مدخلٍ إلى تاريخِ علمِ أصـولِ الفقهِ بالمنطقةِ الشماليّةِ
هوية بريس – أ.د.قطب الريسوني
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فمنذُ تَحَنُّثي في محرابِ علمِ أصولِ الفقهِ، أغالبُ شوقَهُ، وأعاني البحثَ فيه، والهِمَّةُ تلتفتُ بِجُمْعِها إلى الكتابةِ في تاريخِ هذا العلمِ بالمنطقةِ الشماليَّةِ المغربيّةِ، وترنو إلى جديدٍ لم يُنسَج على نوْلِهِ، وقد صرتُ -بعد أشواطٍ بَطينَةٍ من جولانِ القلمِ في فنونِ الشَّريعةِ- أعافُّ المكرورَ والمجترَّ، إلا ما أُحمَل عليه من التَّأليفِ (الدِّراسيِّ) الذي تجاذبهُ النَّاسُ وتعلَّقوا به على أنحاءٍ من المعالجةِ، ومع ذلك أجدني حريصاً على تَحْلِيَتِهِ بالفوائدِ والعوائدِ.
والحقُّ أنَّ التَّاريخَ العلميَّ لشمالِ المغربِ لم يظفرْ بعنايةٍ مُثلى تكافىءُ جهوداً مبرورةً لعلمائِهِ في التَّصنيفِ والإقراءِ، ورفعِ قواعِدِ التَّعليمِ الشرعيِّ بالحواضرِ والبوادي. وما زالت صفحاتٌ من هذا التَّاريخِ محجوبةً في مطاوي النِّسيانِ؛ لتراخي هِمَمِ الباحثين، وصعوبةِ التهدّي لتراجمِ المغمورين من شيوخِ الدَّرسِ؛ بل إنَّ مِنهم مَن آثرَ العزلةَ في فِجاجِ القرى، وحجبَ عن النَّاسِ أخبارَه وأطوارَه، وإذا التمستَ منه ترجمةً كَعَّ وتَعلَّلَ بأنَّه طويلبُ علمٍ لا يستحقُّ ذكراً بين الأماثِل، ومثله يخشى -في الغالبِ- رياءَ العملِ، أو يعزفُ عن بهارج الشّهرةِ! وإن عجبت فاعجبْ أنَّ بعض أبناء الأعلامِ يضنُّ على أرباب البحثِ بما يسعف على الاعتناءِ بتراثِ آبائِهم، وكشفِ نبوغِهم المدفونِ.. وهذا الضنُّ -لو علموا- ضربٌ من العُقوقِ والجُحودِ!
ولعلمِ أصولِ الفقهِ تاريخٌ منسيٌّ مهتَضَمٌ بشمالِ المغربِ، لا نعلم من أخبارِهِ إلا ما تجودُ به كتبُ التَّراجمِ من إشاراتٍ إلى علماء أقرأوا علمَ الأصولِ، أو أجروا قلمَهم في التَّصنيف فيه، ولا تشذُّ عن هذا الوضع كبرياتُ الحواضرِ كتطوانَ وطنجةَ، مما يستدعي -وجوباً- التَّشميرَ عن ساعدِ البحثِ في التَّاريخ الأصوليِّ للمنطقةِ الشماليّةِ، وتجليةَ سُهمةِ أبنائها في حِلقِ الدّرسِ، وفنونِ التَّصنيفِ، وفيهم مَن أوتي من سَعةِ المُنَّةِ، وانفساحِ الذَّرع، ومطاوعةِ القلمِ، ما يستحقّ به التَّعريفَ والعِرفانَ معاً..
ومن المدنِ الشَّماليَّةِ التي نُكب تاريخها الأصوليُّ، وأهمل دور علمائها في الدَّرسِ والإقراءِ: شفشاون، والقصر الكبير، وقصر المجاز، وأصيلا، والعرائش، ووزان، والناظور، والحسيمة، وكنت أمنّي النَّفسَ بمادّةٍ إخباريَّةٍ تُغتَنَمُ من كتابِ (مشاهير علماء المعاهد الدينية بمدن شمال المغرب)، وتُسْتَثْمَرُ في إضاءةِ مساربَ من التَّاريخِ المنسيِّ، لكنَّني لم أظفرْ إلا بإشارتين لا شِبعَ فيهما ولا رِيَّ!
وفي غمراتِ هذا الإهمالِ، غدا من الواجبِ الكفائيِّ كتابةُ مدخلٍ إلى تاريخِ علمِ أصـولِ الفقهِ بالمنطقةِ الشماليّــةِ، يكون تذكيـــراً للباحثيـــن بالنّبــوغِ المغربــيِّ لأبنائها، وتحريضاً لهم على استيفاءِ القولِ في معالم هذا النّبوغِ، وارتيادِ مجاهيلِهِ؛ إذِ المأمُّ استثارةُ الاهتمامِ، وتنبيهُ أربابِ الأقلامِ على فرضٍ بحثيٍّ مهضومٍ، أما الاستقصاءُ والإيعاءُ فمطلبٌ لا تفي به إلا الرَّسائلُ الجامعيَّةُ، وهذا المدخلُ بابٌ صغيرٌ يدلفُ منه الباحثون لاستِتْمَامِ العمارةِ وتزيينِها.