ما لا يريد الناقمون رؤيته في كتب التراث (الأوزاعي ونصارى لبنان)
هوية بريس – ذ. عبد الله الشتوي
إن من سوء النية وفساد الطوية أن يَعمَد المرء بعد كل حادث هنا أو هناك إلى الخلط بين شرائع السلم وشرائع الحرب، يتلمس بذلك تنقص شريعة الاسلام تحت مسميات فضفاضة كـ”التراث”، فيُنزلون ما جاء في قتال الأعداء ورد العدوان محل الظلم والعدوان.
ومع أن كل الحضارات منذ القِدم وإلى اليوم لا زالت تُفاخر بقوتها العسكرية وترساناتها الحربية وتخضع كل ذلك لقوانين لا تراعي إلا مصالحها، فإن هؤلاء يستكثرون على المسلمين أن تكون لهم شرائع تفصِل في أحوال الحرب والسلم، وتضيق صدورهم لوجود تفاصيل فقهية عن دار الحرب ودار الاسلام وأحكام أهل الذمة، ولا يرضون إلا بسلخ هذه الاحكام عن جسد الاسلام بعد أن قلَّموا كل أظافره…
ففي الحرب يقول الله عز وجل: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).
يقول يحيى الغساني: كتبتُ إلى عمر بن عبد العزيز أسألهُ عن هذه الآية، فكتب إليّ: “إنّ ذلك في النساء والذُّريّة ومن لم يَنصِبْ لَك الحرَب منهم“.
وعلى هذا سارت فتاوى فقهاء الاسلام منذ خروج الاسلام من حدود الجزيرة العربية … فكانت من المسلمين أحكاما يأخذون بها ديانة والتزاما شرعيا، لا تسقط بضعف العدو، خلافا قوانين الحرب اليوم إلا ليست إلا تدبيرا للصراع بين الأقوياء، فليس يحق لك الكلام عن قوانين الحرب إلا بقدر من تحتويه سراديبك من رؤوس نووية… وكيف تكون للحرب قوانين أصلا، والحرب في ذاتها ليست إلا إسقاطا للقوانين…
أما في حال السلم والموادعة فقد قال الله عز وجل: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، فأمر الله البر والقسط وجعل ذلك سبيلا لمحبته عز وجل.
ثم تأمل كيف يفسر أحد فقهاء الاسلام معنى البر والقسط في الآية، يقول الامام شهاب الدين القرافي: (وأما ما أمر به من برهم ومن غير مودة باطنية: فالرفق بضعيفهم وسدُّ خلة فقيرهم وإطعام جائعهم وإكساء عاريهم ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف، والذلة واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم لا خوفا وتعظيما والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم) -كتاب الفروق-.
وإن من شواهد التاريخ التي لا يسع أحدا إنكارها أن المسلمين قد دخلوا بلدانا مختلفة وامتد انتشار الاسلام إلى ما لم يبلغه دين قط، ومع ذلك فقد بقي بين المسلمين كثير من غير المسلمين، لا عن ضعف من المسلمين ولا عجزا عن استئصالهم، بل امتثالا لما جاءت به الشريعة من حفظ حقوقهم والاحسان إليهم وغير ذلك مما هو مسطور من فقه “أهل الذمة“، مع أن كثيرا من هؤلاء قد صدر من بعضهم غدر وخيانة لدولة الاسلام خصوصا في تعامل نصارى مصر والشام مع أساطيل الروم…
ومما تنقله كتب السير قصة إجلاء نصارى لبنان زمن العباسيين بسبب تعاملهم مع البيزنطيين فقد نكث هؤلاء العهد في ثورة ”المنيطرة” وثاروا بالسلاح وأعلنوا التمرد وأعملوا النهب والسلب وقتلوا وروعوا الآمنين كما يرويها ”فيليب حتي” اللبناني النصراني في كتابه (تاريخ سورية): “وانقضوا من قاعدتهم وانتهبوا عددًا من قرى البقاع، وكان يتزعمهم فتى قروي عظيم البنية، بلغ من جرأته وتهوره أن أقام نفسه ملكًا، لكن العصابة اللبنانية قِيدَت بعد حين إلى كمين قرب بعلبك، نصبته لهم فرقة فرسان عباسية وفتكت بهم“.
ولضمان عدم احتكاك هؤلاء بالبيزنطيين وتشتيت قوتهم عمد الوالي العباسي إلى تهجير نفر من هؤلاء من قراهم بعد أن أقر من بقي منهم على دينهم، لكن الامام الاوزاعي رحمه الله وقف مدافعا عن نصارى لبنان مطالبا بحقوقهم كما أقرتها شريعة الاسلام، فأرسل كتابا إلى الوالي العباسي جاء فيه: (وقد كان من إجلاء أهل الذمة من أهل جبل لبنان، ممن لم يكن ممالئًا لمن خرج على خروجه، ممن قتلتَ بعضهم، ورددتَ باقيهم إلى قراهم ما قد علمتَ، فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى: {ألا تزرَ وازرة وزرَ أخرى}، وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به.. وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: “من ظلم معاهدًا أو كلَّفه فوقَ طاقته فأنا حجيجه“) أبوعبيد القاسم -الأموال-.
فما كان من الوالي العباسي إلا أن أرسل إلى عماله بردهم إلى ديارهم وإحسان معاملتهم، لا عن ضعف أو ضغط بل التزاما لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل الذمة.
وغير هذا في كتب التاريخ كثير، مثل تعامل المسلمين مع نصارى مصر امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا فُتِحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمَّة ورحِما) -صححه الالباني عن كعب بن مالك-.
والتاريخ لا زال يشهد أنه بينما كان البابا في أروبا يحرض جيوشه على غزو المسلمين واستباحة أراضيهم، وبينما كانت الكنائس تعقد محاكم التفتيش لاستئصال المسلمين من الاندلس، كان النصارى يمارسون شعائرهم في ديار المسلمين دون تضييق ويخالطونهم في الاسواق والاموال ويرتضون الاحتكام الى المسلمين في منازعاتهم بين المذاهب المختلفة…
فلماذا لم نر الوجه العنيف لهذا التراث إلا اليوم!
أم أن سفه من يبرر جرائمه بالتراث لا يماثله إلا سذاجة من يتحرى إلباسه كل نقيصة!