مخاطر غياب رسالة المسجد على الدولة والمجتمع
هوية بريس – بلال التليدي
ثمة سؤال كبتته كورونا والإجراءات الاحتياطية لمواجهتها، مع أن طرحه والتفاعل معه حيوي، وبات يطرح التأخر في معالجته خطرا على المجتمع واستقراره.
ليس ثمة شك أن الدين والتدين كان الضحية الأكبر لهذه الجائحة، ورغم الإجراءات التي اتخذتها الدولة في الإبقاء على الأذان وإعلانه من المساجد وعبر قنوات القطب العمومي، إلا أن ذلك لم يكن في الجوهر سوى المحافظة على البعد الرمزي في التدين خوفا من موت الشعائر أو اضمحلاها على الأقل في شعور الناس.
صحيح أن الدولة، لجأت بعدها إلى فتح بعض المساجد التي تتمتع بمساحات كبيرة بإجراءات صارمة تضمن التباعد الاجتماعي، لكن، ذلك، لم يحل مشكلة تراجع التدين التي تسببت فيه كورونا، وبداية انحساره حتى في نفوس المعتادين على المساجد المقبلين عليها، فللتدين فلسفة، شرح الشاطبي في موافقاته، دوائرها وحلقاتها، حين اعتبر الصلاة في المسجد قاعدتها الرئيسة، بل قاعدة الحفاظ على الدين برمته.
لا نريد الدخول في الخطاطة الشاطبية التي فسر بها قاعدة الحفاظ على الدين ودور الحفاظ على الصلاة في المسجد في الحفاظ على الدين، لكن، نود الإشارة في المقابل، إلى السوسيولوجيا الدينية المهتمة بدراسة التدين، والتي تركز على جملة مؤشرات تقيس بها تنامي الإقبال عليه في المجتمعات أو تراجعه، منها دراسة الصلاة في المسجد ووتيرتها وانتظامها، فضلا عن ملاحظة إعداد المقلبين على المساجد في الصلوات الخمس وصلاة الجمعة، وعلى صلاة التراويح في شهر رمضان.
اليوم تعاني السوسيولوجيا الدينية الدارسة لمستويات التدين ومؤشراته أزمة في المجتمعات العربية، فالمساجد المفتوحة لا تعطي أي صورة عن واقع التدين، والمساجد المغلقة فضلا عن منع إقامة صلاة الجمعة، في المقابل، تعطي صورة سلبية عن تغييب أهم مغذيات التدين ومحفزاته.
على أن الخطورة التي يمثلها تراجع التدين، لا يمكن أن تقرأ من زاوية التعبد الفردي، والآثار النفسية التي يعانيها المحروم من أداء الصلاة في المساجد، فهذه المعاناة سواء التي يتم التعبير عنها أم التي تبقى مضمرة، تؤشر في جانب من الصورة على مستوى من مستويات التدين، لكن المشكلة تظهر صورتها بشكل أكثر وضوحا، حينما ندرس أثر غياب الرسالة المسجدية في تراجع منظومة القيم، فالمسجد، سواء عبر الصلوات الخمس، أو عبر صلاة الجمعة، يؤدي، إلى جانب الوظيفة التعبدية، وظيفة تخليقية مجتمعية مطردة، يصعب تعويضها، وذلك لسببين اثنين، فقدان الفضاء المكافئ (المسجد)، والثاني، غياب الإقبال الذي يوفره الفضاء، فالذي يذهب إلى المسجد من أجل تشرب القيم الروحية والخلقية، يدخل المسجد وهو مهيأ بالكامل لاستقبال الرسالة المسجدية.
سنكون مضطرين للإقرار أنه لم يحدث في السابق أن حل بالتدين مثل هذا التحدي الخطير، الذي يوشك أن يحكم على كثير من مؤشراته بالاندراس، وهو ما يشكل خطرا على الفرد والمجتمع والدولة أيضا، فتراجع التدين، والقيم، ستكون له كلفة خطيرة، يصعب تحملها في المدى المتوسط فضلا عن المدى البعيد.
لا أحد اليوم ينكر رسالة المسجد في نقل القيم إلى المجتمع وتشربها، وبعث الوازع الديني المحفز على قيم المسؤولية والقيام بالواجب، والمزكي لقيم التضامن والتعاون، والمشجع للسلم والتعايش بين مكونات المجتمع، والداعم لثقافة العفو والمصالحة، والمحصن للمجتمع من الجريمة. حين تضيع هذه الأبعاد، أو تتقلص بتقلص الدافع إليها، يفقد المجتمع أهم مقومات وجوده وحيويته وتماسكه واستمراره.
على أن ضعف الرسالة المسجدية لا يقتصر أثره على البعد الاجتماعي، بل يمتد ايضا للمجال السياسي، إذ يمكن أن يؤثر سلبا – كما في حالة المغرب-على المشروعية الدينية للدولة، ويعزز من القناعات العلمانية التي لا تولي اهتماما للدور الديني الجامع للأمة، ولا لأثر الشرعية الدينية في توحيد المجتمع ونظم السياسة.
ولذلك، تقديري أن من أولويات الدولة في هذه المرحلة أن تنتبه إلى خطر تراجع التدين وأثره من جهة في تنامي الجريمة، وتراجع قيم المسؤولية والانضباط الاجتماعي، ومن جهة أخرى، في تنامي القيم العلمانية التي تبعد المعامل الديني من حقل السياسة ونظم المجتمع، وتعطي السند لاستهداف المشروعية الدينية للدولة.
أتمنى أن ينتبه المسؤولون عن تدبير الحقل الديني لأهمية مراجعة الموقف من فتح المساجد كلها، وعودة صلاة الجمعة، بالتفكير في صيغ تحترم التباعد الاجتماعي وتضمن تطبيق المقتضيات الاحترازية للوقاية من الجائحة.