ما الإضافة التي يقدّمها علم النفس الفطري؟

ما الإضافة التي يقدّمها علم النفس الفطري؟
هوية بريس – د.لطفي الحضري
مقدمة
كثيرًا ما يُطرح علينا هذا السؤال في الندوات واللقاءات العلمية، وحتى في النقاشات الفردية: ما الإضافة التي قدّمها علم النفس الفطري إلى المعرفة النفسية؟
سؤالٌ يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه في جوهره يمسّ هُوية هذا العلم واتجاهه وخصوصيته بين مدارس الفكر الإنساني.
وسأحاول هنا أن أقدّم بعض الإجابات الأولية، لا على سبيل الحسم، بل على سبيل التوضيح والتأمل، إدراكًا أن هذا السؤال سيبقى مفتوحًا ما دام علم النفس الفطري في تطورٍ مستمرٍّ من البحث والتطبيق والمراجعة.
ومع ذلك، أعتقد أن ما يلي يعبّر عن البوصلة المنهجية التي توجّه هذا المشروع العلمي، وتحدّد الإضافة التي نراها إسهامًا حقيقيًا في إعادة تعريف النفس والإنسان والعلم معًا.
1. التأسيس لمفهوم جديد للإنسان
يقدّم علم النفس الفطري إعادةَ بناء جذرية لمفهوم الإنسان في العلوم النفسية، إذ يراه كيانًا روح–نفس–جسم، تتكامل أبعاده تحت وحدة المقصد لا تعدد الوظيفة. في حين ركّزت المدارس الغربية على الإنسان المادي أو النفسي المجزّأ، جاء المنهج الفطري ليؤكّد أن الإنسان ليس نتاج دوافعه ولا حصيلة بيئته، بل موجودٌ مكلّفٌ قادرٌ على الاختيار والتزكية.
بهذا، ينتقل محور البحث من “كيف يتكيّف الإنسان؟” إلى “كيف يفي الإنسان بغاية وجوده؟”، وهو انقلاب فلسفي يجعل من علم النفس علماً إنسانيًا–تكليفيًا لا مجرد علم للسلوك أو الانفعال.
2.الانطلاق من الفطرة كمصدر للمعرفة النفسية
الإضافة الكبرى لعلم النفس الفطري هي جعله الفطرة مصدرًا معرفيًا، أي المرجع الذي تلتقي عنده الخبرة والتجربة والوحي. فبدل أن تُستمد المفاهيم من الملاحظة فقط أو من التأمل العقلي، يُعاد ضبطها في ضوء ما أودعه الله في الإنسان من معرفة أصلية بالخير والحق والجمال.
الفطرة هنا ليست غريزة ولا ميلًا نفسيا، بل نظام إدراك أوليّ متصل بالهداية، يوجّه التفكير والشعور والسلوك. ومن خلال هذا المنظور، يصبح الانحراف النفسي انقطاعًا عن الأصل، ويصبح العلاج عودةً إلى التوازن الفطري لا مجرد ضبطٍ للأعراض.
3.بناء منطق نفسي داخلي متماسك
بينما تقوم المناهج الغربية على تعدد المدارس وتناقض منطلقاتها بين التحليلية والسلوكية والمعرفية، يُقدّم علم النفس الفطري منطقًا توحيديًا يربط بين الظواهر النفسية ضمن نسقٍ واحد متّصل بالخالق والمخلوق والغاية.
فهو لا يكتفي بوصف السلوك، بل يفسّره من خلال منظومة سببية تربط بين الفكرة والدافع والفعل والمصير.
بهذا، يستعيد العلم وحدةَ العقل والوحي، ويؤسّس علمَ نفسٍ له بنية داخلية منسجمة، تجعل كل ظاهرة نفسية قابلة للفهم في إطارها الأخلاقي والروحي.
4.نقل مركز الثقل من التفسير إلى الإصلاح
المدارس الحديثة ركّزت على تفسير الأعراض أو تخفيف المعاناة، بينما يسعى علم النفس الفطري إلى إصلاح النفس وتزكيتها.
الغاية ليست التكيّف مع الواقع فحسب، بل الارتقاء بالنفس لتصبح قادرة على تغييره وفق ميزان الحق.
فالعلاج في المنهج الفطري ليس عمليةً ميكانيكية لتعديل السلوك، بل حركة وعيٍ نحو المعنى، تعيد للنفس قدرتها على المحاسبة والمراجعة والاختيار الحرّ.
وبذلك يتحوّل المعالج من “مراقبٍ للأعراض” إلى “مُربٍّ للضمير”، وتتحول الجلسة من حوارٍ تقني إلى تجربةٍ إصلاحية تستنهض الفطرة الخامدة.
5. الجمع بين العلم والوحي
الإضافة المعرفية الأعمق لعلم النفس الفطري هي إعادة إدماج الوحي في منهج البحث النفسي من غير أن يُلغى العقل أو يُهمَّش المنهج التجريبي.
فالوحي في هذا العلم ليس نقيضًا للعقل، بل مرجعيته العليا التي تضمن بقاء العلم في مساره الأخلاقي، وتمنع انحرافه نحو العبث أو النفعية المطلقة.
من هنا، يُبنى النموذج الفطري على تكاملٍ رباعيّ الأبعاد يجمع بين: النصّ الإلهي مصدرًا للهداية، والعقل التأملي أداةً للفهم، والملاحظة الإكلينيكية، والتجربة العلمية مجالًا للتحقق والاختبار. وبهذا، يصبح علم النفس في المنظور الفطري علمًا للإنسان في حضرته الكاملة: عاقلًا، شاعرًا، مكلَّفًا، ومجرِّبًا؛ يزاوج بين نور الوحي ودقّة البرهان، فيجمع بين صدق الإيمان وصواب المنهج.
6. التأسيس لأخلاق البحث والعلاج
يُعيد علم النفس الفطري الاعتبار لمفهوم المسؤولية الأخلاقية في كل من البحث والممارسة. فهو يرى أن من أخطر مظاهر الانحراف في العلم الحديث فصل الأخلاق عن الملاحظة، والغاية عن الوسيلة.
أما المنهج الفطري، فيجعل من الأخلاق جزءًا من بنية المعرفة ذاتها، لا ملحقًا خارجيًا. فلا بحث بلا نية صالحة، ولا علاج بلا مقصدٍ تزكوي، لأن إصلاح النفس لا يتحقق بأدواتٍ محايدة عن القيم.
7. التحول من الإنسان المتمركز حول ذاته إلى الإنسان الهادف إلى خالقه
المشروع النفسي الغربي جعل “الذات” محور الوجود، بينما يعيد علم النفس الفطري ترتيب البوصلة:
فالذات ليست غاية، بل وسيلة لمعرفة الله وخدمة الإنسانية.
بهذا ينتقل علم النفس من الأنانية المعرفية إلى العبودية الواعية، ومن “تحقيق الذات” إلى “تحقيق العبودية”.
وهو بذلك يحرّر الإنسان من سجن الفردانية ويعيده إلى دوره الكوني: خليفةً يسعى في الإصلاح لا في الاستهلاك، وباحثًا عن المعنى لا عن اللذة فقط.
8.الإضافة الإكلينيكية: من العلاج إلى التزكية
في التطبيق العيادي، يُقدّم علم النفس الفطري أدواتٍ جديدة لفهم مسار التغيير، قائمة على رصد حركة النفس من الانفعال إلى الوعي، ومن الوعي إلى العمل، ومن العمل إلى السكينة.
فهو لا يعالج العرض في عزلة عن الجذر، بل يربط المرض بالمعنى، والاضطراب بالمقام، ليُعيد للمريض شعوره بالمسؤولية بدل الاتكالية، ويستبدل التبرير بالتصحيح، والتأقلم بالإصلاح.
إنها نقلة من الشفاء النفسي إلى التعافي الوجودي، حيث يصبح العلاج طريقًا إلى الطمأنينة لا إلى النسيان.
الخلاصة
الإضافة الجوهرية لعلم النفس الفطري أنه أعاد توحيد الإنسان مع ذاته ومع علمه ومع أصل وجوده، دون أن يجعل من ذلك دعوة عقدية أو التزامًا دينيًا. فهو لا يخاطب الإيمان كشرطٍ، بل يخاطب الفطرة كمشتركٍ إنسانيٍّ جامع بين المؤمن والملحد، وبين كل من لا يزال في رحلته نحو المعنى.
يعمل هذا العلم على تنشيط ما في الإنسان من استعدادٍ فطريٍّ للحقيقة، كلٌّ بحسب مقامه واستعداده: من الناس من تُصلِح له الفطرة رؤيته للحياة واتزانه النفسي فحسب، ومنهم من تفتح له طريق البصيرة في الدنيا والآخرة معًا.
بهذا، لا يفرض علم النفس الفطري وجهةً إيمانية، بل يُهيِّئ النفس لتستعيد انسجامها مع طبيعتها الأولى، حيث تلتقي الإنسانية بالعقل، والعقل بالرحمة، والرحمة بالحقيقة.
إنه علمٌ يبني الإنسان، ليجعل من النفس ميدانًا مفتوحًا للوعي والتزكية معًا؛ علمٌ يوازن بين العقل والوحي، وبين الحقيقة والرحمة، وبين الإنسان والسماء.



