ماذا يعني الانتساب إلى الوطن؟
هوية بريس – محمد بوقنطار
الانتساب إلى الوطن علاقة بين أرض وأهلها ممن يفترشون ترابها ويستظلون بظل سمائها، ويأكلون مما تنبته حقولها من بقل وقثاء وفوم وعدس وبصل، وما يستبيحونه من ذكاة أنعامها.
الانتساب إلى الوطن وشائج حب صادق تؤسِّسه مادة الواجبات قبل سيل الحقوق الدافقة تبعا.
الانتساب إلى الوطن دفاع عن الأرض والعرض والدين واللغة والإمارة، وحرص على اللحمة الوطنية.
الانتساب إلى الوطن استثمار بكرم جهد وفيض طاقة في مكوّنات وبنيات المجتمع الآمن المطمئن، في دائرة تقديم المصلحة العامة على أختها الخاصة.
الانتساب إلى الوطن إحساس دافق بمشاعر الأخوة وسعي حثيث إلى خلق مشاكلة ومجانسة تصب في رصيد بناء غيرة طافحة ودفاع متقدم عن أصالة وقداسة الدين واللغة والإمارة.
الانتساب إلى الوطن ميثاق غليظ من الرحمة والأخوة، وعروة وثقى لا انفصام بين أمل نفي كيرها وإثبات فيح ريح مسكها.
الانتساب إلى الوطن مشاطرة لآلامه وأحزانه، ومقاسمة لأفراحه ومسراته، وحضور وازن وتمثيل مشرف له خارج جغرافيته وحدوده الترابية والسياسية.
الانتساب إلى الوطن غرس وزرع لقيم المساهمة في بناء أركانه بالعلم والمعرفة وسيادة الأخلاق ورعاية مصالح البلاد والعباد.
الانتساب إلى الوطن بذل وعطاء وتضحيات وصبر ومرابطة عند حياض المعروف، وحفظ البيضة، واستكمال مسيرة سلفنا الميامين في البناء والإصلاح.
الانتساب إلى الوطن ليس عروة حرف تدور معه عند الوجود وتنعدم مع عدمه وطفاف كيله.
الانتساب إلى الوطن إيمان بقضاياه واشتغال بحمل أثقاله، وتحديات منفكة عن عقال إيثار الذات والتماهي مع شهواتها، التي من جملتها بناء الولاء مع الوطن والبراءة منه كرد فعل انتقامي من إتراف المترفين وتسلط المتسلطين.
الانتساب إلى الوطن انخراط والتزام أخلاقي يسمو على أي اعتبار، وتتحطم على صلادة صفوانه قرون الفتن، وتولي الدبر الأطماع المتربصة بوحدة الوطن ولمّته الحميمية، ومشروع استكمال لوحدته الترابية وتحصين قلعته الحضارية.
الانتساب إلى الوطن استشعار بلذة الجماعة، وإحساس بفرط سعادة الانتماء، الذي تغذي جذوره قواسم الدين والتاريخ ومصير الأمة الواحد، الذي قيامه وقوامه الإيمان بأن الجماعة رحمة والفرقة عذاب.
الانتساب إلى الوطن إلغاء وتجاوز لكل نعرة منتنة، واستئصال لكل عرق دسّاس.
الانتساب إلى الوطن انتصار للنجابة وصلادة الفكر، ومدافعة ومجابهة لكل بلادة وسذاجة.
نعم قد تدفعنا طائلة مظلمة، أو مسكنة متربة، أو تكالب تسلط، أو بغي استكبار، أو حرمان لصوصية، أو اعتداء سلب ونهب، فتلك معطوفات لا ننكر وقوعها، ولا يمكن حجب لهيبها الحارق، فنندفع إلى رفع شكوانا أو إسماع صوتنا، أو رفع عقيرة غضبنا، ومج مرارة خصومتنا، ولكننا نستحضر سوالف الفضل بيننا وبين الوطن مهوى النفس ومسقط الرأس.
نعم لا نحب أن يُظلم في الوطن ضعيف، أو أن يُسلب حق من ذويه، أو يغتصب عرض وتسرق أرض، أو أن يقتل قتيل من بيننا، فذلك إحساس يبقى شائعا منتظر الحل معلق الآمال تحقيقا في التزاماتنا جميعا.
نعم يعز في نفوسنا، أن نرى المترفين يسيرون في أرض الوطن على غير هدى من الله، ويتصرفون متجردين من الرحمة في حقوق المستضعفين منا.
نعم نتذمر من حِلم يد القضاء وبسطها بالعفو على المجرمين والتساهل في الأحكام مع قطاع الطرق، والمفسدين من اللصوص والمعتدين.
نعم لا نستلطف ولا نقبل أن يتولى منا حمل أمانة التمثيل والنيابة والتسيير كل خوَّان معتد أثيم، وأن تتمادى الرقابة ويد المحاسبة في الضرب صفحا والتغاضي اعتسافا على كل تجاوز وتهارش يمارسه المترفون في مواقع الأمانة والتكليف للصالح العام.
نعم لا نرضى أن يتغوّل الباطل حتى يصير أصلا متجذرا في نفوس أهله، وأن يتصاغر الحق حتى يمشي بيينا وأهله في غربة وذل وهوان.
نعم يحزننا كثيرا أن يصرف الغالي والنفيس على اللهو واللعب والرقص والغناء، وعلى أرضنا قرى يحاصرها البرد، وتضع بعض ذات حمل حملها بين الفجاج وعلى أعتاب مستشفيات المملكة.
نعم يضيرنا أن تصير المواطنة عبارة تُلاك، أو عبرات تذرف لفوز لاعب أو خسارة راقص في مسابقات لا تمت لتاريخنا الأبي بصلة رحم ولا قرب دم.
نعم يصيبنا الألم حد البؤس مما تشكوه ذاكرة المواطنة من فتور وغيبوبة مرضية وخرس جارحة أمام ما يسجله سماسرة الغرب ولصوصه من المحليين دهاقنة السياسة من مكاسب معنوية وأنفال مادية.
نعم لا نرضى أن نرى من المنتسبين بالرسم والاسم من صار لا يكتم حنينه إلى أيام سطوة فرنسا، بل يرى في استعمارها فاتحة خير على كل تقدم وتحرر وحداثة تعيشها البلاد اليوم.
نعم لا نقبل أن نسمع أو ننحني ونخنع للخطابات المزيفة التي ما فتئ ذووها من بني الجلدة يوارون عبرها ذلك الوجه الذميم والحقد الدفين الذي تميّز به الاستعمار قديما وحديثا.
نعم لا نسمح بوجود من يتهم أسلافنا من المجاهدين والمقاومين المغاربة بالخيانة بل يشكك في وطنية من تصدى للعبة الظهير البربري الفرنسي القذر.
نعم لا نؤمن بالبطولة التي يتحوّل فيها الفائز المحلي راكبا على الانبهار الشعبوي بفوزه نحو تحقيق غرمه وغنمه عبر السلب والنهب والغصب، والاستفادة من امتيازات الريع وشبحية الوظائف العمومية.
نعم لا نصبر على أن تصير قدوات أبنائنا هم المغنيون والمغنيات والراقصون والراقصات واللاعبون واللاعبات والمهرجون والمهرجات، فتلك نقيصة لا يعتد بها في مقام المدافعة والمباهلة وتمثيل البلاد.
نعم، نعم، نعم نؤمن بأن المواطنة شيء غير هذا الذي طفا على السطح من هذه الظواهر التي سافرت إلينا سفرا لا يوجب قصرا ولا يستوجب جمعا، وجعلت الصغير لا يوقر الكبير، والكبير لا يرحم الصغير، وإنه لضيم صارخ يود كل مواطن صالح مصلح أن يستريح من جثامة خنقه الأنكى والأتعس، حيث انقلبت فيه المفاهيم وتداخلت فيه الواجبات بالحقوق، فَقُرِأت الحسنة في مسلاخ السيئة، بينما باتت الموبقات من صميم المعروف وجنس الإحسان، بل صار الإفساد في الأرض بعد إصلاحها مشيا في مناكبها بالحسنى، وبالتي هي أحسن، وأصبح الإهلاك إحياء للضرع وإنباتا للزرع.
ولربما في ظل هذه العتمة الغاسقة ترجمت بعض المنظمات الحقوقية الحداثية نباح الكلاب استغفارا وحوقلة، وهي التي لطالما قض مضجعها، وآذى سمعها، وشاغب راحة نومها وبياتها رفع صوت المؤذن من على مآذن مساجد المملكة، معلنا بدخول وقت الصلوات، وخاصة منها ما تعلق بآذان الغلس وصلاة العتمة، وتلك والله مكنونات ما فتئت هذه التكتلات وجوقتها المترفة تخرجها بمعيّات إشارات وعبارات وشعارات ومواقف قاسمها المشترك الاستعلاء والافتيات على مقومات الهوية المغربية من دين ولغة وإمارة مؤمنين، وهي من هي؟
هي التي تشهد القوانين المؤسسة لها وميثاقات التشارط بينها وبين الدولة على جملة من معطيات المسكنة والدروشة وطغيان خدمة الصالح العام على وفق ما تعارف عليه المغاربة وتوارثوه أبا عن جد، ولكنها للأسف وكما يشهد واقعها الحافل بالدفاع عن كل موبقة مهلكة، من مثلية وخنا ومناداة بتقنين الدعارة وترسيمها، والسير في ركب من صلتهم بالله قد انقطعت وتسفلت تحت الصفر، يتم كل هذا وزيادة بدعوى تحديث البلاد وتطهير أوصالها المدنية من أوضار الرجعية والتقليدية، وتحرير الأجيال المعاصرة من ربقة قيود الحلال والحرام، والتزامات المنظومة الأخلاقية التي تفرمل السير السريع وتتحلل من كل الاستفهامات المستشكلة لهذه الحيدة الإنسانية، وتبغي بالمقابل إلباسهم ثوب الحرية الفضفاض، فضفضة فوضى وميل وارتجالية تقهر وتنهر وتخاصم الطهر في جفوة وشقاء، وتريد تغليب كفة المتلبسين بهذه النجاسات والأركاس، ومن ثم محاصرة وإخراج الفضلاء الأتقياء الأنقياء من دائرة المواطنة، والتشكيك في صدق الانتساب إلى تربة الوطن العزيز، انتساب قدوتنا وأسوتنا ومتبوعنا الرحمة المهداة لمهوى نفسه وقرّة عينه مكة مهبط الوحي.
انتساب أخوة في الوطن كان قد نبّه عليها سبحانه وتعالى في مقام ما نص عليه القصص القرآني، وهو يتناول أخبار الأمم السابقة للبعثة الخاتمة مصداقا لقوله تعالى: “وإلى مدين أخاهم شعيبا”، وقوله سبحانه: “وإلى عاد أخاهم هودا”، وقوله جل في علاه: “وإلى ثمود أخاهم صالحا”.
أصلح الله البلاد والعباد، وأقام صرح هذا الوطن على عروة وثقى، قوامها محفوظية التمكين للدين واللغة والإمارة، وأدامها علينا نعمة وحفظها من الزوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أنا منعدم الشعور نحو بلدي المهدور، وأني لا أساوي أكثر من قيمة حمار، فقلبي كله دمار
مات شعوري نحو وطني، ولا علاقة لي بما يجري ببلدي، عليّ إن أردت أن أعيش أن أغمض عينيّ وكالنعامة لا أفكر في ما يجري حوليّ.
فالتّعليم فشل، والعمل قل، وانتشل الفساد وعم الكسل، فالشعب مقيد مغلول وعصابات السياسة المخزنية عليه تصول وتجول
ليس لدي حق، ولا وطن
ما خلّفه في نفسي التشبث بالكراسي، وباسم مسرحية الانتخابات صار الوزراء يتشدقون وبالنجاح يتوهمون ويوهمون
فالحكومة ذات أغلبية و تتشدّق بالشرعيّة، أربكت أغلب الجهات، وطالبت بالامتيازات وقمعت الاحتجاجات، السّارق والمنحرف، والمعتدي، والمهرب، والمحتكر، وقاطع الطريق، والمانع للعمل فالكل في مأمن، فهم أبناء الوطن…
وأصيب الشّعب بالخيبة فوجد نفسه يتخبّط في الصّدمة ويعاني من غلاء الأسعار، فحياته في نَار ودَمار…
فنامُوا واهنَؤوا وعلى الفشل اصبروا، فنحن مازلنا نتعلمُ.