مؤسسة الزكاة.. مشروع الشريعة للتنمية المستدامة
هوية بريس – طارق الحمودي
هل الزكاة قضية اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية؟
سؤال يبدو غريبا عند كثير من الناس، لأنه يعد في غير محله عندهم، فالزكاة مسألة دينية لا علاقة لها بهذه القضايا الإنسانية، وهذا التصور مبني على نظرية فصل الشريعة عن الإنسان،وهي من أكبر انحرافات الفكر الإنساني، فالزكاة جزء من الخطاب التشريعي الإصلاحي الذي أرسل الله به رسله ودعا إليه الأنبياء، وبعدهم اتباعهم، وقد جعلها الله قرينة الصلاة في كثير من الآيات، وتأكد عند العلماء أنها واحدة من الركائز الكبرى التي تقوم عليها الدولة في الإسلام،فالدولة هي المؤسسة الوكيلة بتصريف منافع الشعب، ودفع كل ضرر عنه لتأمين حاجياته، وتوفير الظروف المناسبة لتعظيم الله بالعبادة والقربات، وصناعة العمران، وبناء الحضارات، لتحقيق الاستخلاف الرباني في الأرض.
الزكاة..في المشروع السياسي
لعل من أكبر مشاكلنا اليوم أن حكوماتنا تنظر إلى المسألة الاقتصادية من غير جهة التحقيق في الأصول الصحيحة والمقاصد النافعة، فعوض أن تكون لنا “سياسة اقتصادية”، مال سياسيونا إلى “الاقتصاد السياسي”، فصارت كل حكومة على غير ما تجري عليه أختها، بين ليبيرالية واشتراكية وعلمانية وخليطية من هذا وذاك،وكأنه لا اقتصاد إلا ما كان على أساس المذهب السياسي، ولو كان المذهب باطلا.
يقوم الاقتصاد الزكوي على قاعدة ذهبية انحرفت عنها كل المدارس السياسية في العالم، وهي قاعدة مفردة غير مركبة ولا معقدة، وهي: أخذ نصيب واجب من الأغنياء وصرفه للفقراء بطريق المباشرة، باعتباره حقا وعدلا لا تفضلا، وقد كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعامله على اليمن صريحة في هذا إذ قال له: «..تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم…» وهي عبارة نبوية واضحة وثقيلة، ثقيلة في عمقها السياسي لأنها تقتضي وجود قائم بهذا “الأخذ” و”الرد” له من القوة والأمانة ما يقيم هذا الواجب ويحققه بعدل وإنصاف، وثم مفاهيم كثيرة مرتبطة بهذه الوكالة السياسية مثل “بيت المال” و”العاملون عليها” مع التنبيه على أن العبارة النبوية احتوت على أصول “الجهوية”،وقد نبه فقهاؤنا عليها قديما!!
حينما تصير عملية “الأخذ والرد” مسؤولية الدولة، يكون من الواجب عليها استعمال كل وسائلها لضمان استجابة الأغنياء للـ”الأخذ”، وإن آل الأمر إلى استعمال القوة، لأنها عملية “إعطاء للحقوق”، وهي من “حقوق الإنسان” التي لم ينص عليها إعلان عالمي ولا دستور ولا قانون،وهو حق حري بأن يكون الأولى في كل النصوص الحقوقية،ولذلك لا يستغرب من قيام الخليفة الراشد العادل أبي بكر الصديق على مانعي الزكاة بالسيف، لأنه الوكيل عن الفقراء،والقائم بأمورهم، فلا تفريق بين الصلاة والزكاة.
قوانين منظمة ومساطر إجرائية
أصاب “الزكاة” ما أصاب كثيرا من العبادات والشرائع الإسلامية الربانية من إعراض للناس عنها، وفتور في النظر وتضييع لحدودها ومقاصدها،ولذلك لم نر تطورا لفقه الزكاة ولا توسعا في نظرياتها التطبيقية، ولو بقيت الزكاة كما بقي الحج لآل الأمر إلى تطوير كبير في عمليتي”الأخذ” و”الرد”، ولصارت الزكاة جزءا من التدبير السياسي للدولة،ولكانت عندنا مؤسسات تقوم على جمعها وحسابها، والائتمان عليها والحفاظ عليها، وتنميتها ثم توزيعها،ولاحتاجذلك إلى إدارة وموظفين “عاملين عليها”، و”قوانين” منظمة وجنائية،ولاحتجنا إلى قانون للإجراءات أثناء عمليتي الدفع والأخذ، وقد استطاع الفقه الإسلامي تطوير “فقه الزكاة” الاجتماعي والسياسي إلى مستوى مقبول، يمكن البدء منه،والذي ينظر في “كتاب الزكاة” ليوسف القرضاوي يعي جيدا أنه من الممكن إنشاء مؤسسة وطنية قائمة على تصريف الزكاة وتحقيق مقاصدها.
مؤسسات الزكاة
تحتاج الدولة إلى مؤسسات “إدارة” و”محاسبة” و”تخطيط” لإنشاء مشورع الزكاة الكبير، وسيكون عليها مراعاة الخطوط العريضة لذلك ومنها:
– ضبط أسماء الأغنياء وأنواع ثرواتهم.
– ضبط الأصناف الثمانية المستحقة للزكاة وترتيبها بقوانين للأوليات والحاجات.
– إنشاء “مكاتب” جهوية ومحلية لمتابعة القوائم الخاصة بكل الفئات المعنية بالزكاة.
– إنشاء “محميات” لتجميع رؤوس الجمال والأبقار والأغنام والماعز لتربيتها وتنميتها، وصرف فوائدها للفقراء، ووضع برامج خاصة لذلك وتوسيع المحميات والمزارع إن اقتضى الأمر باستعمال أموال الزكاة لشراء الأراضي والأعلاف، ثم وضع إجراءات لتوزيع اللحوم والألبان على المستحقين من الفقراء.
– إنشاء مخازن للحبوب الزكوية وتوفير المطحونات لمن يطلبها من مستحقيها من الفقراء.
– إنشاء لجان دراسة وتخطيط تكون مهمتها وضع برامج تطوير واستثمار أموال الزكاة لتناسب الصورة الجديدة للأصناف الثمانية مثل إنشاء “مجمعات سكنية” خاصة بالأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة والمعوزين، وإنشاء مكاتب لاستقبال حالات عابري السبيل ممن تقطعت بهم السبل في غير مدنهم وتوفير السكن المؤقت قبل الترحيل وبناء مستشفيات “زكوية” خاصة بالفقراء للاستفاء بالمجان وإنشاء شراكات بين الوزارات المعنية والمؤسسات الزكوية وهكذا.
– إدماج فقه الزكاة في الدراسات الاقتصادية ومقررات الجامعات لضمان التطوير وتوفير جو الإبداع.
الزكاة بلا ضرائب
يحلو لبعض الناس التعليق على الدعوة إلى إعادة تطبيق فقه الزكاة بقوله: الأمور بالمقاصد، وقد تطورت الزكاة إلى “الضرائب”، وهذه مغالطة قبيحة، وبيانها مجملا أن يقال: أهم فرق بينهما أن الضرائب تؤخذ من الغني والفقير لتأخذها الدولة لنفسها، وتصرفها في غير مصارف الزكاة، وربما في أمور لا يستفيد منها إلا الغني! أما الزكاة فهي تؤخذ من الغني فقط، لتعطى للفقير،ولا تكون الدولة إلا وسيطا كفيلا بينهما، داخلة في قوله تعالى “والعاملين عليها” فقط،ولعل هذا الفارق هو أهم فارق مميز بينهما يسقط دعوى المدعي بأنها تقوم مقامها.
الشريعة..بين الزكاة حدود السرقة
حينما تقول لبعض الناس: نحن ندعو إلى تطبيق الشريعة، يبادرك بقوله: إذن تريدون قطع الأيادي؟ وهذه مغالطة قبيحة،فإن إقامة الشريعة ليست عندنا في إقامة الحدود فقط بل تبدأ بإعطاء الحقوق أولا، والزكاة مصداق ذلك،والنظر إلى الشريعة لا يكون بطريقة الاجتزاء بل الشمولية، فالزكاة والحدود عند التحقيق مشروع واحد متكامل الأجزاء،ولو طبقت الحدود القرآنية والنبوية لما وجدنا أنفسنا أمام مشكلة “العود” كما يسميها السياسيون والقانونيون،وتعني عندهم “عودة المجرم إلى ارتكاب الجريمة بعد العقوبة الوضعية”،ولما وجدنا فقيرا يطلب،ولا مظلوما يشكو،ولتحققت العدالة الاجتماعية، بل سيصل الأمر إلى إقامة السلم الاجتماعي، وستجد الفقير يدعو للغني، لأنه كلما ازداد غناه ازدادت زكاته، ولأنه لا يمنعه حقه في ماله، ومع الوقت ترتفع الفوارق الشاذة،وتعود الأمور إلى أصولها في التمايز الطبيعي بين الناس في الأخذ بأسباب الكسب.
ما الذي نحتاج إليه؟
قد بان بهذا فضل الزكاة،وظهر للقارئ العمق الإصلاحي والتنموي فيها، فما الذي نحتاجه لهذا؟
الجواب واضح لكنه ثقيل على نفوس كثير من الناس، وهو: نحتاج إلى إرادة سياسية، ومؤهلات إدارية ومصالحة مع الذات التاريخية والعدوة إلى ديننا ومراجعة تراثنا وبث روح الاجتهاد في علمائنا والتحول من العمل الفردي إلى المؤسساتي لضمان المطابقة والأمانة، كما نحتاج إلى زوال الموانع الدولية، والتخلص من عبء الديون الخارجية، وإلى ذلك الحين،نحتاج إلى بث الوعي في النفوس،وتصحيح المفاهيم،والصدق في نقد الذات،وقبل كل ذلك،إلى إصلاح ما بيننا وبين الله تعالى،والله المستعان.