محنة الثقافة العربية زمن الانهيار (انهيار الثقافة واستعباد المثقف)
هوية بريس – عبد الغني بن الطالب
في مقالتين سابقتين تناولت التحالفات السياسية والعسكرية في المنطقة العربية وأثرها على الاستقرار السياسي والاجتماعي.. تناولت ذلك بعين المثقف الراصد للتحولات، مما أثار استغرب أحد أصدقائي؛ كيف يتحول الأديب إلى الكتابة السياسة؟ أليس في الأدب مراح و متسع من صداع الرأس وهروبا من التحولات السياسية والانقسامات الحزبية وما يورث ضيق النفس وتعكير المزاج؟.. نعم وددت لو لم أفتح حديث القلق ولم أزاحم إلا أهل الفرح والمرح وددت لو تُركت بين كتبي أنقل إلى أحبابي ثمار العقل والحكمة، ولكنهم أطاروا العصفور الساكن في صدري فانفلت تائها يبحث عن مستقر.. ولو ترك القطا لنام. ما عاد بإمكان الأديب أن يكتب شعر الحب والحنين، فمنذ الحرب على العراق ولبنان واحتراق الربيع اعتدنا مشاهدة الأشلاء ونحن نتناول طعامنا، نشاهد القتل والدمار، نشاهد المصور يوثق لحظة السبق الصحفي والمذيع يعلن احتراق آلاف الجثث في اليمن في ليبيا في مصر … كان الغضب.. ثم الأسف.. ثم اللامبالاة. انسلخنا من عواطفنا وتصالحنا مع الموت مع القهر مع لحظات احتراق الجثث وتمزق الأشلاء.
تصالحنا مع الهموم والمصائب والرقص على الآلام استعدادا للتصالح مع القتل الجماعي .. نفرح لموت المخالفين ويفرحون لموتنا نتبادل الفرح والأحزان نتبادل الكراهية والتصنيف.. شيعي و سني، طائفي و إيديولوجي، قُطري و أممي، ماركسي و إسلامي، عربي أمازيغي .. وتطول اللائحة وتطول معها الأحزان، وتسكت كل المدافع إلا تلك الموجهة لصدور بعضنا البعض.. ضاقت النفوس فلم يعد أحدنا يتحمل الآخر:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
هذه بعض الآلام التي دفعتني للحديث في السياسة والتحزب والصراع.. فالحياد الآن يبدو بعيدا أو شبه مستحيل ولا اختيار لنا زمن الانهيار إلا المواجهة أو الركوع والنكوص.. لا ثالث للأمرين إلا الفناء في بعضهما وهنا أستحضر أزمة المثقف ومحنة الثقافة بدءا من الثقافة المُقاوِمة والمثقف الصلب العنيد إلى ثقافة الخنوع والنكوص والتزييف والاقتتال والكراهية..
فرغم ما اعترى الثقافة العربية من انقسامات واصطفافات فقد ظلت بوصلتها لأكثر من نصف قرن موحدة الاتجاه والهدف. فالمعركة واضحة والعدو مشترك لا يختلف حول ذلك ماركسي وإسلامي وقومي. كان المستهدف هو القهر والظلم والتخلف، هو إسرائيل وأمريكا والأنظمة الديكتاتورية. وكل المثقفين متشبعون بفن المقاومة بدندنات الشيخ إمام واستغاثة جوليا بطرس بالملايين.. وقصائد محمود درويش وسميح القاسم ومحمود مفلح وألحان مرسيل خليفة وروايات غسان كنفاني وعبد الرحمن منيف وحنا مينا وجبرا إبراهيم جبرا.. عالم هلامي يتناسق مع بطولات المقاومين وصمود المعتقلين.. ويحتد النقاش وترتفع وثيرة المشاركة والفاعلية فتنخرط السينما والمسرح لتنتج ثقافة مواجهة أو موازية للخط العام الذي انخرطت في تبنيه بعض الأنظمة القومية والاشتراكية. فكانت بغداد ودمشق والقاهرة وبيروت منارات للثقافة تنتج وتبدع وتقاوم حتى أصبحت رموزا تلهب حماس المتعلمين والمثقفين.. وشهدت السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ذروة المشاركة والفاعلية ووقفنا على مفكرين وأدباء كبار أسهموا بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم في بناء الوعي والنضج الثقافي.
ثم توالى سقوط العواصم المنارات عبر مراحل بين سقوط طائفي وسقوط سياسي و عسكري لننتهي إلى السقوط الحضاري، و كان طبيعيا أن نسير في هذا المسار لأننا لم نوظف الاختلاف لبناء الوعي و المجتمع بقدر ما وظفناه في الصراع بيننا، فتم بناء الحدود وهدم الجسور وانتشرت ثقافة الإقصاء والاتهام و التبخيس و ازدادت نرجسية الأحزاب و التنظيمات فسهل تسلل أصحاب المصالح إلى مواقع القيادة و التوجيه و تحولت ثقافة النضال إلى التصالح مع الواقع و الاندماج في مسلسل السقوط، كما تحولت ثقافة الجهاد والولاء والبراء إلى ثقافة التكفير والتعالي وتبرير الحكم القهري.. ونشط النقد الأخلاقي والعاطفي لتجريد الآخر من رصيده الاجتماعي في القيادة والتوجيه والمشاركة السياسية. وقبل أن نتابع هذه المحنة ونرصد تجلياتها لا بد من تتبع مراحل السقوط.
سقوط المنارات الثقافية:
وسقطت بيروت وذوى اللحن و الجمال.. ونشط الفكر الطائفي واشتد الاقتتال لأكثر من خمسة عشرة سنة لتصبح بيروت مجالا لتنظيمات سياسية وعسكرية تتلقى الدعم والتوجيه من متدخلين محليين وعالميين فتشكل وعي جديد توج بالمقاومة وإعادة تأسيس لبنان ثم حوصرت بيروت من جديد وتم إخراج المقاومة إلى تونس 1983 تمهيدا لمرحلة التحول في مسار ثقافة المقاومة وخاصة بعد مقتل الرمز (أبو جهاد) في عملية للموساد بالتنسيق الفعلي مع النظام ورفاق الدرب.. وكانت بداية التشويش على القضية المركزية.. وبدأ التحول في اتجاه بوصلة الثقافة العربية. هذا التحول مهد في بدايته للسقوط الأول للقاهرة.
بعد هزيمة 67 وسقوط الفكر الناصري ظلت القاهرة محافظة على وضعها الثقافي والريادي واستمرت الحياة الثقافية نشيطة ومتنوعة تمد العالم العربي بالإنتاج الوفير في كل المجالات، ولكن الاحتقان السياسي بدأ يكبر ويتضخم بين التيارات الفكرية والسياسية ونشط الصراع والتصنيف والاصطفاف وحتى الاغتيالات السياسية، خاصة بعد حرب أكتوبر 1973 حين دخلت مصر في البحث عن الخروج من مأزق الحرب وقررت الدخول في مبادرة السلام.. فبدأ السقوط الأول، وخرج منظرو السقوط يطالبون بإعطاء السلام فرصة في المعركة لأن العدو الأساسي لإسرائيل هو السلام فهي مجتمع لا يوحده إلا الحرب ومع السلام ستذوب أولا في خلافاتها وثانيا في المحيط العربي.. وذهبت القاهرة إلى معاهدة كامب ديفيد فتم التوقيع على السقوط الأول (1979) الذي أعقبه ظهور حدث مهم حافظ نوعا ما على صلابة المثقف واستمرار الصمود وهو قيام الثورة الإيرانية التي أصبحت فاعلا في بيروت وفلسطين وملهما للكثير من المثقفين الذين قاموا بمراجعات فكرية مما خفف من صدمة السقوط الأول الذي انتهى باغتيال السادات سنة1981. وفي الوقت الذي تشكلت فيه جبهة الصمود والتصدي اشتغلت دمشق بلبنان، وبغداد بحربها الاستنزافية مع طهران، ثم انتقلت إلى اجتياح الكويت وتهديد السعودية فكان بعدها السقوط الأول لبغداد (أبريل 2003).
بغداد مهد التحول والتجديد في الثقافة العربية وارض الصمود والنخوة العربية تحولت مع الحكم البعثي إلى مركز للاستقطاب الفكري والثقافي.. استضافت المقاومة الفلسطينية والمؤتمرات الأدبية والسياسية وأسهمت في نشر الثقافة المقاومة والمُمانعة ولكن دخول الحرب ضد إيران استنزف النظام وحوله إلى مصارع عنيف فدخل في مواجهة مباشرة مع ممولي الحرب، فاحتل الكويت وهدد السعودية وهو ما أدخل دول الخليج في التفكير الجدي بضرورة المواجهة وتحطيم ثقافة المقاومة التي تستهدفها بل والإجهاز على الحلم والعقل العربي.. فسقطت بغداد لتسقط معها كل العواصم وكل المنارات.
واستمر الاستقطاب ودخل المال الخليجي على الخط لينضاف بعدٌ آخر في بناء ثقافة جديدة زادت الصراع الفكري تأزما.. فتم تمويل جماعات موالية للخليج تلغي كل أشكال الحوار وتُحرم العمل السياسي وتدعو إلى الاستكانة وعدم الخروج على الحاكم وتم جر الشباب للجهاد وتوظيف حماسهم في معارك استخباراتية لم يكن الرابح فيها إلا أمريكا وإسرائيل. ظهر ذلك بوضوح بعد سقوط بغداد وانتفاضات الشارع العربي (2011) وتم إنشاء داعش للقضاء على أي تطور محتمل للنظام العراقي بعد صدام حسين فكان الإجهاز على كل مظاهر الوعي والثقافة وتكونت المليشيات الشيعية لتجابه التطرف بما هو أشد. وكان سقوط دمشق التي اختارت سحق المعارضة بدعم إيراني وروسي. وتورط حزب الله في المعركة ليكون السقوط الثاني لبيروت. السقوط الذي يعلن فيه الحزب عن وجهه الآخر في الصراع، ويحول معه السلاح من مواجهة إسرائيل إلى صدور الأبرياء بحجة الحفاظ على مكتسبات المقاومة.
القاهرة والسقوط الكبير:
بنجاح الثورة المصرية في إزاحة حسني مبارك تسرب الخوف إلى الإمارات والسعودية من توسع النموذج التركي في مصر واليمن وتوسع النموذج الإيراني والحركات الموالية له، فبدأ الدعم والتآمر وتوظيف المال لدعم الخصوم وتلميع الوجوه المنبوذة وتم إسقاط أول رئيس منتخب ديموقراطيا ومعه كان السقوط الكبير لكل المنارات.. بغداد وبيروت ودمشق لم تعد هذه العواصم تنتج إلا الدمار وثقافة القتل والكراهية ودخل المال الخليجي بقوة في اللعبة مدعوما بخوف من تكرار تجربة اجتياح الكويت.. وتخوف من محيط يشتعل ثورة وغضبا وتحولات كلها تصب في صالح تركيا وإيران. فكان لابد من إجهاض الثورات والدفع بالعسكر لقهر الشعوب وقمعها، وتمت محاصرة التجربة المدنية الأولى في مصر بعد ما يزيد على نصف قرن من حكم العسكر. وعاد العسكر هذه المرة بثقافة الحذاء بعد أن كانوا يختفون وراء الفكر الاشتراكي والقومي.. وأسقط الحذاء كل المنارات ودخلنا في الانهيار الكلي مع لحظة فارقة لنعيش محنة الثقافة.
لا زلت أذكر كيف تسارع مثقفو مصر ليلة الانقلاب إلى مباركة الخطوة ويومها كتبت تدوينة بعنوان (ما هكذا يا جابر) ردا على تأييد جابر عصفور وغيره من المثقفين للانقلاب العسكري وإسقاط الحكم المدني.. وكانت المجزرة الرهيبة التي أسكتت كل الأصوات حيث أصبح ميدان رابعة شاهدا على عنف وقسوة النظام المدعوم خليجيا ودوليا. عنف فتح الباب للمهرجين والمطبلين للسير في جنازة الثقافة وإغلاق بيوت العزاء. وانتقل التهريج والتطبيل خارج مصر ليشمل الكثير من الأحزاب وأشباه المثقفين الذين لم يفهموا اللحظة الفارقة فشاركوا في السقوط الكبير وانخرطوا بوعي في تدشين محنة الثقافة وإعلان الانهيار.
التحولات والتشويه:
بعد سقوط العواصم الثقافية ظهرت عواصم التآمر والتشويه ودخلت بنا إلى زمن الرداءة، هذه العواصم ترى أن ثقافة المقاومة باختلاف تياراتها وروافدها القومية والإسلامية والماركسية ليست إلا أقنعة مختلفة لعدو واحد يستهدف إسقاطها، وقد ظهر ذلك جيدا مع التيارات الفلسطينية التي ساندت الاجتياح العراقي للكويت واعتبرته خطوة تقدمية وطريقا للتحرير وكان الشعار التقدمي الفلسطيني واضحا حين أعلن أن تحرير القدس يمر عبر تحرير العواصم العربية. وفي الجهة المقابلة كان التيار الإسلامي واضحا في تحديد فلسطين أولوية أولى لا تنازل عنها.. فأحست السعودية والإمارات بالغربة داخل محيط يستهدفها عقائديا وسياسيا ووجوديا فهي أمام تغول إيراني تركي ومن تبعهما والمنطقة عامة تغلي بتغيرات غير مرغوب فيها ولم يبق أمام الرياض ودبي إلا إسرائيل وأمريكا ملاذا وحاميا من الانهيار الذي يهدد وجود إسرائيل نفسها، فتقاطعت المصالح وانفتح درب التطبيع لتبدأ الحرب المعلنة على العواصم العربية جمعاء لتغيير مسار الفكر والثقافة والانتماء.
لم يكن ليخطر على بال المثقف العربي أن يطال التزوير والتحريف كل أشكال الثقافة والإعلام وتزييف الوعي.. وأن يتحول المهرجون والطبالون إلى رموز ونجوم فيما يُلقى في السجن بكل معارض للتزييف بتهم مضحكة ومقززة.
ظهر توفيق عكاشة وأحمد موسى وعمرو أديب ولميس حديدي وأماني الخياط.. يشكلون طابور التزييف والتطبيل فسمعنا منهم ما لم نسمعه من إبليس في كل الكتب المقدسة.. لا منطق ولا حقائق ولا احترام للمتلقي. ولم يتوقف الأمر مع طابور الإعلام بل انضاف إليه الفنانون والأحزاب حتى شمل الحزب السلفي (حزب النور) الذي كان حاضرا في تنصيب السيسي.. وسقطت أسماء وازنة سياسية ودينية وثقافية. فسمعنا سخافات من مفتي الجمهورية علي جمعة ورؤساء الأحزاب والجمعيات وانخرط المناضلون القدامى في لعبة تصفية الحسابات لإزاحة خصومهم التقليديين ليمتد العداء إلى سائر التيارات في الوطن العربي ويصبح النموذج والمرجع هو ذلك المثقف الطبال في جوقة العسكر، ولتصبح أكثر الأحزاب رهينة المال الخليجي تعلن بوضوح عن تحالفات غير وطنية ولا مبدئية ومع الجميع تنهار الثقافة وتعلن إفلاسها.
ومن المضحكات المبكيات ظهور عواصم الخراب والتشويش بعد سقوط العواصم الثقافية، فأصبحت دبي والرياض وتل أبيب فاعلة وموجهة لثقافة الانهيار والاستسلام ثم التطبيع الذي أصبح مفخرة للمتعالمين والمناضلين الجدد وسرى هذا التوجه ليسقط وجوها كنا نحسبها أعلاما لثقافة الصمود والمبادئ أمثال مصطفى بكري وجابر عصفور والكثير من قادة الأحزاب التقليدية (قومية ويسارية) وهوى كل شيء سريعا حتى وجدنا خطيب الجمعة في الكعبة يدعو على دولة مخالفة لبلده بما كان يدعو به – من قبل – على إسرائيل. كما وجدنا مفتي السعودية يحرم الاحتفال بعيد المولد النبوي وعده بدعة بينما دعا إلى الاحتفال بعيد الاستقلال لأنه يذكر الأمة بأمجادها؟! وأمتعنا هذا التوجه الجديد بآراء مضحكة تقدم السيسي مرسلا من الله لإنقاذ مصر وأصبح الحزب السلفي في مصر يكرم الراقصات وفي ليبيا يقاتل إلى جانب حفتر الحليف الاستراتيجي لإسرائيل فيما تم تشديد الحصار على عزة وتم البدء في بناء سور بين القطاع وسيناء لتركيع الفلسطينيين وإسقاط حماس التي تحولت في الوعي الثقافي الجديد إلى تنظيم رجعي ظلامي يهدف إلى إسقاط إسرائيل الدولة المتحضرة والنموذجية في المنطقة، ومن وجهة أخرى يرفض الاندماج في صفقة القرن..
ماذا أنتجت تقافة الانهيار:
الملاحظ قبل تحديد النتائج أن انهيار العواصم الثقافية كان عبر مراحل أسميناها السقوط الأول والسقوط الثاني، فالعوامل التي أدت إلى السقوط الأول لم تكن قوية كما أنها لم تكن مدعومة خارجيا بينما السقوط الثاني كان قويا تحت قيادة عسكرية وانخراط المناضلين القدامى ودعم مالي وسياسي خارجي. وهذا يوضح طبيعة السقوط وقوته ويسهل رصد النتائج وتحليل الظاهرة.
قلنا سابقا أن القيادات العسكرية في الخمسين سنة الماضية قبل الربيع العربي كانت تختبئ وراء الفكر القومي والاشتراكي مما أمدها بشرعية سياسية وجلب لها تعاطف الجماهير، كما جلب لها العداء الخارجي فتولد عن ذلك ثقافة داخلية مقاومة صامدة أسندت المثقفين وأشركتهم في المعارك السياسية والتحريرية.
وفي المقابل جاء الانهيار الثاني – خاصة في مصر-على أيدي العسكر والمال الخليجي عاريا من أي فكر أو عقيدة إلا القهر والحذاء العسكري الذي أرغم الجميع على الرضوخ والاستسلام أو الاعتقال والتهميش. فلم يستثن إسلاميا ولا يساريا ولا يمينيا ولا محايدا، وانتشرت الاعتقالات والاختفاء والتهميش في كل المنطقة وأصبح القهر والظلم والتجويع سمة للمرحلة.. لتنتشر مع كل ذلك ثقافة الخنوع والركوع وتزوير التاريخ والدين وهدم المنطق والقيم الأخلاقية والاجتماعية وظهرت طبقة من المنتفعين والساديين والمهرجين ينفخون في كل خطوة نحو القهر السياسي والاجتماعي ويدعمونها بتفسيرات غريبة تعتمد منطق الانهزام وتستند إلى ظلمات التاريخ وفتاوى فقهاء التطبيع.
ودخلنا زمن الانهيار الذي يندفع بقوة نحو الدول التي لم يشملها الخط الانهزامي وعملت على تحصين نفسها من الشتات والخراب. وتبقى المشكلة في المنتفعين واللاهثين وراء التطبيع والمال الخليجي والايديولوجيين والأقليات والعرقيين.. الذين يجدون في الانهيار فرصة لهم للانتفاع وتبرير وجودهم الهش. نحن إذن أمام مفترق طرق؛ إما الصمود في وجه التركيع وحفاظ المثقف على كرامته أو على الأقل على حياده أو أن يصبح طبالا في جوقة الأنظمة الديكتاتورية يبرر القهر والظلم أو مهمشا طريدا..
باختصار أي قراءة لا تستحضر الجو العام الخارجي والداخلي ستظل حائرة أمام التحولات الخطيرة التي نمر بها؛ فكل التحالفات والصراعات الحالية في المنطقة العربية لا يمكن فصلها عن بناء الشخصية وثقافتها وتوظيف المثقف ليكون فاعلا في الانهيار الذي يسبق التطبيع والاستسلام والتنكر لتاريخنا وحضارتنا ووعينا. ومن الضروري أن نؤكد أن المثقف لا يملك أن يكون محايدا في معركة المصير والوجود، لأن اللامبالاة والسلبية تؤسس وتقود للانهيار الشامل، ولنا في مصر والعراق وسوريا.. آية للمستبصرين.
هذه الصورة القاتمة لانهيار الثقافة والفكر والمجتمع ليست قدرا نهائيا محتوما ولكنها توجه يمكن مقاومته وتغييره بثقافة مُواجِهة يولدها الإحساس بالقهر وسقوط الذات، وهو ما يبدو قويا وعنيفا ومتجددا لا يقبل الرضوخ والاستسلام وينمو وسط القتل والتشريد ومخيمات اللاجئين ومعاناة المهجرين.. وهذا ما سنرصده في مقالة أخرى إن شاء الله تتناول مسار التحولات الثقافية من القهر إلى البناء، من الانهيار إلى الفجر المرتقب.
مقالة رائعة ،تستحق ان تقرأ مرات عديدة ،لدقة وصفها و تشخيصها ،ثم استشرافها لافاق مستقبلية .