محاضرة: “معنى تجديد علم أصول الفقه” للشيخ أبي الطيب مولود السريري -حفظه الله-
هوية بريس – تفريغ الباحثة خديجة الواحدي
بسم الله الرحمن الرحيم
في واقع الأمر أن المعروف في الحديث في أي موضوع أن تأخذ المقدمات من العنوان ثم يهتدي بذلك إلى ذكر المراد، ثم يسترسل في الحديث إلى غاياته.
العنوان هو التجديد: وهذه اللفظة لابد من الوقوف عنها لاستخراج المقدمات المطوية فيها، وهذا الاستخراج اقتضاه ما سبق أن سمعته من العروض والكلام في هذا المجلس.
كلمة التجديد تستلزم أن هناك شيئا مجددا، وأنه كان موجودا له ذات، وله ماهية وكان على صورة معينة، وقد حمدناه وشكرناه فأردنا أن نعيده على ما هو عليه، وبذلك فإن لفظ التجديد يعني رد الجدة والقوة إلى علم أصول الفقه.
والعلم معروف بأنه عرض والأعراض إنما تعرض للنفوس، وبذلك فعلم الأصول فهو عرض ذاتي يقوم بنفس البشر وقد يكون في الأوراق ولكنه لا يسمى علما، إلا إذا انتقل إلى النفس واستقر فيها؛ لأن العلم فعل بمعنى مفعول كالذبح بمعنى المذبوح، فالعلم معناه المعلوم، ولذلك فإذا قلنا تجديد علم أصول الفقه معناه: إعادة الجدة والقوة إلى هذا العلم إلى ماكان عليه في سابق الزمان.
ثم نقول: بأنه موجود، موجود أين؟
موجود قائم بنفس الإنسان، فهذا هو محله، وهذا هو موضعه، فلذلك إذا أردنا أن نجدده فإنه نجدده في ظرفه وفي محله الذي كان فيه، وعلى صورته الأصلية.
ولذلك يجب أن لا نلعب بالألفاظ، فما سمعته فيما سبق ليس تجديدا هذا تغير وإزالة وتبديل، وليس تجديدا؛ لأن التجديد لا يمكن أن يكون في إزالة ماهية الشيء، وإلا فإننا سنلعب بالألفاظ ولا نقيم لها وزنا في الحديث، وواجب علينا أن نلتزم بحدود العنوان.
إذن فالتجديد معناه: إعادة الجدة والقوة إلى هذا العلم على الوجه الذي كان عليه في سالف الزمان، ولا يمكننا بأن نقول أن تجديده في الأوراق يسمى تجديدا، إذ لا قيمة لذلك ولا فائدة، بل التجديد الحقيقي يجب أن يكون في النفوس، وأن يكون نظاما عقليا ومنهجا فكريا نسير عليه في بناء الأحكام، ونسير عليه في النظر ولا نتخطى موضوعه أبدا، وإلا فإننا نصل إلى الفوضى في المواضيع.
التجديد: هو تجديد هذا العلم في النفوس حتى يقوم بها على ما عهد له في سالف الزمان، وهذا وسائله بيّنة وهو: تكوين الطلبة على ذلك الطريق الذي كان عليه السلف في هذا العلم، بحيث تجد الطالب قد بدأ بما يبدأ به المتقدمون من تعليم طرق علم الجدل، وهو الذي اختلط عند القوم فظنوا أن علم المنطق هو علم الجدل، وبين الموضعين فرق؛ لأن علم الجدل جذوره مبنية على الإيراد والإلزام والانفصال، إيراد العوارض والقوادح في الموضوع المدروس، وهو فنّ وعلم اشتهر به الآمدي والرازي، واستحسن ماكان عليه في المتأخرين العبادي صاحب “الآيات البينات في حاشيته على جمع الجوامع”.
لو أننا رجعنا إلى هذا الفنّ على حقيقته واستطعنا أن ننقله إلى نفوس الطلبة، كنا أعطيناهم منهجا فكريا في المناقشة، وهذا هو الذي يتجلى فيه النفس الأصولي، فهو تراه في الإيراد والإلزام والانفصال، هذه القوة المعرفية العلمية هي من مظاهر الاتصاف بإدراك علم الأصول على حقيقته.
ثم عندنا مسلك أخر في تجديد هذا العلم لأننا لا نحتاج أن نتحدث عن أمور وهمية ولا مستملحات، نحن نخوض هنا في أمور لا علاقة لها بالواقع، هذا علم له قواعد ومن مبادئه التأصيل قبل الكلام، ينبغي.. يستحسن.. نحذف.. نزيد..ننقص.. هل نزن الدقيق؟ هذه قضية تأصيلية، ولذلك أستغرب أن يتحدث الإنسان بالإزالة والزيادة دون أن يذكر التأصيل وهو أول مبدأ من مبادئ الدخول في هذا العلم والجميع يعلم هذا.
أول شيء يتحدث عنه الأصولي بعد ذلك يقول: الشرعية، أين هو مبدأ الشرعية؟ ثم أين هو مبدأ الواقعية في هذا الكلام؟ أنت أمام علم نقل كما نقلت الصلوات هذا هو المدعى، وهذا هو الذي يؤكده أصحاب هذا الفن دعونا من الاستنتاجات الثقافية، هذه الرسالة التي يتحدثون بأن الشافعي وضعها، هل هذا الذي وضعه الشافعي في هذا الكتاب عمل به الصحابة أم لم يعمل به؟
كل جزئية في ذلك فيها فتاوى الصحابة، وفيها فتاوى التابعين ثم اضطربت بعض الاتجاهات عند التعارض فاحتاجوا إلى الضبط في باب الترجيح، فوضع هذا العلم على هذا الوجه.
إذن: فإذا كنا نتحدث عن شيء له ماهية وله حقيقة فيجب أن نقصر كلامنا على هذا الشيء، نحن نتحدث عن الدجاج ثم ننتقل إلى البقر، ثم نذهب إلى الأشجار، ثم نذهب إلى السماوات والأرض، عندنا أصول الفقه عنوان محدد على ماهيته الأصلية، وقد عُرف بأنه العلم الذي هو كلي تستنبط منه الأحكام الفقهية، أفعال المكلف تعرض عليه ليعلم حكمها، فأين هو هذا التوسع الذي أريد لهذا العلم.
إذن: يجب أولا أن نأخذ بمقتضيات التجديد على ما يقتضيه هذا اللفظ، ونأخذ بأن العلم ليس تجديده بالإغراب والإتيان ببعض الأمور والخواطر ثم نقول: هذا تجديد، هذا يسمى خواطر؛ لأن هذا لا يسمى علما حتى يؤصل، ولا يسمى علما حتى يأخذ مبدأ الشرعية، ولا يسمى أصلا حتى يكون خاضعا لواقع هذا العلم عندها يدخل في أصول الفقه.
وعليه إن التجديد الذي أنا أعرفه والذي يتبادر إلى الذهن هو: أن نعيد إلى هذا العلم قوته، لنرى ذلك الطالب لديه نفس كنفس المتقدمين، ونرى هذا الذي يبني الفتاوى يبنيها على طريقة المتقدمين، ونرى هذا الذي يناقش هذه المسألة المعينة الفقهية (لا غير) يناقشها على طريقة المتقدمين.
ونحن نعلم جيدا أن هذا العلم قد غاب وأن الحاجة قد اشتدت إليه بعد هذا الذي ترونه من الفوضى في الفتاوى وفي تنزيل الأحكام الشرعية على الجزئيات.
لا يقال: بأن أصول الفقه يجب أن يعاد فيه النظر نظرا لتغير أحوال الناس، هذا يقوله من لم يعلم بأن أصول الفقه لا علاقة لها بأحوال الناس، الذي عنده علاقة بأحوال الناس هو الفقه وليس الأصول، فالفقه هو الذي يجب أن يكون التفقه موافقا لما نحن فيه.
وأنتم تعلمون أنه وقع الخنق للأمة الإسلامية بفتاوى التشدد، وهي على كل حال ليست شرعية وليست قابلة للشرع لأننا نعلم أن الأمر ليس شرعيا بأمرين:
أحدهما: وقوع الحرج الشديد على الأشخاص إلى درجة تهدد بقاءهم في الدين، أنت تخنق الناس ولا تجد لهم مخرجا، ولا ترفع عنهم حرجا حتى يحسوا بأن هذا الدين لا يستطيعون أن يبقوا فيه، فيوفضي بهم ذلك إلى الخروج بهذا الضغط.
الثاني: أنك تجد أن هذا الذي وقع عليه الضغط لا يخرج عن الإسلام، ولكنه يقع في مشقة شديدة لا يستطيع المرء أن يتحملها.
هذه هي الحالة التي تحتاج إلى فقه جديد، مثلا: مازال القوم يتحدثون عن المظاهرات هل هي شرعية أم ليست شرعية؟، ويجزمون ويحلفون بأن من قام بالمظاهرات ارتكب مخالفة شرعية بدون تفصيل بدون أن يتحدثوا عن المخارج الفقهية في هذا الباب.
ومعلوم عندكم جميعا أن الأفعال البدنية لا يستقر عليها حكم معين على كل حال، بل كل أفعالنا التي نفعلها تعتريها للأحكام الخمسة، فقد يكون الشيء واجبا فيصير محرما (رمضان يصير واجبا ويصير محرما)، يصير واجبا ويصير مندوبا، يصير واجبا ويصير مكروها للأحوال التي تعترينا، وأبى قوم إلا أن يبقوا حكما معينا يخنقون به الناس حتى أدى ذلك إلى هذا الانحراف، وهذا الذي وقع في المجتمع.
هذا ما يحتاج إلى إعادة النظر في الفقه وليس أصول الفقه، تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع هو الذي لسنا نعرفه ولا نحسنه ولا نعرف متى ننتقل، المقرر عند العلماء أن الوصف الطارئ على المكلف يؤدي إلى نزول آيات قرآنية توافق حاله –هذا معروف- أنني في حالة سأخاطب بآية، وعندما أكون في حالة أخرى سأخاطب بآية، والقرآن العظيم يشهد على هذا: ﴿فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر﴾، ولم يقل القرآن بأن هذا الحكم باق عليكم إلى يوم الدين، ولكن جعل لكل حالة حكما.
وعليه فإن تجديد أصول الفقه -إذا كنا الحقيقة نتحدث عن أصول الفقه- لا معنى لتجديدها إلا أن تتجدد في النفوس حتى تصير منهجا للتفكير، ونظاما معرفيا يصير عليه الناس هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: أن الفقه هو الذي يتعلق بتغير الأحوال.
ثالثا: هذه الأشياء التي تطرح هي في حقيقة الأمر أغلبها من الخواطر، وليست من الأصول في شيء، إلاّ مسألة واحدة وهو تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، هي التي يمكن أن نقول بأنها مسألة أصولية، أما هذه الأشياء التي يتحدث عنها بأنه يجب أن نوسع مفهوم أصول الفقه، ويجب أن نوسع هذه المدارك وأن نزيل هذا، ونصوب هذا، ونزيد هذا ونحذف هذا.. هذا كله كلام أظن أنه يقوله من لم يعظم حظه من هذا العلم، بل من لم يشم رائحته إلى يوم القيامة. السلام عليكم ورحمة الله.