“لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”.. حدود الاستدلال وسوء التنزيل في الخلاف داخل الإسلام

30 ديسمبر 2025 22:11

هوية بريس – د.رشيد بن كيران

“لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”.. حدود الاستدلال وسوء التنزيل في الخلاف داخل الإسلام

◆ كثيرا ما يستدعى قول الله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ في غير موضعه، ويُنزَّل على غير محله، حتى صار عند بعض المختلفين شعارا لإغلاق باب البيان أو الإنكار العلمي، أو ذريعة لتبرير المخالفة الشرعية داخل الإسلام، لا سيما في مسائل مقطوع الحكم فيها، كالدعاء للرحمة والمغفرة لمن مات كافرا مثلا، أو المشاركة في أعياد غير المسلمين، وغيرهما من المسائل التي اتفق علماء المسلمين على عدم مشروعيتها. وهذا المسلك وإن بدا في ظاهره متسامحا إلا أنه في ميزان الأصول مسلك مضطرب، وفي ميزان الفهم القرآني تنزيل فاسد.

◆ فالآية الكريمة ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ واردة في سورة الكافرون، وهي سورة نزلت في سياقٍ عقديّ محض، حين عرض المشركون على النبي ﷺ صيغة من صيغ التنازل والمساومة؛ يعبد آلهتهم عاما ويعبدون إلهه عاما…

فجاء الجواب القرآني قاطعا حاسما، لا الالتباس فيه ولا مهادنة؛ نفي مطلق للتداخل العقدي، وإعلان مفاصلة بين دينين لا يلتقيان.

◆ ومن هنا كانت هذه السورة عند أهل العلم سورة براءة ومفاصلة، لا سورة تسامح بالمعنى الرائج اليوم.

ولهذا المعنى بالذات، جاء تفسير الإمام البخاري، وهو من أدق الناس فهما لدلالات النص الشرعي حين قال في صحيحه في كتاب التفسير، باب: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾: “يُقال: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ الكفر، ﴿وَلِيَ دِينِ﴾ الإسلام”.

◆ وهذا التفسير وإن ورد في ترجمة الباب لا في متن حديث إلا أنه اختيار صريح من إمام جليل، يقطع الطريق على كل محاولة لجعل الآية قابلة للتوظيف داخل الخلاف الإسلامي، أو لجعلها مظلة للتعدد الديني داخل الدين الواحد.

◆ وبناء عليه، فإن استعمال هذه الآية في مخاطبة مسلم لمسلم آخر يخالفه في حكم شرعي، هو خطأ من جهات متعددة؛

▪︎ أولها: خطأ في فهم محل الخطاب، إذ الخطاب موجه إلى الكفار لا إلى المؤمنين.

▪︎ وثانيها: خطأ في تصور طبيعة الخلاف، لأن الخلاف بين المسلمين، إن وجد، فمحله الاجتهاد في الظنيات، لا القطعيات ولا الشعائر الدينية المميزة للأديان.

▪︎ وثالثها: خطأ في لوازم القول، لأن قول المسلم لأخيه: “لك دينك ولي ديني” إما أن يتضمن إخراجه من الإسلام ضمنا، أو الإقرار بتعدد الأديان داخل الإسلام، وكلاهما باطل.

◆ ومن هنا يبرز الفرق الأصولي المهم بين الخلاف السائغ والخلاف غير السائغ. فالخلاف السائغ هو ما كان في مسائل الاجتهاد التي تحتملها الأدلة، وتتنوع فيها الأنظار، دون مصادمة لنص صريح أو أصل قطعي.

أما الخلاف غير السائغ، فهو ما كان في المسائل التي قام عليها الدليل الصحيح الصريح، أو تعلقت بشعائر الأديان وخصائصها، فهذا لا يقر فيه الخلاف، ولا يسوغ فيه التعدد، بل يبين فيه الحق ويرد الباطل، مع مراعاة ضوابط النصيحة والإنكار.

◆ ومسألة المشاركة في الأعياد الدينية لغير المسلمين مثلا من هذا الباب؛ إذ هي متعلقة بشعائر عقدية، لا بمجرد عادات دنيوية، وقد نص جماهير أهل العلم على منعها، لما فيها من الإقرار، أو المشاركة، أو التشبه، وكلها معان لها وزنها في ميزان الشرع. فليس من المنهج العلمي، ولا من الأمانة الشرعية، أن تُحوَّل هذه المسألة إلى “حرية رأي”، ثم يستدعى لها نص قرآني نزل أصلا للفصل بين الإسلام والكفر.

◆ إن الخلل الحقيقي في هذا الباب ليس في وجود الخلاف فحسب، بل في تذويب الحدود بين داخل الإسلام وخارجه، وفي تحويل آيات المفاصلة إلى وسيلة إسكات أو تبرير، بدل أن تكون منارات هداية. فالقرآن لا يستعمل لتبرير الواقع، بل الواقع يوزن بالقرآن.

◆ وختاما إن آية الكريمة ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ آية فاصلة بين دينين، لا رخصة لتعدد المناهج داخل الدين الواحد، ولا ذريعة لتعليق البيان الشرعي. ومن أراد الاحتجاج بالقرآن، فليضع كل آية في موضعها، وليحفظ للنص قدسيته، وللدين وحدته، وللخلاف حدوده.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
12°
18°
الأربعاء
20°
الخميس
20°
الجمعة
17°
السبت

كاريكاتير

حديث الصورة