لماذا يخشى العلمانيون من خطبة الجمعة؟!
عادل العوني
هوية بريس – الخميس 11 فبراير 2016
إن أكثر ما يغيظ العلمانيين تلكم الشعائر الإسلامية الظاهرة؛ من رفع للأذان خمس مرات كل يوم، والصلوات الخمس، وشهر الصيام وما يتلى في لياليه من القرآن… ويشتد حنقهم على الخطب والدروس التي تعمر بها المساجد والمصليات في العيدين، وخاصة خطبة الجمعة التي يتكرر إقبال المسلمين عليها كل أسبوع تعبدا، فرضا لا نفلا، التي فرضت بالكتاب والسنة وإجماع العلماء قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، وعاب سبحانه المنشغلين عنها بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11].
ومن السنة ما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي الجعد الضمري رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: “من ترَكَ ثلاثَ جُمَع تهاونا بها طبَع الله على قلبه“. (حسنه الترمذي، وقال الألباني: حسن صحيح).
وعند مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَال: “لينتهين أَقوام عَن ودعهم الْجُمُعَات، أَو ليختمن الله على قُلُوبهم، ثمَّ لَيَكُونن من الغافلين“.
وهذا الفرض خرج منه أهل الأعذار ومن لا تجب عليهم كالصغير والمرأة… فقد أخرج أحمد وابن ماجه، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه“. (صححه الحاكم، والبوصري في المصباح، وحسنه الحافظ ابن حجر في التلخيص).
هذا اليوم عظيم خصت به الأمة المسلمة وصرف عنه اليهود والنصاري؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، هدانا الله له -قال: يوم الجمعة- فاليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى“.
فقد أعطت هذه الأمة المسلمة خير يوم طلعت عليه الشمس، بيان ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: “خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه الله إياه“. اللفظ للترمذي (صححه الترمذي والحاكم والألباني).
وقد عقد ابن القيم رحمه الله (ت751هـ) فصلا في زاد المعاد عد فيه ثلاثا وثلاثين خاصية من خصائص يوم الجمعة، وألف فيها السيوطي (ت911هـ) رسالة سماها: اللمعة في خصائص الجمعة.
وأعظم شيء في هذا اليوم صلاة الجمعة لما فيها من الخطبة والصلاة، حيث استحب لآتيها الاغتسال -على قول الجمهور- والتطيب، ولبس أحسن الثياب، والتبكير إلى المسجد، والتنفل حتى يدخل الإمام، والدنو منه، والاقبال عليه، وأمر فيها بالإنصات وترك اللغو، مع حضور للقلب، واستعداد لقبول تلكم المواعظ التي يحيي الله بها القلوب، ويجدد بها إيمان المؤمنين.
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن شرع خطبة الجمعة وجعلها -على قول الجماهير- شرطا لصحة صلاة الجمعة، على الاختلاف بين المذاهب في شرطية الخطبتين أم الخطبة الواحدة، ولكن الاتفاق على أن الهدي المستمر للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ومن بعدهم على سنية الالتزام بالخطبتين، وقد كان هديه صلى الله عليه وسلم فيها، ما رواه مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: “كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب: احْمَرَّتْ عيناه، وعلا صوتُه، واشتد غضبُه، حتى كأنه مُنْذِر جيش، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم..“، فمنذر الجيش هو من يحذر قومه من قدوم جيش عظيم ينزل بساحتهم صباحا أو مساء، فهذا هديه صلى الله عليه وسلم؛ كان يعظ ويذكر، تبشيرا بالجنة، وتحذيرا من النار، وكان على ذلك خلفاؤه من بعده صلى الله عليه وسلم…
وقد أقيمت الجمعة بالمدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو داود عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة، قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون([1]).. (حسنه ابن حجر والألباني).
وفي المعجم الكبير للطبراني عن أبي مسعود البدري قال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها يوم جمعهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم. وهذا الحديث في إسناده مقال، وقال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينه وبين حديث كعب بن مالك بأن أسعد كان آمرا ومصعبا كان إماما([2]).
إن إقامة الجمعة بالمدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بيان لأثرها في الدعوة، وفي المحافظة على عقيدة القلة القليلة التي أقبلت على الإسلام، وبتثبيت الإيمان في قلوبهم، إضافة إلى ما يتعلمونه فيها من شرائع الإسلام.
وفي السنة الأولى من هجرته صلى الله عليه وسلم خطب أول خطبة قيل: بالمسجد النبوي، وقيل: بمسجد قباء([3]).
بعد هذا العرض الموجز عن يوم الجمعة والخطبة فيها، نأتي على السؤال الرئيس في هذا المقال: لماذا يخشى العلمانيون من خطبة الجمعة؟
هنا لابد أن أعرج على مسألة غاية في الأهمية، وهي حسب إحصائيات سنة 2014 لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن عدد المساجد التي تؤدى فيها خطب الجمعة بلغ عشرين ألفا (20.000) هذا المحصي منها فقط، وأما عموم المساجد فكان إلى حدود الإحصاء خمسون ألفا (50.000).
فإذا قدرنا فقط ألف مصلي لكل مسجد جمعة سيصل عدد المصلين إلى ما يزيد على مليوني مصلي، بمعنى يحضر هذا العدد الكبير كل يوم جمعة وهو في تزايد بأمر رباني يؤمر فيه بهجر الأموال والأعمال وكل الأشغال، واقتطاع هذا الوقت من أجل شهود هذه العبادة التي يثاب عليها ويؤجر، وتكفر عنه سيئاته، وتحط خطاياه، وترفع من درجاته.
إقبال على عبادة هذا شأنها وهذه منزلتها لاشك أنه سيترك أثرا بليغا في قلب المؤمن، خصوصا أنها أسبوعية دورية لا تنقطع، في كل جمعة يخرج المصلي بزاد إيماني يتبلغ به الجمعة المقبلة، وتبقى منه بقية تنضاف إلى غيرها، فينتقل بها من صلاح لأصلح، وهكذا يعرج شيئا فشيئا في منازل الإيمان، بل ويرجع واعظ الله في أسرته وحيه ومجتمعه..
خاصة إذا كان الخطيب عالما مفوها، يهز أعواد المنابر، ويحسن اختيار المواضيع، عاملا بعلمه، حسن السيرة في محيطه، يعد خطبته الإعداد العلمي والإلقائي، ولا ينسى نصيبه من الإعداد الروحي الإيمان، حتى إذا خرج على المصلين، قالوا: جاءنا رجل من الآخرة، لكأنه فتح له الحجاب فاطلع على أهل الجنة وهم يتنعمون فيها، وعلى أهل النار وهم يعذبون فيها -عياذا بالله-.
خطيب هذا حاله وديدنه، يشد إليه القلوب والأسماع، وتنزل مواعظه بلسما على الجراح، يحبه رواد مسجده، يلتفون حوله يرجعون إليه في كل كبيرة وصغيرة، يفرغون عليه همومهم، ويشاركهم أفراحهم…. فمن أين للعلمانيين بمثل هذه المنزلة؟ وسوق منتدياتهم كاسدة، وسلعتهم بائرة قد علاها الذباب، يروجون لنحلتهم عبر الفسق والمجون، لا عن طريق الرأي والفكر والقناعات…
هذا سر من أسرار خشية العلمانيين من منابر الجمع، لما يتبوَّؤه الخطيب -الذي أسلفت الحديث عن حاله- من منزلة سامقة في محيطه، فينسخ كل ما يقذفونه عبر وسائل الإعلام والمهرجانات وووو.
خطيب الجمعة النبيه متتبع لما يروج في مجتمعه، كلما ألقيت شبهة قذفها بشهب من النصوص الشرعية، مبرزا حكمها وعللها ومقاصدها، موضحا وجه الخلل في الشبهة، مجليا آثارها السلبية على الفرد والمجتمع، يفضح كل المخططات الشيطانية، بأسلوب شرعي في جو إيماني تحوطه الملائكة، وتكلؤه العناية الربانية، مثل ما أثير حول مسألة الإجهاض، وما أثير ويثار حول مسألة المساواة في الإرث…
خطيب الجمعة النبيه يتتبع مكامن الخلل في تدين المجتمع، يبين أسبابه، ويحذر من آثاره، ويرشد إلى وسائل علاجه…
لهذا نرى العلمانيين يتتبعون كل خطيب بلغ تلكم المنزلة، يشوشون عليه، يوشون به، ويا ليته كان في الحق -وأنى لهم ابتغاءه- ولكن عن طريق تحوير الكلام وتغييره، وبتره من سياقه، وتنقيرهم عن النيات، مسخرين للوصول إلى هذه الغاية كل ما أوتوه من نفوذ ووسائل الإعلام.
وإذا أجلْنا النظر في الموقوفين نراهم من أهل السنة الغيورين المعروفين بعلمهم ووسطيتهم، مجانبين للطرقية المحدثة، دعاة إلى التوحيد، ناقمين على مظاهر الشرك والتفسق في المجتمع، منتقدين لمنهج إحياء الأضرحة والمواسم الشركية. ولم يشفع لهم تشبثهم بالبيعة لأمير المؤمنين، والدعوة إلى الوحدة الترابية.
ختاما ليس عبثا أن فرضت خطبة الجمعة، وفضل يومها تفضيلا، وليس عبثا أن كانت سهما يصيب العلمانيين في مقتل…
وإليكم هذا الحدث الذي وقع في تاريخنا الإسلامي بجزيرة صقلية، تبرز لك إحساس أعداء الإسلام بمنزلة خطبة الجمعة، وقيمتها في تثبيت الإسلام بأصوله وفروعه في قلوب المسلمين:
جزيرة صقلية سقطت في أيدي النصارى سنة 484هـ في عهد ملكهم رجار، بعد أن كانت تحت أيدي المسلمين([4]). يقول ابن جبير وهو يتحدث عن عاصمة صقلية: “وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإيمان يعمرون أكثر مساجدهم، ويقيمون الصلاة بآذان مسموع… ولا جمعة لهم؛ بسبب الخطبة المحظورة عليهم“([5]).
أين الإسلام الآن بصقلية؟ خطة ماكرة، فمنع هذه الشعيرة إيذان بالانتكاسة وطمس لمعالم الدين، ومادام العلمانيون لا يستطعون إلى ذلك سبيلا، فهم يحاولون التخفيف من وطأتها عليهم عن طريق تكميم أفواه الخطباء، وفرض الرقابة والحسبة العلمانية على العلماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هزم النبيت.. نقيع الخضمات: موضع على ميل من المدينة.
[4] ينظر: نهاية الأرب (24/381 ـ 383)، وتاريخ الإسلام (10/473).