متغيرات ما بعد كورونا
هوية بريس – د. إدريس أوهنا
إن منطق العقل والحكمة يقتضي ان يكون ما بعد كورونا خلاف ما قبله، فيكثير من الأمور، بعضها عام وبعضها خاص، أو بعضها جماعي وبعضهافردي، ومن هذه الأمور، التي بدا لي لزوم التنبيه عليها، بعد تأمل كبير،وقراءة متأنية للأحداث والتفاصيل المتعلقة بهذا البلاء الذي عم البشريةجمعاء ما يلي:
– تكسير عقدة المغلوبية، وتقديس الغالب، والانبهار به، وتقليده في كل شيء،فقد أبان فيروس كورونا عن كثير من العجز والضعف، والانحدار القيمي عندمن نسميهم قوى عظمى.. أقلها اعتراض سبيل حاملات الكمامات ونهبها،كما كانوا يعترضون في ماضيهم الاستعماري الأسود القوافل التجارية،وينهبون خيرات المستعمرات، ويسترقون الناس ويستعبدونهم ويعذبونهم.. منأجل رفاهيتهم المادية، وترفهم، وانانيتهم المقيتة.
– الانتهاء من تحقير الذات، والانتقال إلى الاعتزاز بالذات الحضارية،والإيمان بالقدرة على تقديم الإضافة النوعية، ليس على مستوى القيم فقط؛حيث انكشفت سوءة الداروينية الاجتماعية لدى الغربيين، القائمة على قانون: البقاء للأصلح، بتعاملهم البركماتي اللا أخلاقي مع المسنين، لصالح التعاملالحضاري الراقي لديننا، ومن شواهده في القرآن والسنة والسيرة النبوية مالا يتسع لذكره مقال مستقل، ومنها تمثيلا لا حصرا قول الله تعال:{ إما يبلغنعندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاكريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانيصغيرا }، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
” إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم“، وقوله:”ما أكرم شاب شيخالسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه“، وقوله:”إنما تنصرون وترزقونبضعفائكم“، وغير ذلك كثير.
ومن القيم أيضا التي دعا إليها الإسلام، وأعلى قدرها قيمة النظافةوالطهارة، التي تأكد لنا اليوم بالملموس أهميتها الكبيرة في حفظ الصحةوالوقاية من الأمراض.
ومن ذلك أيضا تعاليم الإسلام فيما يعرف اليوم بالحجر الصحي، حيث أمربه الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا في حالة الوباء بأحاديثصريحة واضحة المعنى وضوح الشمس في رابعة النهار، منها قول الرسولصلى الله عليه وسلم: “إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقعبأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها“، وقوله: “فر من المجذوم فرارك من الأسد” تجنبا لانتقال العدوى.
ناهيك عن قيم التكافل والتآزر، وان تحب لأخيك ما تحبه لنفسك، وغير ذلككثير.
وكذلك على مستوى العطاء العلمي، ويكفي ان أحيل هنا على رد (جلالعويطا) على تدوينة (رضوان الرمضاني) التي سخر فيها من المسلمين وعيرهم بانتظارهم للمختبرات الغربية حتى تكتشف دواء الفيروس، وانشغالهم فقط في البحث في التراث عن ذكر كرونا ليقولوا تراثنا سبق لهذا، وفي سياق الرد المفحم عليه ذكر له أسماء عديدة من الدكاترة والعلماء المسلمين والعربالمخترعين والمصنعين، والمرموقين حاليا على الصعيد العالمي، والذين لهمإسهامات تروى ولا تطوى، وتذكر ولا تنكر، وتشكر ولا تكفر، في ما يجريمن أحداث جائحة كورونا، يعترف بها العدو قبل الصديق، والقاصي قبلالداني.
– النظر إلى الحياة باعتبارها “فترة امتحان“، وإلى العالم باعتباره “قاعةامتحان كبرى“، ينجح فيه الناجحون، ويرسب فيه الراسبون، وأن معاملالنجاح الأعلى ليس فيما يقصر نفعه على الذات الفردية، بل فيما يتعدى نفعهللذات الجماعية، والأسرة الإنسانية.
– النظر إلى العالم ككل على أنه السفينة التي تحدث عنها الرسول صلى اللهعليه وسلم، حيث “أصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين فيأسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا فينصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإنأخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”
فمن كان يتبنى قبل اليوم مقولة: (أنا والطوفان من بعدي) عليه ان يعلم اليومان الطوفان إذا جاء أغرق الجميع، وأهلك الكل.
كما وجب الاتصاف بالفعالية والإيجابية، والعمل على اتقاء فتنة المفسدينوالمخربين، امرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، بكل الوسائل السلمية والقانونية المتاحة والممكنة.
– إعادة الاعتبار للفضاء الأسري ( الحوار الأسري، الحب الأسري، اللعبمع الأبناء والقيام بأنشطة جماعية وأعمال بانية داخل الأسرة) وحماية هذه النواة الصلبة من التفكك والانهيار.. فلا مسوغ بعد اليوم لتغليب الحضور فيالمقهى على الحضور الإيجابي في البيت.
– الإيمان بقدرتنا على تغيير العادات السلبية، وأننا متى أخذنا العزم علىذلك، واتخذنا القرار بوعي، تمكنا من إحداث تحول كبير في نمط حياتنا وأسلوب عيشنا، إلى ما هو أرقى وأهدى سبيلا.
– التحلي بالروح الجماعية، فإن اليد الواحدة لا تصفق وإن كانت اليمنى،وبتضافر جهود الإيجابيين الفاعلين نستطيع ان نحدث تغييرا إيجابيا في الواقع، ونرسم بسمات جميلة على وجوه المحتاجين والمحرومين.
ولنا في مساعي كثير من هيئات المجتمع المدني، ومبادرات الشباب، فضلاعن المؤسسات الرسمية، في التعامل مع مصاب كورونا، خير مثال نعتز بهونفخر، ونرفع هاماتنا بين الأمم ونستبشر.
– تنمية روح الإبداع والابتكار، على غرار ما قام به بعض المغاربة مشكورينمن اختراعات، تساعد على التعامل مع فيروس كورونا، تناقلت أخبارهاوسائل التواصل الاجتماعي، ولو أتيحت للعقول المغربية فرص التعليم الجيد، ووسائل وإمكانيات الاكتشاف والاختراع لأبهروا العالم بقدراتهم ومواهبهموعبقريتهم في كل المجالات. لكن التفاهة غطت على العبقرية، والحاجة عطلت روح الإبداع، للأسف الشديد!!
– القطع مع التفاهة والسفافة، والميولات المنحطة والمنخفضة، على المستوىالإعلامي، وعلى المستوى الفردي كذلك، فإن العجماوات والبهائم هي التيترعى في مسارحها ومراعيها غافلة عما ينتظرها من الذبح والنحر. أماالكائن المستخلف فالمفروض فيه أن ينجح في الاختبار الوجودي: من أين؟ولماذا؟ وإلى أين؟ ويقدر عواقب كل فعل، ويتحلى بحس المسؤولية اتجاهخالقه، واتجاه نفسه، واتجاه أخيه الإنسان، واتجاه الكون والحياة.
– آن الأوان لدولنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية أن تجعل الاهتمام بالعلموالتعليم، والبحث العلمي على رأس أولوياتها، وتوجه بوصلته إلى ما يعودعلى البشرية بالنفع، لا إلى ما يتسبب في خرابها ودمارها. فلا يوظف العلمالطبيعي والكوني فيما يدمر الكون والطبيعة، ولا يوظف علم الاقتصاد في مايحقق الربح المادي بعيدا عن المعايير الأخلاقية والإنسانية، وهكذا كل العلومينبغي أن تخدم مقاصد حسنة، وبذلك يؤدي العلم وظيفته في بناء حياةإنسانية، تسودها القيم والمقاصد الحضارية الكبرى من عدل وكرامةوإحسان وتكافل وتزكية وعمران.
حينها يعود الإنسان إلى إنسانيته، والعالم والمخترع إلى ربانيته، وبدون ذلكيبقى العلم قشورا لا تؤثر في حياة الإنسان ولا ترقيها، او سموما تدمر حياةالإنسان وتفنيها، وما أبأسه من علم تزيد فيه الإنتاجية المادية، على حسابالقيم الإنسانية، والحاجات الروحية!!
ومن ثم فإن إضافة البعد الإيماني والأخلاقي إلى جميع الحقول المعرفيةوالعلمية حتى الطبيعية منها والكونية، سيسهم في تطوير هذه العلوم أكثر،وتوجيهها إلى الوجهة الصحيحة التي تجعل منها علوما نافعة غير ضارة،علوما يشكر الله تعالى عليها وبها ولا يكفر؛ لأن بواعث البحث حينئذ لن تقفعند شغف المعرفة والاكتشاف وحب الاختراع، بل تتجاوز ذلك إلى كونه أمانةاستخلافية وعمرانية.
وبمنأى عن هذا المنظور فإن العلم نفسه سيتحول إلى سلاح فتاك، يجر علىالإنسانية المزيد من الويلات والمآسي والكوارث والمخاوف. ومن ذلك ما ألفتتإليه الطبيبة الأمريكية “مارسيا أنغيل“، قالت في مقال كتبته عام 2009 «أتقنت شركات الأدوية في السنوات الأخيرة طريقة جديدة وفعالة للغايةلتوسيع أسواقها، فبدلاً من تطوير أدوية لعلاج الأمراض، بدأت في تطويرأمراض تناسب أدويتها».
– على المسلمين بعد بلاء كورونا أن يهتموا بالمنطق العملي في حياتهم،فيكونوا منتجين ومبادرين، لا مجرد مستهلكين، ألم يقل مالك بن نبي فيمشروعه النهضوي إن الذي ينقص المسلم هو منطق العمل والحركة ” فهو لايفكر ليعمل، بل ليقول كلاما مجردا، بل أكثر من ذلك فهو أحيانا يبغض أولئكالذين يفكرون تفكيرا مؤثرا، ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول فيالحال إلى عمل ونشاط، ومن هنا يأتي عقمنا الاجتماعي، فنحن حالمونينقصنا المنطق العملي” (شروط النهضة، ص103)
إن المجتمعات العربية والإسلامية اليوم وإن كانت تتمتع بوجود ذهني، فإنوجودها العيني الفعلي غير متحقق، ما دامت عالة على الغرب في كثير منالأشياء، ولا سبيل لتحقيق وجودها العيني الحضاري إلا بالعمل والإنتاجوالابتكار والإبداع، وفق رؤية خاصة تجعل العمل آخذا بمقاصد الفعلالشرعية، مقدرا لمآلاته، وكم نجنح قصيا عندما نجعل من أعمالنا مجردإجراءات آلية تقنية، لا تتطلع إلى أي أبعاد مقصدية سامية.
وفي هذا السياق، واعتبارا بحدث كورونا دائما، لا بد من إعادة الاعتبارللعمل الاجتماعي الذي يتعدى نفعه للغير، والاهتمام به أكثر مما نهتم بهاليوم، باعتباره من أعظم العبادات وأجلها، لا اختزال ديننا في العباداتالشعائرية قاصرة النفع فقط، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: “أحبالناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله علىمسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه جوعا، او تقضي عنه دينا، ولأنأمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجدشهرا..”، وهو القائل كذلك: “الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه“.
آن الأوان لنقطع مع الانكفاء والانطواء والأنانيات الضيقة، وننطلق لنشاركالمحتاجين، والمعوزين همومهم ومآسيهم.. ونتضامن معهم ونتكافل؛ فإن أسعدالناس حقا من يسعى في إسعاد غيره، وتلك عقبة وجب اقتحامها، ولا رجوععن ذلك بعد اليوم.
– لا مكان بعد اليوم للضعفاء في هذا العالم الذي يقوده المجانين المهووسونبمنطق القوة وداء العظمة؛ لذلك وجب إعداد القوة بجميع أصنافها، وعلىرأسها القوة الاقتصادية، والقوة العلمية، والقوة الإيمانية والثقافية، وإلاداسونا بأقدامهم، وأبادونا عن بكرة أبينا من أجل مصالحهم.
آن الأوان للمسلمين أن يفهموا أن الله تعالى لم يخاطبهم من فوق سبعسماوات مذ نزل القرأن بقوله: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}، إلا ليحفظكرامتهم وعزتهم ووجودهم، ويوجههم إلى ما يحد من غلواء ومطامع وتوحشمناوئيهم العنصريين التوسعيين الإمبرياليين؛ فإنه لا يفل الحديد إلا الحديد،ولا سبيل لاستتباب السلام إلا بامتلاك قوة الردع والرعب المسقطة تلقائيالخيار المواجهة والحرب.
– إنفاق الدول عوض ان يتوجه إلى التسليح، وإلى بناء ناطحات السحاب،وتشجيع الفن الساقط، ومنتجات التجميل، وما إلى ذلك، ينبغي ان يتجه إلىتقوية الأنظمة الصحية، وتشجيع البحث العلمي، وتوفير بنياته وأدواته منمختبرات وغيرها.
وعلى مستوى الأفراد كذلك، فعوض ان تنفق الأموال بسخاء على الخموروالمجون، ينبغي ان تنفق فيما يقوي عضد المجتمع، ويحمي كيانه وبنيانه.
– إعادة النظر في طريقة استثمارنا لوقتنا الذي نستهلكه ولا نستثمره،واغتنام أوقاتنا في اكتساب عادات حسنة جديدة، ومهارات فنية وحياتيةمفيدة، كالقراءة، وتعلم اللغات، والمعلوميات، وحفظ القرآن وتلاوته والاستماعإليه وتدبره، وصلاة الليل، والدعاء والتسبيح والذكر، والرياضة، والأعمالمتعدية النفع، وكل ما هو نافع دنيا وآخرة.
– توثيق الصلة بالله عز وجل وتقوية الإيمان بالغيب، ولنعلم أن فيروس كوروناسواء كان بفعل فاعل او لم يكن، فإن لا شيء يخرج عن مشيئة الله العليا،ولذلك لما شاء الله تعالى، وكما لم يكن في حسبان أحد أو توقعه، دخل الناسإلى جحورهم، حكامهم ومحكوموهم، أقوياؤهم وضعفاؤهم، أغنياؤهموفقراؤهم، صغارهم وكبارهم… الكل صار عبدا لله اضطرارا، تحت قانونسننه القدرية، وإرادته الكونية.
– الوعي العميق بكون الثروة والسلطة ليستا كل شيء، وليستا طوق نجاةلأحد إذا حل البلاء وعم الوباء، فلا مجال بعد اليوم لإهمال القيم الإنسانيةوالجماعية متمثلة في التراحم والتعاطف والتعاون والتآزر والتكامل وكفالأذى عن الكون والإنسان. ولا مجال بعد اليوم لاتخاذ البشرية كبش فداءلشركات التسليح والتكنولوجيا واللقاحات والأدوية.. آن الأوان لاتقاد الوعي،ويقظة الضمير، ووضع حد للاستهلاك الأعمى، والتقليد الأمرد.