ما العلاقة بين الحديث باسم الدين والحديث بالدين؟ (ح1)
هوية بريس – د. محمد وراضي
سؤالان: أولهما جرى ويجري تناوله بين فريقين بارزين متصارعين في عصرنا الحاضر. هما على وجه التحديد: علمانيون وإسلاميون. وقد نقول: بين متهمين (بكسر الهاء)، ومتهمين (بفتحها). فالفريق الأول، يتهم الثاني بكونه يتحدث باسم الدين. والحال أن الجهة الوحيدة التي لها حق التحدث باسمه واحدة لا تتعدد؟؟؟ بينما الفريق الثاني حائر في اتخاذ موقف صريح واضح معلن من التهمة الموجهة إليه؟ وإن كانت آراء هذا الفريق مختلفة باختلاف مقدار العلوم الدينية التي تحملها عبر العالم الإسلامي برمته عناصره المتعددة.
إنما ما هو الدين قبل كل شيء وبعده؟ إنه بإطلاق مجموعة من القناعات النظرية والتطبيقية التي تضبط سلوك الأفراد داخل مجتمعاتهم في مختلف مجالات الحياة، وفي مختلف أرجاء المعمور في القديم والحديث. بحيث إن هذه القناعات تربطهم بكائن مقدس هو المعبود عندهم بحق.
لكن الدين من منظورنا “جملة من الإدراكات والاعتقادات والأفعال الحاصلة للنفس من جراء حبها لله، وعبادتها إياه، وطاعتها لأوامره”.
وهذان التعريفان، يشيران عن قصد منا إلى ديانات غير سماوية، وإلى ديانات أخرى سماوية. وبينهما من منطلق العقل السليم مسافات وبحور؟
فالذين يعبدون الشمس والقمر والنجوم، والماء والتماثيل، والملوك، وبعض الأشخاص والأشجار، والمغارات وقمم الجبال -وهي كلها معبودات مادية- غير الذين يعبدون ربا واحدا ينسبون إليه إيجاد أو خلق كل هذه المعبودات المادية، التي تمليها الأهواء، أو العقول الآسنة، كانت طبيعية، أو كانت مصنوعة، كمعبودات العرب قبل الإسلام، والتي يتقدمها هبل واللات والعزى ومناة؟؟؟
وتمييزنا المتعمد بين نوعين من الديانة، هو تمييز بين دين التوحيد ودين الشرك. مما يطرح تساؤلات بخصوص نوع الديانات الأولى المعروفة والمجهولة لدى الإنسان. هل الديانة السماوية أسبق في الوجود من الديانة الوضعية؟ أم إن العكس هو الصحيح؟ أي إن الديانتين متزامنتان في العالم منذ ظهور الدين على وجه البسيطة؟
هذا الإشكال، حاول علماء الاجتماع الديني إماطة اللثام عنه، من خلال اعتماد نظريات أنتروبولوجية متعددة. من بينها وقع اختيارنا على النظرية القائلة بأن الديانة السماوية، هي المعروفة في بداية الأمر. أي في بداية تدين الإنسان.
وتعرف هذه النظرية بالتوحيد البدائي التي أخذ بها الكثيرون، وفي مقدمتهم كل من “بروس” و”لانج”. فقد حاولوا “أن يثبتوا بأن الإنسانية بدأت بدين الوحي الحقيقي. وأن هذا الوحي غرس فكرة الله في نفس الإنسان. ولكن الخطيئة الإنسانية أخفت معالم تلك الحقيقة. فلم تصل الإنسانية إلى فكرة التوحيد. أو فكرة إله السماء إلا بعد أجيال عدة. وحاول بعض العلماء أن ينسبوا فكرة التوحيد إلى العقلية السامية. وتكلموا عن غريزة التوحيد في الجنس السامي. بمعنى أنهم ينسبون فكرة التوحيد إلى اليهودية والمسيحية والإسلام”.
مما يعني أن الإنسانية، دأبت على الشرك لمدد طويلة، ولم تنته إلى التوحيد الخالص إلا مع الساميين. لكن ابن طفيل في مؤلفه القيم “حي بن يقظان”، فنذ هذه النظرية بأخرى، مؤداها أن الإنسان -حتى وهو منفرد بنفسه، بعيد عن الانتساب إلى أي مجتمع- يستطيع الاهتداء بعقله إلى وجود الله الواحد الأحد، بحيث إنه أكد ما يعرف في الإسلام بدين الفطرة. إلا أن الفطرة تتعرض للتغيير بفعل عوامل حصرها هنا في عجالة متعذر.
ولما صح عندنا أن الدين مر بمراحل، وصح عندنا أنه عرف تقلبات لا عد لها ولا حصر. وصح عندنا أنه في الجملة نوعان: دين شرك ودين توحيد. ثم صح عندنا وجود من يتكلمون باسمه، ومن يتكلمون به وفيه، لزم القبول بكون المتكلمين باسمه هم الذين ابتدعوه بالنسبة للنوع الأول. وأن الذين يتكلمون به وفيه هم أتباع هؤلاء الذين ابتدعوه. كما لزم القبول بكون متلقيه كوحي إلهي -نقصد الأنبياء والرسل- هم وحدهم المخولون للحديث باسمه. والتخويل تفويض من الموحي إلى الموحى إليه. كما هو بين في القرآن. حيث يقول الله مخاطبا رسوله: “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم”. والبيان شرح وتوضيح لمضامين الخطاب الإلهي إلى الناس كافة. وهذه المضامين، يزدوج فيها النظري والعملي. مع انتفاء الموصوف الأول متى غاب الموصوف الثاني، والعكس صحيح. ومن هنا انتشر رأي علمائنا وراج بخصوص تحديد مفهوم الإيمان فقالوا: “هو التصديق بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارج”.
فنكون هكذا أمام نظرية أشبه ما تكون بالنظريات العلمية، التي تقف عند حدود النظري دون أن تتجاوزها إلى التطبيقي. إذ لا يكفي القول -في العلوم الطبيعية- بأن الأجسام الثقيلة تصل إلى الأرض قبل الخفيفة في نفس الوقت، إن نحن ألقينا بهما من برج أو من صومعة. لكن ما هو نظري هنا كذبته التجربة التي تفيد بأن الجسمين كليهما سيصلان إلى الأرض في نفس الوقت، لولا فعل الهواء الذي يقاوم حركة الأجسام، كما تقاومها مياه الأنهار والوديان الجارفة. وهذا ما أكدته التجارب العلمية التي أصبح طلبة الثانويات والكليات على بينة تامة منها. وفي الوقت ذاته هناك نظرية نيوتن التي فسرت سقوط الأجسام بفعل الجاذبية، مما يعطي للمزاوجة بين النظري والتطبيقي قيمة علمية حقيقية. فصح أن النظريين المتكلمين في الإسلام (لا نقصد علماء الكلام)، لم يدرك إخلاصهم للدين عندهم غايته. كما أن العمليين الذين ينقصهم الإخلاص والصدق مجرد منافقين. إذ لا أهمية لمن “يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم”.
وحتى نوضح كل ما أوجزناه بأدلة قاطعة، نشرع في تقديم نماذج للمتكلمين باسم الدين من المشركين، عبدة آلهة طبيعية وحيوانية، وروحية مفترضة مبتدعة أولا. ثم نماذج من المتكلمين باسمه من معتنقي دين سماوي ثانيا. مع الحضور الدائم في الصورة لمن يتكلمون بالدين وفيه. دون إغفال الحديث عن الصراع بين طرفي هذه المعادلة التي لا تزال حتى وقتنا الراهن قائمة في العالم برمته!!!