لهذه الأسباب أقف ضد توحيد خطبة الجمعة
هوية بريس – شريف السليماني
اذكر ان اول خطبة القيتها في مشواري كخطيب كانت بأحد قصور تافيلالت (مسقط رأسي) وبالضبط في قصر اسمه “تامسكانت” وكان ذلك سنة 1992.
لا زلت اذكر موضوع الخطبة وسبب اختيار ذلك الموضوع بالضبط ولا زلت اذكر حتى بعض ردود الأفعال على تلك الخطبة. ومن بينها ما نصحني به احد الشيوخ بقوله: “تحاول شوية”.
كنت حينها في التاسعة عشر من عمري، ومع صغر سني وانعدام تجربتي في مجال الخطابة إلا أنني لم استسغ نقل خطبة شخص آخر كما كانت عادة الكثير من الخطباء في المنطقة.
كانت الخطبة كلها من تأليفي، ما عدى النصوص من الكتاب والسنة أو أقوال بعض السلف في دعم الموضوع الذي اخترته.
منذ ذلك الحين وأنا اخطب الجمعة ومنذ ذلك الحين لم انقل خطبة شخص آخر، بالطبع قد استفيد مما يكتبه الآخرون ولكن، في نطاق محدود جدا. انا الذي اختار الموضوع حسب حاجات الناس وانا الذي احدد الرسائل والأفكار التي اريد إيصالها من خلال الخطبة وإذا وقعت على فكرة أو جملة أو فقرة اقتنعت انها تفيد في بلوغ غايتي من الخطبة فمن الطبيعي أن استفيد منها.
لكن. أن انقل خطبة كاملة نقلا حرفيا فهذا ما لم يحدث معي قط خلال مشواري كله.
ليس هذا استعلاء ولا غرورا أبدا. ولكنه شيء من الصدق وتحمل المسؤولية والرغبة في إتقان العمل. لأن قناعتي أن كل جماعة تختلف عن الجماعة الاخرى فيما يخص مواضيع الخطب التي تلامس واقعها ومستوى هذه الخطب وطريقة إلقائها.
بالإضافة إلى هذا، فالخطيب في نظري مثل الطبيب الذي يشخص المرض ثم يقترح الدواء والجرع المناسبة بناء على التشخيص الذي قام به.
وحينها تكون كل انفعالاته أثناء الخطبة صادقة ومنطقية لأنه يصف دواء من اقتراحه لأمراض من تشخيصه، فهو الذي اختار موضوع الخطبة بتفاصيله وهو الذي اختار الألفاظ والعبارات التي يعبر من خلالها عن مشاعره.
لكن، عندما تكون الخطبة من تأليف شخص آخر وتقوم انت بمجرد الإلقاء. فكيف تتفاعل مع الفاظها وكيف تكون تلك الألفاظ معبرة بصدق عن مشاعرك ولست انت من صاغها؟
فهنا، إما أن تلقي الخطبة ببرودة تامة باعتبارك مجرد قارئ أو ناقل لكلام الغير. بما في هذا الإلقاء البارد من تأثير سلبي على المتلقين الذين سيشعرون بالملل وربما غطوا أثناء الخطبة في نوم عميق.
أو أن تحاول التفاعل مع الخطبة حتى وإن لم تكن من تأليفك وهذا فيه تكلف وتمثيل لا يليق بمنبر الجمعة ولا بمعتليه.
بل اقول: إن أقرب حال إلى حال من يتفاعل مع خطبة أعدها غيره هو حال تلك النائحة التي تكلم عنها العرب قديماً عندما قالوا: “إن النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة”. أما النائحة الثكلى فهي المرأة التي فقدت عزيزاً عليها، والتي تظل تبكيه وتذرف الدمع عليه عن صدق في الألم وعن معاناة في الوجع (وهذا حال الخطيب الذي يعد خطبته بنفسه). وأما النائحة المستأجرة فهي المرأة التي يأتون بها لتبكي فقيداً لا تعرفه، ولم يحدث أن رأته في حياتها، ولا يكون مطلوباً منها سوى أن تظل تصرخ عليه وتلطم خديها وتعدد محاسنه، وهي تفعل ذلك بكل حيلة ممكنة، وتتقاضى أجرها في آخر النهار، وتنصرف! (وهذا حال من يتفاعل مع خطبة أعدها غيره).
وتأثير النائحة المستأجرة في الناس لا يبلغ معشار تأثير النائحة الثكلى. لأن المخاطبين (بفتح الطاء) يميزون بين مشاعر الخطيب الصادقة والمفتعلة.
طبعا، هناك مستفيدون من توحيد الخطبة وعلى رأسهم تلك الفئة من الخطباء الكسالى وضعاف المستوى الذين كانوا يحسون بالحرج وربما بالحسد لما يرونه من إقبال الناس على المساجد التي يؤمها خطباء مميزون وإدبارهم عن مساجد هؤلاء الخطباء المملين. هذه الفئة سترتاح لهذا القرار لأن الناس لن يبحثوا بعد عن مساجد أخرى من أجل خطب افضل لان الخطب كلها أصبحت خطبة واحدة!
خلاصة القول:
إن توحيد الخطبة إماتة لروح المنبر وتثبيط للخطباء المبدعين والمجتهدين. بل إنه قتل لهم إذ لم يعودوا بفعل هذا الإجراء خطباء اصلا وإنما اصبحوا مجرد قراء وناقلين.
واقولها بكل صدق: لو فرض علي الأمر في المسجد الذي أخطب فيه لاعتزلت الخطابة.
نعم، قد يكون هناك خطباء دون المستوى وآخرون ربما يتجاوزون المسموح به شرعا وعرفا وقانونا، وكل هذه الخروقات والاختلالات يمكن معالجتها بتكون الخطباء المستمر وتوعيتهم…اما توحيد الخطبة فهو في نظري مشكل وليس حلا ابدا، نعم قد يكون لإجراء الأسهل بالنسبة للجهات الوصية ولكنه بالتأكيد ليس الانفع بالنسبة لزوار المساجد.