ماذا خسر المغاربة بإغلاق المساجد
هوية بريس – امحمد رحماني
ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة من الأصوات التي لم نكن نسمع لها همسا ولا نرى لها رسما قبل جائحة كورونا –رفعها الله عنا عما قريب- لتعرب عن رأيها في عدم جدوى وجود المساجد بالمملكة المغربية الشريفة، فقد دل الحجر الصحي الذي فرضته السلطات العمومية على أن إغلاق المساجد كفتحها فليس هناك أدنى فارق بين الأمرين بل إن فتحها كان مُكَلِّفاً على ميزانية الأوقاف التي تنفق على تسيير المساجد وقَيِّمِيهَا الكثير، فها هي المساجد اليوم أغلقت ولم يتغير أي شيء في المجتمع المغربي فلا زال المغاربة يصلون في بيوتهم كما كانوا يصلون في مساجدهم بل زاد حماسهم الديني فأصبحوا يستفتون في حكم الاقتداء بالتلفاز في صلاة التراويح وهم في بيوتهم، فبهذا الاعتبار لم يخسر المغاربة شيئا بل ربحوا وربحت الدولة معهم من جراء ذلك، خصوصا ما يخص ربح نفقات الماء والكهرباء في هذه الظرفية. وبمقابل ذلك فقد خسر المغاربة كثيرا بإغلاق المقاهي والملاهي فقد كانت تذر أرباحا كبيرة وتشغل قطاعا واسعا من المواطنين إضافة إلى ما كانت تقدمه من خدمات غير مباشرة للرجل والمرأة على حد سواء، فهي متنفس للرجل يفرغ فيها مشاكله مع الأصحاب، وللمرأة بالارتياح من شغب الزوج وكثرة نقيقه ونقيره.
هذا ملخص كلام أصبح يروج اليوم قرأته في بعض المواقع، وهو كلام يدل على أن صاحبه لا علاقة له بالمساجد لا بناء ولا تعميرا ولا إنفاقا ولا فهما لوظيفتها، اللهم إلا أن تكون علاقته بها كرها لها وامتعاضا من وجودها، إن صح أن تكون هذه علاقة، مع أن العلاقة ما شملت التعلق والتقارب والالصاق لا ما كانت تعبيرا عن بغض وكره وابتعاد فالكلام دليل على جهل كبير وخطير بوظيفة المساجد وما تقدمه من خدمات مباشرة وغير مباشرة لعموم الناس مسلمهم وغير مسلمهم، قد يحس الناس بهذه الخدمات وقد يتغافلون عنها، ولعجيب أمر خدمات المساجد أنها لا تنحصر آثارها على عمارها بل تتعداهم إلى من لا يعمرها بل إلى من يتهجم عليها كصاحبنا الذي بدأت بملخص كلامه، وسنبين ذلك في ثنايا هذا المقال.
ومن أجل تنبيه صاحب الكلام وتذكيره والناس كذلك من ورائه أقول:
إن للمساجد وظيفة عظيمة جدا تفوق جميع مؤسسات الدولة كلها، وقد يستغرب الكثير من كلامي هذا لأنه قد يستغفله ما يروج عن المساجد وأنْ لا فرق بين فتحها وإغلاقها فالمغاربة لا زالوا يصلون، ولكنني أقول للقارئ اصبر علي وأكمل قراءة المقال، فمع أن المسجد قد أخرجت منه العديد من الوظائف التي كان يقوم بها بادئ قيام الدولة الإسلامية إلا أنه مع ذلك لا زال يؤدي كثيرا من الوظائف والأدوار التي لن تستطيع أية مؤسسة كيفما كانت أن تقوم بعشرها على أن تقوم بها كاملة.
لقد كان المسجد أول مكان يشيده رسول الله صلى الله عليه وسلم إبان هجرته إلى المدينة المنورة حيث بنى أول مسجد بمنطقة رانوناء فصلى فيه صلاة الجمعة ثم دخل قباء فبنى المسجد الثاني ثم دخل المدينة فبنى المسجد الثالث وهو المسجد النبوي الذي يظن الكثير أنه أول مسجد بني في الإسلام مع أنه ثالث مسجد يبنى، وهنا يطرح المسلم سؤالا على نفسه: ما الداعي الذي يجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا زال في هجرته لم ينزل من سفره ليرتاح ويقيم دولته، يبادر لإقامة المساجد في أي بقعة نزل بها؟
ثم ما الداعي له لبنائها أولا بعد أن استقر به الحال؟
ألم يكن إنشاء جيش يحميه ويحمي أصحابه ودعوته أسبق من بناء المسجد؟
ألم يكن بناء مستشفى يعالج فيه أصحابه الذين أصيبوا بالعدوى والحمى أسبق من بناء المسجد؟
ألم يكن بناء دُورٍ تأوي المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم أسبق من بناء المسجد؟
ثم بعد بنائه لهذه المساجد يعاملها معاملة خاصة، فلا يقبل غياب أحد عنها ولو كان من أصحاب الأعذار التي تُقْبَلُ وَتُرَاعَى في المؤسسات الأخرى، فلا يقبل من أعمى الانتماء للجيش ولا القيام بفعل من الأفعال الموجبة للمتابعة والدِلالة، ولا يُقبل في مؤسسات أخرى من تعدى عمرا معينا أو لم يبلغه، بينما مؤسسة المسجد لا تقبل غياب الأعمى لضرره ولا الأعرج لعرجه ولا ذا الحاجة لحاجته، وترحب بالصغير والكبير، القاصر والبالغ فالكل مدعو للاتجاه للمسجد مهما كانت حالته ولا يقبل منه تخلف ولا انتكاس إلا في الضرورة القصوى التي يقدرها الشرع لا الإنسان، وقوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا الأئمة “من صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة” مفاده أن هؤلاء مع ما وصفهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأعذار إلا أنهم حاضرون في المسجد.
فما الداعي لهذا دون غيره من المؤسسات ؟ ثم يزيدها الشرع تخصيصا فيجعلها بيوتا للرحمن خاصة ويرفع عُمَّارَها لدرجة الضيوف والأهل ويُرَتِّبُ على بنائها أجرا من جنسها فيبني لمن بناها أو ساهم في بنائها بيتا في الجنة.
ألم تكن المستشفيات مثلا أولى بهذا الاختصاص ففيها تنقد أرواح الناس؟ ألم تكن المعامل أولى بهذا الاختصاص ففيها يجد الناس أرزاقهم؟
لكن المساجد أمر خاص جدا، ومن عجيب أمرها أن خصوصيتها تكمن في عموميتها فهي المؤسسة الوحيدة التي تقبل الجميع، فيدخل إليها العامي والجاهل والعالم والطبيب والجندي والأمير والحقير، بل الأعجب من ذلك أنها تساوي الكل بالكل، فلا فرق بين الناس ولا اعتبار للباس ولا لمال ولا لرتبة ولا لوظيفة، الكل سواسية كأسنان المشط، أحديتهم مرفوفة بعضها عند بعض ومناكبهم متراتبة بينهم وكواعبهم ملصقة عند بعضهم، فيلتقي الفقير الكادح بالطبيب الجراح عند الصف بعد أن كان يبلغ به الجهد والمشقة ليراه دقيقة أو نصف دقيقة في عيادته، هذا إن كان للفقير مال يمكنه من ذلك، ويلتقي الطالب الباحث بالعالم الجليل فيأخذ من سمته وأدبه وأخلاقه، ويلتقي العامل الوضيع برب عمله الجليل جنبا إلى جنب بعد أن كان يشم رائحته ولا يرى صورته في المعمل والشركة ويحتاج طلبا وصورة ليراه ويقابله.
فهل رأيتم جاهلا يدخل كلية طب؟ فلا يدخلها إلا الأطباء وأشباههم
وهل رأيتم رجلا عاديا يلج كلية عسكر؟ فلا يدخلها إلا الضباط ورؤساؤهم
بعد كل هذا نظن أن المسلمين لم يخسروا شيئا من إغلاق المساجد؟
لنجيب عن هذا السؤال المطروح في العنوان: ماذا خسر المغاربة بإغلاق المساجد؟
دعونا نستعرض وظائف المسجد التي كان يؤديها قبل الإغلاق لنعرف هل خسر المغاربة جراء الإغلاق شيئا أم لم يخسروه.
إن للمسجد وظائف كثيرة استحضرت منها متأملا وأنا أكتب هذا المقال الوظائفَ التالية:
الوظيفة البنائية:
وهي أعظم وظيفة يقوم بها المسجد تجاه الإنسان بحيث أنه يبنيه بناء صحيحا لا اعوجاج فيه ولا خلل، ويجعله مؤهلا للعمل في المؤسسات الأخرى، التي أصبحت اليوم تبحث عن الموظف النزيه والمسؤول المتفاني والعامل المتقن والناصح الصادق حتى أنها أصبحت تسن قوانين زجرية بموازاة تحفيزات تشجيعية، وفي كثير من الحالات يقع الخلل في العمل ويتم التدليس والغش والخداع، لأن المؤسسات لا تبني الإنسان بل تستفيد من خدمات الإنسان بمقابل مادي تقدمه له نهاية كل شهر، أما مؤسسة المسجد فهي مؤسسة بنائية لجميع أطياف المجتمع خصوصا القطاع غير المهيكل الذي لا تصله البرامج والمشاريع التنموية والتربوية بشكل سريع ومنظم، لكن المسجد، في قلب الحي العشوائي وقلعة من قلاع التربية والتكوين والتأسيس في الصفوف الأولى، وهنا تظهر حكمة مولانا أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله فلا يكاد يزور منطقة إلا ويبني بها مسجدا لعلمه بما يناط بهذا المسجد من وظائف وأعمال.
وحينما أغلق المسجد لهذه الظروف الطارئة ظهر أثر ذلك في تصرفات المواطنين الذين لا زالوا يتعاملون مع الأوضاع الحالية بعبثية وفوضوية ولا مبالاة كالخروج لغير ضرورة أو التكدس في محلات البقالة والخضروات، والسلطات تعبت في تنبيه المواطنين بعدم الخروج ولكن المواطنين يقابلون خطابها بالحيل والدوران حتى أصبحت السلطات في بعض الأحياء الهامشية تستعين بالدعاة والوعاظ لتنبيه الناس لخطورة الوضع كما رأينا في كثير من المقاطع، فما الذي يجعل الدولة في هذه الآونة بحاجة ماسة لهؤلاء الأشخاص؟
والدراسات الاجتماعية المتناسلة بكثرة خلال السنوات الأخيرة أكدت في كثير منها على أهمية وجود المسجد في الأحياء الشعبية وما قام به من تأثير كبير في تخفيض معدلات الجريمة والتطرف وإصلاح الشباب وتهذيب نفوسهم وتكوينهم التكوين العلمي السليم، وإغلاق المسجد في هذه الأحياء له أثر كبير يظهر في سلوكيات السكان وقراراتهم ولولا ما استدعته الظروف لإغلاقها لكان لها تأثير كبير في توجيه المواطنين وتنبيههم لما هو خير في أعمالهم وتصرفاتهم.
الوظيفية العمرانية:
وهذه وظيفة قلما ينتبه إليها الناس بل لا يكاد يحس بها إلا من أراد أن يشتري منزلا يَقَرُّ فيه، فيرى أن البقع المجاورة للمسجد أغلى من غيرها البعيدة عنه فما الداعي لغلاء هذه ورخص تلك، إلا لما يحتله المسجد من قيمة عمرانية عظيمة تضفي طابعا خاصا على المجال العمراني للمدينة بأسرها، ألا يحس الناظر بالوحشة وهو ينظر إلى مدن ليس فيها منائر ولا صوامع؟ فالمساجد بعمرانها تزيل الوحشة عن البناء وتشرح النفس البشرية عامة التي تحسن بالاطمئنان والارتياح وهي تحاذي المسجد والجامع جيئة وذهابا، فتمر على المسجد المتزين بأسطواناته الخارجية الجميلة ونوافذه وأبوابه الواسعة العظيمة لتبعث في النفس إحساس العظمة والوسع والانشراح، إحساس يحتاجه من ظل يومه كله حبيس أربعة من الجدران لا يتعدى طولها ثلاثة أمتار في حدود المائة متر، فيتحرى شوقا لنداء المسجد فيهرع جريا له ليزيل ذلك الضيق النفسي بالوسع المسجدي، ثم ما تبعثه حدائق المساجد الغناء من ارتياح وقرار حتى أصبحت مأوى للجميع.
الوظيفة الأمنية:
ولا نقصد هنا أن المسجد مفوضية للشرطة، بل الأمن هنا أعم من الأمن هناك، فأمن المساجد أمن روحي يقوم عليه أمن الأجساد، فإذا ماتت الروح مات الجسد ولو كان مفتول العضلات وإذا حييت الروح انتعش الجسم ولو كان هيكلا من من العضمات، فالأمن الروحي الذي يحرص عليه المسجد وهو يبعث بثنياه في نفوس رواده وعماره فيجعلهم مطمئنين ساكنين عارفين بما يقدمون وما يؤخرون، ولا أرى هذه الجلبة التي وقعت في كثير من الأماكن وهذا الفزع والخوف إلا أثرا من آثار إغلاق المسجد (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين).
فالمساجد هي التي بعثت الأمل في نفوس الناس عند الأزمات والملمات وتميزت منابرها وكراسيها بالمعلومة الدقيقة الموثوقة التي لا يجد فيها المرتاد تلاعبا أو تحايلا، وكم تصدت المساجد للأفكار المتطرفة والهدامة والفتانة، وردتها بالحجة والبرهان فلم يسمع لها رنين ولا صداع، فلم تجد تلك الأفكار إلا أن تبحث عن أماكن أبعد عن المساجد لتجد ضالتها وتنتشر بين الناس، ولمتتبعي أطوار السنين والتاريخ نقول: من أين خرجت الدعوات الهدامة المتطرفة؟ إلا من أماكن الظلمة والفساد، ولم يشملها نور المساجد وتوجيهها، ولو بنيت المساجد في تلك الأماكن لقطع دابر تلك الأفكار والأعمال التي أزهقت الأرواح وأنهكت العباد وأفسدت البلاد، واليوم ونحن نعيش إغلاق المساجد لهذا الظرف الصحي القاهر نرى كثيرا من الأفكار والآراء التي تحاول الخروج عن سياق المجتمع، بل وتهدده في أمنه ومطعمه ومشربه مما لم تستطع احتواءه لا مخافر الشرطة ولا ردهات المحاكم، ويكفي للمتابع أن يقلب دقائق معدودة في صفحات التواصل الاجتماعي ليرى الكم الكبير من الأخبار الزائفة والمزورة والمكذوبة التي تزايدت وانتشرت في المجتمع انتشارا أصبح يُسَنُّ لمقاومته القوانين والإجراءات الزجرية الكثيرة حتى أصبحنا نعيش فترة الذروة في سن القوانين التي كانت تقوم مقامها خطب الجمعة، ولغريب أمر هذه الأخبار الزائفة أنها انتشرت مباشرة بعد إغلاق المساجد، فكم عالجت المساجد في خطبها ودروسها من أمراض وصوبت من أفكار ودحرت من فتن وهدأت من فزع وجزع، آخرها ما قامت به خطب الجمعة من تهدئة الرأي العام من تبعات كورونا قبل إغلاق المساجد، وما قدمته من توضيح وإرشاد وبيان كان يقرُّ في القلوب بلا تزعزع ولا ارتياب، ولو جِئْتُ أطوف على جميع حيثيات هذه الوظيفة لما كفتني هذه الصفحات وغيرها وإنما «في العبارة إشارة».
الوظيفية الاجتماعية:
فالمساجد كما أنها بيوت الرحمن فهي كذلك بيوت عباد الرحمن وفيها يلتقي الناس ويتعايش المجتمع ويعرف الجار جاره والصديق صديقه والطفل أقرانه، فيها يلتقي المسلمون ويتبادلون الأخبار والأعراف ويعرف الجار أن لجاره بنتا صالحة تصلح لولده الصالح، ويعرف الغنيُّ فقيرِ الحي ليرفع من شأنه ويغنيه، ويعرف عاملُ الحَيِّ نَجَّارَهُ، وَتَاجِرُهُ لَحَّامَهُ، فهو مكان اجتماعي بحق لا ينازع فيه أحد، كيف ينازع وفيه تجد الناس بكافة أشكالهم الطبيب والشرطي والجندي والعامل والعاطل والطفل الصغير والشيخ الكبير، كل طوائف المجتمع تراها في المساجد، ولا أزال أتذكر باحثة هولندية أرادت أن تعرف أطياف المجتمع المغربي في هولندا فلم تجد بدا من زيارة المسجد لتتعجب من طوائف لم تكن تعرفها أصلا بل وزادت معرفتها بتقاليد وأعراف البلد فقالت بالهولندية “هذا بيت الناس قبل أن يكون بيت رب الناس”.
ففيها ترى جميع أطياف المهاجرين المغاربة بأوروبا وقد اختبرت هذا بنفسي لما كنت إماما بهولندا فلا تكاد تنقضي صلاة العشاء حتى يجتمع علي المصلون من كل حدب وصوب نتبادل أطراف الحديث ونتعرف على بعضنا البعض فنعرف الطالب الجديد والطبيب الجراح والتاجر الكبير ونزيل حاجز شدة الحياء والحشمة على طالب الحاجة وقاصد الخدمة فيعين هذا ذلك ويساعد ذاك هذا في نواة اجتماعية قل نظيرها، أطياف مجتمعية لا تراها لا في القنصليات ولا في السفارات بل تراها عيانا في المساجد والمصليات.
ومنذ القدم إلى حاضرنا لا زال المسجد مأوى ابن السبيل فلا تكاد تنتهي الصلاة حتى يرفع أحدهم صوته قاطعا هدوء المصلين معبرا عما مر به من مشقة وانقطاع أو سرقة وضعف وعجز فيتسابق المسلمون لأعانته وتهدئه ولو كان كاذبا، فما الذي دفع هذا وأمثاله بالاتجاه إلى المسجد ولم يقصدوا مباني السلطات ومقرات المصانع والشركات؟
وما امتلكته المساجد من آليات فعالة لإصلاح النفس وتهذيبها ما دفعت فيها المؤسسات السجنية والتربوية مليارات الدراهم عَلَّها تحقق شيئا مما يحققه المسجد في الإصلاح بلا تكلفة، حتى أصبحت المؤسسات السجنية والتأهيلية تطالب ببنايات المساجد داخل جدرانها مع أن السجناء يصلون في زنزاناتهم.
ولا يخفى على كثير من الباحثين كم تُعَالَجُ من قضايا أسرية داخل المساجد فلا تصل مطلقا إلى المحاكم وقضاتها، بل تفصل في المساجد، وكم عالجت المساجد من مشاكل اجتماعية أرقت كبريات المؤسسات والوزارات بل كانت تلك المؤسسات تستجير بالمساجد ومنابرها لتوعية الناس وتنبيههم، وما ذلك إلا لما تحتله المساجد في قلوب الناس، وما يتصف به خطابها من المصداقية والنزاهة حتى صارت خطبها من المسلمات إن لم تصل في بعض الحالات إلى المقدسات، كيف لا وهذا الخطيب لا يتكلم برأيه ولا بفكره، وإنما يُلْزِمه الشرع بضوابط وقواعد ترفع خطابه عن باقي الخطابات.
الوظيفة العلمية:
وما تقدمه المساجد من التعليم الدقيق المتقن المضبوط المجاني المقرون بالأدب والاحترام، حتى أصبح ذاك صفة لها تحسدها عليه كبريات المدارس والجامعات التي نخرها الشغب والتعدي والاعتداء فأصبح المدرس والمعلم والمحاضر يتمنى أن لو كان يلقى درسه في المسجد بدل القسم والمدرج، فهذا الفقيه يشرح المطولات بارتياح لا يقاطعه لغو ولا همس، بينما تسمع داخل القاعات والأقسام جميع أصوات الحيوانات يصدرها التلاميذ ساخرين من الأستاذ وقد أعطاهم ظهره ليكتب لهم مضامين الدرس وأفكاره، وما قدمته المساجد من محو للأمية والجهل حتى صار المتخرجون منها بالآلاف، وكم من حفظة للقرآن وللعلوم والمتون كانوا بين أسطوانات المساجد يصدحون، فصاروا قدوة لغيرهم صالحين ومصلحين، وما أنا إلا ابن من أبناء المساجد الذين شملهم نورها وحن عليهم لمسها.
فالمساجد بيوت الجهر بالعلم لكل الفئات لا يحرم من فصولها ومجالسها أحد بحجة الجهل أو عدم بلوغ السن أو امتلاك الشهادة، بل الكل يأخذ نصيبه وحظه ويمتلئ منها على قدر خلو كأسه وفراغه، فهي بحق أماكن لفشو العلم حتى يُعَلَّمَ من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا لا يطلع عليه إلا من اختير له.
وكم استفاد الناس من خطب الجمعة ودروس العلم وأفادوا بها أبنائهم وأهليهم وصححوا تصرفاتهم ومعاملاتهم فنهي الرجل عن الكذب والمراء والغش والخديعة والتعدي والظلم والسرقة والبخس ما رجع على نفسه بالصلاح وعلى دولته بالإصلاح، فلم تحتج الدولة لا لتخليق إدارة ولا لتحسيس مواطنين، فيكفيها أن يحضروا خطبة الجمعة ليعلموا “أن من غشنا فليس منا”، فشمل عمل المسجد توجيه المواطنين وتنبيه التاجرين وتحذير المغرضين وتطمين الخائفين، ففي قاعة المسجد يعرف التاجر حكم الغش وجزاءه عند الله فلا يتاجر في أرزاق الناس ومعاشهم بالاحتكار والاختلاس، فلما أغلقت المساجد صارت الأسواق مواضع فتنة واستغلال، مع ما تقوم به السلطات مشكورة في هذا الباب، لكن المسجد كان محتسب السوق والجمعة كانت ضابطة الأسعار.
وهنا يعرف الناس قيمة الإمام والخطيب في المجتمع وأهمية عملهما في بناء الإنسان الذي على صلاحه تصلح البلاد وعلى خرابه يخرب العمران، وليس كما يقال أنه إنسان لا عمل له في الدورة الاقتصادية للمجتمع.
الوظيفة الاقتصادية:
وهذه لا يلتفت إليها كثير من الناس غفلة منهم وإلا فالفقير يعرف أمرها قبل الغني، والجاهل قبل العالم، ففي المسجد تعرف فئات المجتمع وأصنافه ويسهل على الغني إخراج زكاته فيضعها في محلها لا يرابي فيها ولا يحابي عليها، وكم أصلحت المساجد من منازل وأشبعت من جوع وآمنت من خوف وألبست من عري وطمأنت من فزع وحنت من يتم ومسحت من فقر، كم قدمت المساجد من خدمات اقتصادية للبلاد والعباد فأدارت عجلة الاقتصاد بما وجهت به من زكاة ودعت إلى إخراجها ووضعها في محلها، وكان أهلها سباقين لبيان فضلها وأثرها وهذا شيخنا الهمام سيدي مصطفى بنحمزة يعطي خير مثال على ذلك بما بينه من تعجيل أمر الزكاة للملمة الجراح التي يخلفها فيروس كورونا، حفظ الله شيخنا وأطال عمره ومتعنا به.
وهذه المساجد وما تقدمه من خدمة وقتية لا ينتبه لها كثير من الناس حتى صارت ساعة المجتمع التي لا تكذب ولا تزيد ولا تنقص، فتدل الناس على أول النهار وآخره وكثير من عمار المقاهي لا يكاد يغادر كرسيه إلا إذا سمع آذان الظهر أو آذان المغرب وَوَقَّتَ الناس على أذانها أعمالهم ومواعيدهم، فيقول الرجل لصديقه نلتقي بعد العصر والآخر بعد العشاء.
وكثير من المؤسسات أُغلقت ولا زالت المساجد تصدح بصوت الآذان معلنة أن صوتها لا زال موجودا لم يغيبه انتشار كورونا.
فالمساجد توجه الناس بمحاريبها وترشدهم بمنابرها وتنظفهم بمياضئها وتعلِّمهم بكراسيها وتطعمهم بمقصوراتها وتُعْلِمُهُم بآذانها ومواقيتها وتطمئنهم بفرائضها ونوافلها وتهدئهم بسكونها وخشوعها وتزيل عنهم الضغط والتوتر بروحانيتها، فماذا خسر المغاربة بإغلاق المساجد؟؟؟
هذا بعض من كل، ونهر من بحر، وقد يتأمل غيري غيرها ما يزيد ويستزيد، لبيان أمر المساجد وما ينتج عنها حتى صارت بفعلٍ مصانع للمجتمع لا يقدرها قدرها إلا من عرف أمرها، أما من جهلها فلن يقابل ما ذكرت إلا بالتكذيب والتشكك (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) لهذا وذلك قلنا سابقا: لن يقوم مقام المسجد مقام، ولن يعدل مكان الصلاة فيه تلفاز ولا مذياع.
الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا الله ينصرك أستاذنا وشيخنا الرحماني امحمد على هذا المقال العلمي المنطقي والفطري المنهجي.الله يجازيك بخير
جعل الله مقالك هذا في ميزان حسناتك ونفع كل من قرأه وتدبره. رد في محله تجاه من سولت له نفسه المريضة أن يحط من مكانة بيوت الله ” لا خير في كثير من نجواهم الا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس”
j’aoute aussi l’impact de la fermeture des barres, les lieux de prostitution les terrains sans valeurs ajoutée, ….,