. إذ لم يكن موقعا فيسبوك وتويتر قد ظهرا بعد في ذلك الوقت.
والآن، بعد مرور حوالي 19 عاماً تقريباً، نتتبَّع تفاصيل حادث عسكري مأساوي آخر في أقصى شمال روسيا. إذ توفي خمسة علماء نوويين في تجربةٍ أجريت يوم الخميس الماضي 8 غشت يبدو أنَّها كانت تتضمَّن إطلاق صاروخ كروز يعمل بالطاقة النووية في موقعٍ لاختبار الصواريخ في البحر الأبيض.
وكالعادة، رد المسؤولون بالتكذيب وذِكر أنصاف الحقائق، تاركين المواطنين القلقين في جهلٍ تام بالحقيقة. وسرعان ما هرول سكان المدن القريبة من موقع الحادث إلى المتاجر المحلية لشراء اليود، الذي يستخدم لحماية الغدة الدرقية من آثار الإشعاع.
يقول كاريل: صحيحٌ أنَّ الميل الروسي التقليدي إلى إخفاء الحقيقة ما زال قائماً، لكنَّه اصطدم هذه المرة بقوةٍ أخرى قوية: وهي شبكات التواصل الاجتماعي. إذ إنَّ جيفري لويس، خبير الأسلحة النووية في معهد ميدلبري للدراسات الدولية في مونتيري، يعمل في فريقٍ يستخدم بيانات المصادر المفتوحة لمعرفة ما حدث في موقع الاختبار.
فعلى سبيل المثال، نشر أحد الأشخاص أسماء العلماء الروس الخمسة القتلى على تطبيق تيلغرام، أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي، بعد ساعاتٍ قليلة من وقوع الحادث. وبدأ لويس وزملاؤه فوراً في فحص الصفحات الشخصية لهؤلاء الرجال على شبكات التواصل الاجتماعي، وسرعان ما توصلوا إلى أنَّهم كانوا يعملون في منظمةٍ خاصة تُركِّز على تطوير مفاعلات نووية صغيرة.
وكان بعض الخبراء قد اكتشفوا بالفعل وجود سفينةٍ مصممة لنقل الوقود النووي بالقرب من موقع الاختبار، وهو تلميح آخر إلى وجود مفاعل نووي هناك. وبفحص بعض صور الأقمار الصناعية التي قدَّمتها بعض الشركات لأغراضٍ تجارية، اكتشفوا هياكل مشابهة لهياكل أخرى لاحظوها لأول مرة في موقع اختبار آخر في أرخبيل نوفايا زيمليا في القطب الشمالي.
ومن ثَمَّ، فوجود علماء نوويين ومفاعل نووي وتكنولوجيا صاروخية يُرجِّح بشدة أنَّ الحادث مرتبط بصاروخ كروز الذي يعمل بالطاقة النووية والذي أعلن عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابٍ أمام نواب البرلمان الروسي في مارس من العام الماضي. (جديرٌ بالذكر أنَّ هناك دليلاً آخر ظهر بعد وقتٍ قصير من وقوع الحادث: وهو صور على الإنترنت تُظهِر رجالاً يرتدون ملابس مخصصة للوقاية من المواد الخطرة وهم ينقلون الموتى والجرحى من موقع الاختبار إلى البر الرئيسي).
وشبَّه لويس الوضع الحالي بكارثة تشيرنوبل التي وقعت في عام 1986. إذ التزم السوفييت في البداية الصمت آنذاك بشأن الحادث حتى بعدما اكتشفت دول أوروبا الغربية مستويات إشعاع متزايدة في الغلاف الجوي. وبسبب رفض موسكو التعاون مع العالم الخارجي، استغرق فهم حجم ما حدث أسابيع. وأشار لويس إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ظلَّت تثرثر عدة أيام آنذاك عن الحادث بلا جدوى قبل أن تضع أحد أقمار التجسس القيِّمة في موقعٍ مناسب لالتقاط صورٍ لمفاعل تشيرنوبل المتضرر.
وقال لويس: «لم نعد نعيش في تلك الحقبة. فهذه المرة، انتشر الخبر على شبكات التواصل الاجتماعي فوراً». وحتى المسؤولون الروس شعروا بأنَّهم مضطرون إلى نشر بعض المعلومات عن الحادث في ظل تعرُّضهم لفضحٍ متزايد من المصادر المفتوحة. وفي الوقت نفسه، تمكَّن لويس وزملاؤه الأكاديميون من الحصول على صورٍ لموقع اختبار الصواريخ فور تمكنهم من معرفة موقعه التقريبي. وأضاف لويس: «أنا لست مسؤولاً في الحكومة. لكنني اتصلت بأصدقائي في شركة Planet Labs وقلت: لقد وقع هذا الانفجار. فهل يمكنكم التقاط صورة له؟».
جديرٌ بالذكر أنَّ الخبراء الأكاديميين الذين حلَّلوا حادث الانفجار الروسي الأخير يُمثِّلون جزءاً من حركةٍ جديدة ملحوظة لم توفَّ حقها حتى الآن. ويصفها البعض بأنَّها «استخبارات المصادر المفتوحة» أو «الاستخبارات العامة». وهي تضم بعض الجهات الأخرى مثل موقع Bellingcat، الذي استخدم خاصية تحديد الموقع الجغرافي وغيرها من المعلومات مفتوحة المصدر للكشف عن جرائم الحرب السورية المحتملة وهويات عملاء المخابرات الروسية، وموقع Datayo، الذي يهدف إلى تتبع بيانات الأسلحة النووية وتحليلها.
لقد رأينا مؤخراً أدلة كثيرة على أنَّ شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت كثيراً ما تؤدي دوراً رئيسياً في نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة. لكن من المشجع أن نرى أنَّ هناك تقنيات على الإنترنت ما زالت تساعد في كشف وشرح الأسرار التي يستحق العالم فهمها.